السبت، 22 فبراير 2014

كيف نجذب الملل إلى حياتنا؟

***كيف نجذب الملل إلى حياتنا؟***
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد له وحده، وصلاته وسلامه الدائمين على نبيه محمد بن عبدالله وآله وصحبه أهل المكارم.
أما بعد.فإن الشعور بالملل والسأم هو طريقٌ يجر نحو الهموم القاتلة، والتي تمرض النفس والفكر معًا، فمرض النفس لا يشفيه حقنة أو قرص دواء، وهو يتغلل داخل النفس، فيمنعها النوم، ويمنعها من اتخاذ القرار المناسب والتفكير فيه، وقد يمنعها من الأكل والشراب.
وبحكم أن الملل تجربة مارسها بعض الناس، وظلت كيفيتها غائبةً عن الأكثرين، وبحكم أن الشكاوى تكثر من الملل مع قرب الإجازات، وأثناء الدوامات، وفي كل الأوقات.
فقد أحببت أن أكتب في هذه الخاطرة بعض الأسباب التي تجعلنا نقع في الملل، بل نغوص في أعماقه، ولقد استقيت هذه الأسباب من تجربة شخصية، ومن عشرات التجارب للآخرين.
والحق أن كثيرًا من الناس -برأيي- يتجهون نحو الملل عالمين بذلك أم لم يعلموا، مريدين ذلك أم لم يريدوا، إما بسبب أنهم يعلمون أنهم سيصلون إلى الملل بتصرفاتهم، أو أنهم يسيرون في الطريق نحو المجهول، كسفينةٍ تخبط عشواء في البحار لا تدري أين تلقي بها الأمواج.
فإن كنت ممن يريد -فعلاً- أن يجرب الملل ويتعمق فيه، فأتمنى أن تقرأ هذه المقالة، وتشاركني رأيك فيها أيضًا إن كنت من أصحاب التجربة والخبرة في الشعور بالملل والسأم.
وأرجو أن تركز ناظريك على كل خطوة أذكرها لك، فإن الخطوات نحو الشعور بالملل ليست كثيرة، وبعضها ممتع ومسلٍ. لذا فلا تتذمر من طول الطريق، إنه مسافة قصيرة حتى تصل إلى الملل والسأم.
والآن هلموا لنرى ما هي الخطوات المؤدية نحو الملل؟
1-لا تغير عاداتك القديمة ومارسها باستمرار. عاداتك التي تصنعها بيدك هي من إبداع عظيم يستحق أن تحتفي به كل يوم، وأن يكون جزءاً من برنامجك اليومي، كيف لا! وأنت قد أمضيت وقتًا طويلًا وبذلت جهدًا ليس باليسير حتى تعتاد هذه العادات وتروض نفسك على قبولها.
أنصحك ألا تبتكر عادات جديدة، ابق على نفس عاداتك القديمة حتى ولو كانت سيئة، فليس بالإمكان أحسن مما كان، وإن الوقت الطويل الذي ستقضيه أثناء ابتكار وخلق عادة جديدة، لهو أجدر أن تجعله في تعميق وغرس عادتك القديمة باستمرار.
هذه الخطوة الأولى من خطوات الوصول إلى الملل، قد تبدو صعبةً في البداية، لكنها تصبح لينةً سهلة ميسورة مع التكرار.
2-لا تطور مهاراتك. مارس الشيء كما تتصوره ولا تحاول أن تطوره أو تغيره للأفضل، فالبقاء (مثلاً) داخل القرية الصغيرة التي اعتدتها وحفظت شوارعها وجدرانها، خيرٌ من شق الطريق والمضي نحو مدينة جديدة سواءً كان ذلك لسياحةٍ أم لعلمٍ أم للعلاج.مثال آخر: أنت قد اعتدت على تصور أن النت وسيلة للتسلية فقط، وليس للوصول إلى المعلومات. فاليوتيوب (YouTube) –مثلًا- موقعٌ يضم ملايين مقاطع الفيديو.
ولكنك ستظل تستعمله لمقاطع التسلية والكرة، والمسلسلات، ولن تبحث فيه عن مقطع مهم يفيدك في تخصصك العلمي، أو يعطيك معلومة جديدة لم تكن لتدركها من قبل، أو يعلمك مهارة في الحاسب.
وهكذا في أي شأن من شؤون الحياة، لا تتطور وتتغير، بل ابق كما أنت تجرب الأمر على ما هو عليه، وتخشى من عواقب المغامرة.
3-لا تخطط أو تجدول وقتك، فوقتك واسعٌ جدًا، ويمكنك أن تنفذ فيه عشرات النشاطات، لماذا تقيده وتجعله محصوراً بين أعمدة وصفوف؟ إن صورتك الذهنية عن الوقت ليست هي أن الوقت سيلٌ متدفقٌ إذا لم تضبطه وتتحكم به، فإنه يخرب البلاد ويقتل العباد. بل صورة الوقت الذهنية أنه كالحيوان البري، إذا حصرته في قفصه، فإنه –هكذا- ممنوع ومحبوس عن الإبداع.
في حين لو كسرت أغلاله وجدرانه المحيطة، وألقيته في ذلك الأفق الفسيح؛ فإنه يبدع ويعمل وينشط.
4-لا تقرأ، فإنما القراءة للمناهج الدراسية وحسب، وما غير ذلك فهو غير مهم. يجب أن تقضي وقتك في قراءة رسائل الواتساب الطويلة والتي تنشر الشائعات (الأخبار المكذوبة)، والمنكرات (السب والشتم والغيبة وغيرها) والمغالطات (المعلومات الخاطئة)، وتمضي وقتك في قراءة أخبار اللاعبين والفنّانين وغيرهم، ويجب –أيضًا- أن تتقاعس عن قراءة كل ما ينفعك أو يزيد علمك.
وبالنسبة للقرآن، فأنت ستقرأه بين الجمعة والجمعة، تفتح المصحف على سورة الكهف، وتكرها كرًا وتهذها هذاً، وتقرأها من غير تدبر، ثم تختم في رمضان الختمة السنوية، وهكذا فأنت لا تستطيع الثبات على وردٍ يومي من قراءة القرآن لأنك مشغولٌ جدًا، فلا تستطيع أن تتنفس من زحمة الأشغال وتدفقها.
5-أدمن وسائل التواصل الاجتماعي، فعالم التواصل الاجتماعي جميلٌ جدًا، وهو شبيهٌ بالأحلام التي نعيشها، والتي ليس لها حد تتناهى إليه، ونتواصل فيه مع من نشاء، حتى لو فرّقتنا المسافات وكان السن حاجزًا بيننا.
هذه الخطوة الخامسة من خطوات الوصول إلى الملل. وهي من أهم الخطوات وأعظمها خطرًا، وذلك لأنها تقربك إلى الملل بدرجةٍ لم تكن عند الأوائل، فهي وسيلة حديثة مميزة، ويجب أن تُستَثمر جيدًا في رحلة الوصول إلى الملل.اغرق حتى النخاع في التواصل الاجتماعي، وحاول أن تكون أخطبوطًا ذا أذرعةٍ ممتدة في كل مكان، وفي كل قُطرٍ ومصرٍ. لك وجودٌ حقيقيٌ في ساحات الانترنت، ووهميٌ في واقع الحياة. وكلما زادت ساعات ولوجك في مواقع التواصل الاجتماعي، اقتربت أكثر من الوصول إلى الملل وتحقيق أعلى الدرجات في السأم والكآبة.
ولا تخف، فستجد الكثير من البطّالين والعاطلين، ممن ينتظرونك على قارعة رصيف النت. ستجد العشرات، بل المئات من التائهين. اقترن مع أحدهم، ووسع علاقاتك مع الآخرين.
6-أجِّل مهامّك وواجباتك. خدعوك فقالوا: ((لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد))، فلماذا النهي عن تأجيل أعمالنا ما دمنا قادرين على تنفيذها لاحقًا؟ لماذا يجب على الطالب أن يذاكر الآن لاختبار الغد ما دام يستطيع السهر لاحقًا للمذاكرة؟ لماذا نشغل أنفسنا باللحظة البعيدة؟ كرّس جهدك ونظمه لتراكم الواجبات لاحقًا. فأنت تمتلك قدرة هائلة وكبيرة على تنفيذ أكبر قدر من الواجبات في مدة زمنية قصيرة، بدلًا من إنهائها في وقتها. وإن استطعت تأجيل واجبك حتى الوقت بدل الضائع فهذا أفضل وأفضل.
إنك لن تستطيع لجم نفسك في هذه الدقائق القليلة عن تصفح النت، أو ممارسة هوايتك، فالأفضل أن تنتهي وتلتهي بهوايتك، ثم تبدأ بعدها بعملك. ولا بأس في ذلك حتى وإن تأخرت البداية قليلًا.وهذه الخطوة السادسة ذات شأنٍ عظيمٍ في الوصول السريع نحو الملل، فلا تستهن بها.
7-ابحث عن أصدقاء يحملون نفس الاهتمام. لست أنت الوحيد الذي يريد البحث عن الملل والوصول إليه، هناك المئات بل الآلاف سيبدؤون رحلتهم عمّا قريب، كن رفيقاً لهم في سفرهم، فوجهتكم واحدة، وصل إليها ملايين البشر من قبل، ولا تزال الطائرات تنطلق إلى هناك، وتبحر السفن، وتتحرك السيارات والدواب بأشكالها وألوانها تحمل المسافرين نحو الملل.ابحث عمّن يرافقك، ويشد أزرك، ويقويك وأنت راحلٌ إلى الملل متوجهٌ إليه. ابحث عن شخصٍ يؤنسك طوال الطريق. هذه الخطوة –باختصارٍ- تعني (ابحث عن الفارغين والعاطلين) لأن هؤلاء غالبًا أصحاب تجربة وخبرة مع الملل، وهم خير دليل يوصلك نحو الملل، وابتعد ما استطعت عن الناجحين، لأن هؤلاء سيبعدونك عن الملل.
8-تذكر ماضيك السعيد وابتعد عن [رؤية] واقعك. حاول دائمًا استدعاء لحظات الماضي عندما تواجه تغييرًا محتومًا، وابتعد عن رؤية الواقع الذي أنت فيه. البس نظارةً سوداء تحجبك عن محاسن واقعك، حتى تكثر التشكي والتسخط، وتمني العودة للماضي. فإذا انتقلت –مثلًا- من حيٍ قديم إلى حيٍ آخر، فتذكر باستمرار أصدقائك هناك، واجعلهم شغلك الشاغل، وانظر لحيك الجديد على أنه ابتلاء ومصيبة، ولا تحاول أن تستكشفه أو تنظر للمحاسن التي تميزه عن حيك السابق.
سيقطعك استدعاء لحظات الماضي -التي لن تعود- عن حاضرك، ومن ثمَّ فإنك ستحيا في أوهام تلد آلامًا وتقتل آمالًا.وسيغيب عن بالك وقتها، أن واقعك سيصير يومًا ما ماضيًا لك، فهل تريد أن تجعله مثمرًا أم مقحلاً؟!
هذه الخطوات -باختصارٍ- هي زبدة الموضوع وخلاصته، وهي سهلة لمن وُفق إليها. وستلاحظ أنك تنسجم معها بسرعة، وستصل إلى الملل، بل -أبلغ من ذلك- وستجد أنك صرت شاكيًا من الملل.
ولست –بالطبع- أول من يصل إلى الملل، فقد سبقك المئات والآلاف إليه، على اختلاف سرعتهم وجهدهم.ستداهمك الأحزان والهموم –بعد الملل الطويل- وستجد أنك قد تأخرت في حياتك، وأنك قد اعتدت الفشل وألفته.
وستجد –بعد الملل الطويل- أن بعض أقرانك -ممّن كنت تلعب معهم وتمرح- قد سبقوك وتفوقوا عليك.
وستجد –بعد الملل الطويل- أن علاقتك مع الله قد فسدت وساءت، وأنك بدأت تغفل تماماً عن ذكر الله وعبادته.
وستجد -بعد كل هذا- أن عمرك قد ضاع وأنت لم تحقق شيئاً مفيداً في حياتك.
وستدرك أخيرًا أن فشلك في إدارة وقتك، قد أنتج لك المتاعب والآلام، والضغوط النفسية المتكررة.وكل ما ذكرته من خطوات هي واقعٌ عمليٌ نراه ونحسه في حياتنا وحياة الآخرين.
فهل آن لنا أن ننزجر ونتوقف عن قتل وقتنا بهذه الطريقة؟وهل آن لنا أن ندرك أننا مسؤلون أمام الله عن وقتنا كيف قضيناه واستثمرناه؟ أفي باطلٍ بنيناه وشيّدناه؟ أم في الحق زرعناه؟ أعاننا الله وإياكم على استثمار أوقاتكم في كل خيرٍ ونفع.

البراء بن محمد
يوم الأربعاء 19/4/1435هـ
19/2/2014م بين الظهيرة والعصر.
الرياض

الأربعاء، 12 فبراير 2014

بين لحظة التغيير والتوبة

                                                         (بين لحظة التغيير والتوبة) 
                                                         بسم الله الرحمن الرحيم
 بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبيه الكريم.
أما بعد..
التوبة إلى الله والعودة إلى صراطه المستقيم موضوع مهم تناوله القرآن الكريم وسنة النبي عليه الصلاة والسلام كثيرًا، وكذلك أورده العلماء في مصنفاتهم، بل صنف بعض العلماء كتبًا خاصة في ذلك.
وسأحاول –في هذه المقالة السريعة- النظر إلى التوبة من منظور مختلف قليلاً وربطها بواقعنا المعاصر، لأن الدين مرتبط بالحياة لا ينفك عنها بحالٍ من الأحوال.
والوعظ والتذكير بالله يكون أقوى أثرًا ومفعولًا إذا أحسن رُبِطه بحياة الناس، فيُذكّرونَّ أن حياتهم الدنيا ليست بمستقيمة –أصلًا- من غير اتباع سنن الله وهديه.
وعندما ينحرف الإنسان عن مساره الصحيح الذي كان يسير فيه، فإنه يحتاج إلى علامات وإشارات تذكره بأنه يسير في المسار الخطأ، وكلما ابتعد الشخص عن مساره فإن وصوله إلى هدفه وغايته يتباعد طرديًا مع كل متر يقطعه بعيدًا عن مساره.
ومع ذلك كله فإمكانية العودة وتصحيح المسار موجودة، ويُبذل لأجلها مجهودٌ كبير، ويُقضى لإدراكها وقتٌ طويل، وهو في النهاية ضريبة الإهمال والتفريط.
ومن رحمة الله بعباده أنه يسّر لهم العودة وتصحيح أخطاءهم مهما كانت جسيمة. وطريق ذلك موجود ميسور وإن جهله الإنسان أو تجاهله، وهو (أي: الطريق) يمتد ويوازي الإنسان حتى ينتهي بهلاكه ووفاته، وحينها ينتهي الطريق.
التغيير الحقيقي والإيجابي في حياة الإنسان يبدأ خلال أي مرحلة عمرية وليس محددًا بزمان، بل هي لحظة تشتعل فيها نار الحماسة والإرادة ويصاحبها وقود الإصرار والعمل، ويقودها نور الأمل.
ومتى تلاقت الظروف المناسبة فإن التفاعل حادثٌ ونتيجته خيرٌ وبركة -بإذن الله-.
وأول ظرف من ظروف التغيير هو الإدراك، الإدراك الذي يكون غائباً عن الذهن لفترة -طالت هذه الفترة أم قصرت- ويحل محله الغفلة والشرود، فيقع الشخص في الأخطاء ساهيًا لاهيًا ويبتعد عن هدفه غيرَ مبصرٍ لما يجري حوله.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن))[1].
ولهذا الحديث دلالته اللطيفة، وهي أن المؤمن يغيب عنه إيمانه بالله لفترة أثناء مزاولة الخطيئة، ويغلب صوت نفسه الأمارة بالسوء على مشاعره وإيمانه الصادق بالله، فينقاد لشهوته ويغيب عنه فداحة الخطأ الذي قام به.
وهكذا فإن أي شخص انشغل قليلًا بالملهيات على جانب الطريق نحو هدفه، فإنه يتأخر ويتقهقر عن الوصول لمبتغاه، وكل دقيقة يمضيها في بعض هذه المشغلات، سيقضي ضعفها أثناء الطريق حتى يعوّض النقص الموجود.
وحتى يعود هذا الإدراك فيجب أن يقوم أصل العزيمة والإرادة في النفس ولو كان ضعيفًا، فإن النار أصلها شرارة صغيرة تكبر وتكبر، حتى تكون شعلةً ولهيبًا ينفث دخانه في الآفاق.
وحتى يعود الإدراك فيجب أن يكون الهدف نصبَ العين، وقبلتها في كل لحظة تطرف فيها العين. فيكون الهدف كالمنارة الكبيرة التي ترشد السفن في الليل، أو كبقعة الضوء البعيدة في ذلك النفق الطويل المظلم، فمهما تأخر عنها الشخص أو تشاغل، فإنه لن ينساها تمامًا لأنها نجاته.
الظرف الثاني: وضوح الرؤية
عندما يكون هدف الشخص واضحًا ومحددًا فإنه سيبني حياته على أساس هذا الهدف، وسيبذل وقته وجهده وفكره لأجل هذا الهدف، وسيتناسى حينها تلك المشغلات على جانب الطريق والتي ستحرفه عن مساره وتؤدي إلى هلاكه.
ومن فضل الله على عباده أنه وضح لهم الهدف من توبتهم، وأن التوبة هي صلاح دينهم ودنياهم، وأخبرهم سبحانه بعواقبها الجميلة.
فقال الله في سورة التحريم: ((يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ تُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ تَوۡبَةٗ نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمۡ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمۡ سَيِّ‍َٔاتِكُمۡ وَيُدۡخِلَكُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ يَوۡمَ لَا يُخۡزِي ٱللَّهُ ٱلنَّبِيَّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ
مَعَهُۥۖ نُورُهُمۡ يَسۡعَىٰ بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَبِأَيۡمَٰنِهِمۡ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتۡمِمۡ لَنَا نُورَنَا وَٱغۡفِرۡ لَنَآۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ ٨
)).
والآيات والأحاديث كثيرة في عواقب التوبة الحسنة والجميلة، لذا فإنك تجد أن المؤمنين مهما أخطأوا فإنهم يعودون ويؤوبون إلى الله ويواصلون المسير في طريقهم المستقيم.
وفي ذلك يقول الله: ((وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً أَوۡ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسۡتَغۡفَرُواْ لِذُنُوبِهِمۡ وَمَن يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَمۡ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ ١٣٥))[آل عمران-135].
وقال سبحانه وتعالى في سورة الأعراف: ((إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ إِذَا مَسَّهُمۡ طَٰٓئِفٞ مِّنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبۡصِرُونَ ٢٠١)).
فلما كان هدف وغاية المؤمنين واضحين، كان ذلك كافيًاً لإيقاظهم متى ما توغلوا في الغفلة والنسيان.
وهكذا فإن أي هدف واضحٍ ومحددٍ للإنسان، يكون منبهًا له إن استغرق في نومه وغفلته.
الظرف الثالث: وجود فرصة التغيير
وهذا الظرف موجود غالباً في حياتنا حتى وإن لم ندركه جيدًا، وقد يسر الله لعباده فرصة الإنابة والعودة إليه طوال العمر من غير اشتراط زمن محدد أو مكان محدد.
ففي الحديث النبوي المشهور: ((إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر))[2]. وفي الحديث الآخر: ((ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها))[3].
وهكذا تجد أن عبارات الرحمة والمغفرة تُرفع لأولئك الذين غاصوا إلى ركبهم في مستنقع الجهل والضلالة، تُرفع لهم حتى يرتقوا بأرواحهم الجميلة التي لا ينبغي أن تدنسها الذنوب والمعاصي.
بل ورد في حديثٍ آخر أن التوبة هي فرصة للتغيير تتجدد يوميًا صباح مساء، وأن الإنسان يستطيع أن يتغير في أي لحظة يريدها.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها))[4].
ولو لاحظت أن فرص الحياة تتغير وتتجدد، فإن أغلق الله عز وجل عنّا بابًا -لسبب لا نعرفه- فإنه سيفتح أبواباً أخرى من الرزق والعلم لم تكن مفتوحة لنا من قبل.
 صحيح أن كثيرًا من الفرص إن ذهبت فلن تعود، وهذا درس مهم يجب أن نستصحبه معنا في كل تجربة نمر بها. ولكن في المقابل فإن رحلة الحياة لا تنتهي بموت فرصة أو ذهابها، فهناك مئات الفرص الجديدة التي تولد وتنبت.
ونظرة صغيرة إلى قصص الناجحين في الحياة تنبيك عمّا تقرر سابقًا، فلم يفلح بعض الناس في الدراسة أو التجارة أو طلب العلم ولكنه نجح في مجالات أخرى ومتعددة.
وهذا يذكرني بقول الشاعر اللطيف: إذا لم تستطع أمراً فدعه *** وجاوزه إلى ما تستطيع
متى ما اجتمعت الظروف الثلاثة المذكورة آنفًا (الإدراك-وضوح الرؤية-وجود فرصة التغيير) فإن التغيير الإيجابي سينبت ويترعرع بإذن الله، ويخلق شجرةً جميلةً مورقة رائعة ظليلة.
وهذه الظروف السابقة مترابطة ومتشابكة -كما ترى- فكل ظرف يقود للآخر، وتبقى مسألة خلطها جميعاً وتفعيلها هي دورك ومهمتك حتى تبدأ التغيير الإيجابي 
وخلاصة الأمر أن تدبر التوبة ومعانيها يُنشئ لنا صورة جميلة في واقعنا وحياتنا، تقودنا إلى النجاح الكبير في الدنيا، ثم النجاح الأعظم والغاية الكبرى وهي نيل رضا الله سبحانه وتعالى والسكنى في جنته الخالدة.
اللهم جد علينا بعفوك وحلمك، وارزقنا القوة والعزيمة حتى نحقق أهدافنا وغاياتنا.




[1] رواه البخاري (5578)
[2] رواه الترمذي (3537) وقال: حديث حسن غريب
[3] رواه أبو داود (2479) وصححه الألباني.
[4] رواه مسلم (2759)
انتهى
البراء بن محمد (أبو مالك)
الأربعاء 12/4/1435هـ 
الموافق 12/2/2014م 
بين الظهر والعصر
مدينة الرياض..