الأربعاء، 12 فبراير 2014

بين لحظة التغيير والتوبة

                                                         (بين لحظة التغيير والتوبة) 
                                                         بسم الله الرحمن الرحيم
 بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبيه الكريم.
أما بعد..
التوبة إلى الله والعودة إلى صراطه المستقيم موضوع مهم تناوله القرآن الكريم وسنة النبي عليه الصلاة والسلام كثيرًا، وكذلك أورده العلماء في مصنفاتهم، بل صنف بعض العلماء كتبًا خاصة في ذلك.
وسأحاول –في هذه المقالة السريعة- النظر إلى التوبة من منظور مختلف قليلاً وربطها بواقعنا المعاصر، لأن الدين مرتبط بالحياة لا ينفك عنها بحالٍ من الأحوال.
والوعظ والتذكير بالله يكون أقوى أثرًا ومفعولًا إذا أحسن رُبِطه بحياة الناس، فيُذكّرونَّ أن حياتهم الدنيا ليست بمستقيمة –أصلًا- من غير اتباع سنن الله وهديه.
وعندما ينحرف الإنسان عن مساره الصحيح الذي كان يسير فيه، فإنه يحتاج إلى علامات وإشارات تذكره بأنه يسير في المسار الخطأ، وكلما ابتعد الشخص عن مساره فإن وصوله إلى هدفه وغايته يتباعد طرديًا مع كل متر يقطعه بعيدًا عن مساره.
ومع ذلك كله فإمكانية العودة وتصحيح المسار موجودة، ويُبذل لأجلها مجهودٌ كبير، ويُقضى لإدراكها وقتٌ طويل، وهو في النهاية ضريبة الإهمال والتفريط.
ومن رحمة الله بعباده أنه يسّر لهم العودة وتصحيح أخطاءهم مهما كانت جسيمة. وطريق ذلك موجود ميسور وإن جهله الإنسان أو تجاهله، وهو (أي: الطريق) يمتد ويوازي الإنسان حتى ينتهي بهلاكه ووفاته، وحينها ينتهي الطريق.
التغيير الحقيقي والإيجابي في حياة الإنسان يبدأ خلال أي مرحلة عمرية وليس محددًا بزمان، بل هي لحظة تشتعل فيها نار الحماسة والإرادة ويصاحبها وقود الإصرار والعمل، ويقودها نور الأمل.
ومتى تلاقت الظروف المناسبة فإن التفاعل حادثٌ ونتيجته خيرٌ وبركة -بإذن الله-.
وأول ظرف من ظروف التغيير هو الإدراك، الإدراك الذي يكون غائباً عن الذهن لفترة -طالت هذه الفترة أم قصرت- ويحل محله الغفلة والشرود، فيقع الشخص في الأخطاء ساهيًا لاهيًا ويبتعد عن هدفه غيرَ مبصرٍ لما يجري حوله.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن))[1].
ولهذا الحديث دلالته اللطيفة، وهي أن المؤمن يغيب عنه إيمانه بالله لفترة أثناء مزاولة الخطيئة، ويغلب صوت نفسه الأمارة بالسوء على مشاعره وإيمانه الصادق بالله، فينقاد لشهوته ويغيب عنه فداحة الخطأ الذي قام به.
وهكذا فإن أي شخص انشغل قليلًا بالملهيات على جانب الطريق نحو هدفه، فإنه يتأخر ويتقهقر عن الوصول لمبتغاه، وكل دقيقة يمضيها في بعض هذه المشغلات، سيقضي ضعفها أثناء الطريق حتى يعوّض النقص الموجود.
وحتى يعود هذا الإدراك فيجب أن يقوم أصل العزيمة والإرادة في النفس ولو كان ضعيفًا، فإن النار أصلها شرارة صغيرة تكبر وتكبر، حتى تكون شعلةً ولهيبًا ينفث دخانه في الآفاق.
وحتى يعود الإدراك فيجب أن يكون الهدف نصبَ العين، وقبلتها في كل لحظة تطرف فيها العين. فيكون الهدف كالمنارة الكبيرة التي ترشد السفن في الليل، أو كبقعة الضوء البعيدة في ذلك النفق الطويل المظلم، فمهما تأخر عنها الشخص أو تشاغل، فإنه لن ينساها تمامًا لأنها نجاته.
الظرف الثاني: وضوح الرؤية
عندما يكون هدف الشخص واضحًا ومحددًا فإنه سيبني حياته على أساس هذا الهدف، وسيبذل وقته وجهده وفكره لأجل هذا الهدف، وسيتناسى حينها تلك المشغلات على جانب الطريق والتي ستحرفه عن مساره وتؤدي إلى هلاكه.
ومن فضل الله على عباده أنه وضح لهم الهدف من توبتهم، وأن التوبة هي صلاح دينهم ودنياهم، وأخبرهم سبحانه بعواقبها الجميلة.
فقال الله في سورة التحريم: ((يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ تُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ تَوۡبَةٗ نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمۡ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمۡ سَيِّ‍َٔاتِكُمۡ وَيُدۡخِلَكُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ يَوۡمَ لَا يُخۡزِي ٱللَّهُ ٱلنَّبِيَّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ
مَعَهُۥۖ نُورُهُمۡ يَسۡعَىٰ بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَبِأَيۡمَٰنِهِمۡ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتۡمِمۡ لَنَا نُورَنَا وَٱغۡفِرۡ لَنَآۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ ٨
)).
والآيات والأحاديث كثيرة في عواقب التوبة الحسنة والجميلة، لذا فإنك تجد أن المؤمنين مهما أخطأوا فإنهم يعودون ويؤوبون إلى الله ويواصلون المسير في طريقهم المستقيم.
وفي ذلك يقول الله: ((وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً أَوۡ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسۡتَغۡفَرُواْ لِذُنُوبِهِمۡ وَمَن يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَمۡ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ ١٣٥))[آل عمران-135].
وقال سبحانه وتعالى في سورة الأعراف: ((إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ إِذَا مَسَّهُمۡ طَٰٓئِفٞ مِّنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبۡصِرُونَ ٢٠١)).
فلما كان هدف وغاية المؤمنين واضحين، كان ذلك كافيًاً لإيقاظهم متى ما توغلوا في الغفلة والنسيان.
وهكذا فإن أي هدف واضحٍ ومحددٍ للإنسان، يكون منبهًا له إن استغرق في نومه وغفلته.
الظرف الثالث: وجود فرصة التغيير
وهذا الظرف موجود غالباً في حياتنا حتى وإن لم ندركه جيدًا، وقد يسر الله لعباده فرصة الإنابة والعودة إليه طوال العمر من غير اشتراط زمن محدد أو مكان محدد.
ففي الحديث النبوي المشهور: ((إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر))[2]. وفي الحديث الآخر: ((ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها))[3].
وهكذا تجد أن عبارات الرحمة والمغفرة تُرفع لأولئك الذين غاصوا إلى ركبهم في مستنقع الجهل والضلالة، تُرفع لهم حتى يرتقوا بأرواحهم الجميلة التي لا ينبغي أن تدنسها الذنوب والمعاصي.
بل ورد في حديثٍ آخر أن التوبة هي فرصة للتغيير تتجدد يوميًا صباح مساء، وأن الإنسان يستطيع أن يتغير في أي لحظة يريدها.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها))[4].
ولو لاحظت أن فرص الحياة تتغير وتتجدد، فإن أغلق الله عز وجل عنّا بابًا -لسبب لا نعرفه- فإنه سيفتح أبواباً أخرى من الرزق والعلم لم تكن مفتوحة لنا من قبل.
 صحيح أن كثيرًا من الفرص إن ذهبت فلن تعود، وهذا درس مهم يجب أن نستصحبه معنا في كل تجربة نمر بها. ولكن في المقابل فإن رحلة الحياة لا تنتهي بموت فرصة أو ذهابها، فهناك مئات الفرص الجديدة التي تولد وتنبت.
ونظرة صغيرة إلى قصص الناجحين في الحياة تنبيك عمّا تقرر سابقًا، فلم يفلح بعض الناس في الدراسة أو التجارة أو طلب العلم ولكنه نجح في مجالات أخرى ومتعددة.
وهذا يذكرني بقول الشاعر اللطيف: إذا لم تستطع أمراً فدعه *** وجاوزه إلى ما تستطيع
متى ما اجتمعت الظروف الثلاثة المذكورة آنفًا (الإدراك-وضوح الرؤية-وجود فرصة التغيير) فإن التغيير الإيجابي سينبت ويترعرع بإذن الله، ويخلق شجرةً جميلةً مورقة رائعة ظليلة.
وهذه الظروف السابقة مترابطة ومتشابكة -كما ترى- فكل ظرف يقود للآخر، وتبقى مسألة خلطها جميعاً وتفعيلها هي دورك ومهمتك حتى تبدأ التغيير الإيجابي 
وخلاصة الأمر أن تدبر التوبة ومعانيها يُنشئ لنا صورة جميلة في واقعنا وحياتنا، تقودنا إلى النجاح الكبير في الدنيا، ثم النجاح الأعظم والغاية الكبرى وهي نيل رضا الله سبحانه وتعالى والسكنى في جنته الخالدة.
اللهم جد علينا بعفوك وحلمك، وارزقنا القوة والعزيمة حتى نحقق أهدافنا وغاياتنا.




[1] رواه البخاري (5578)
[2] رواه الترمذي (3537) وقال: حديث حسن غريب
[3] رواه أبو داود (2479) وصححه الألباني.
[4] رواه مسلم (2759)
انتهى
البراء بن محمد (أبو مالك)
الأربعاء 12/4/1435هـ 
الموافق 12/2/2014م 
بين الظهر والعصر
مدينة الرياض..