الخميس، 17 سبتمبر 2015

[مشكلتي مع متابعي كرة القدم]

بسم الله الرحمن الرحيم
[مشكلتي مع متابعي كرة القدم]

(أرجو أن تتحمل طول المقال، فليس هو بأطول من مجموع رسائل الواتساب التي تقرؤها يوميًا :))
أحب أن أنوه في البداية أنه لا مشكلة شخصية بيني وبين أي متابعٍ للكرة، فأنا كنت أحدهم ذات يومٍ، ولي معارف غارقون بها لحد النخاع، وبعضهم من فضلاء الناس :) 
إذن، فما مشكلتك يا براء مع من يتابع الكرة؟
سأحرر مقصدي أولًا بتبيان المصطلحات التالية حتى نعلم الفئة المستهدفة بما سأقوله.
ممارس كرة القدم: وهو الشخص الذي يلعبها باستمرار، ويمارسها كلما سنحت له الفرصة بذلك، وهو خارج محل البحث بداهةً.
مُشَاهِدُ كرة القدم: هو الذي يقصر متابعته لكرة القدم في أوقات الفراغ المحض، وقد يتسلى أحيانًا بمشاهدة كبرى المباريات، إلا أن اهتمامه بكرة القدم وشؤونها لا يتجاوز صافرة الحكم الأخيرة التي تختم المعركة بين الفريقين (عذرًا قصدت المباراة). وهذا خارج محل البحث أيضًا، إلا أنني سأشير إليه في بعض المواضع قصدًا.
متابع كرة القدم: -وهو مربط الفرس، ومقصد البحث- هو من يتابع شؤون اللاعبين المختلفة، ولا يكتفي برؤيتهم يركضون في المستطيل الأخضر، بل يوسع اهتمامه ليشمل به أخبار النادي (أو الأندية) الذي يشجعه(ا)، وتحليلات اللاعبين السابقين، وتصفيات البطولات العالمية والمحلية، ومباريات الاعتزال والمباريات الودية ... إلى آخره.
--
(1)
لماذا تتابعون كرة القدم؟
الإجابة الموحدة بين متابعي هذه الرياضة (وغيرها من الرياضات، ولكنها مقصودة أصالةً في البحث) هي: المتعة، والقليل من الإثارة.
جميل، وماذا بعد؟
(...)
لا إجابة في الغالب، فالمتعة لا غير؛ هي الغاية والوسيلة معًا!
--
(2)
متابعة كرة القدم (بالمفهوم الذي قدمته سابقًا) لا منفعة منها، وكل ما ليس منه منفعة فالاشتغال به والاهتمام به حمقٌ وتضييع للوقت والجهد وربما المال أيضًا!
كيف تقول أنها بلا منفعة، وأنت تعلم أن حصول المتعة من مشاهدة المباريات = منفعة؟
هذا صحيح، ولكن حصول هذه المنفعة -وحدها- لا يرجح أن متابعة كرة القدم أمرٌ نافع، ولا يرجح كفة منافعها ومصالحها على مضارها ومفاسدها.
وإلا فما هي المنافع الأخرى التي يجنيها متابع كرة القدم من متابعته هذه؟
لا منفعة على الصعيد الفكري والذهني، فمتابع كرة القدم يظل كما هو، لو أتيته بعد سنة أو عشر سنين، فلن تتغير عقليته أبدًا، ولن يزداد علمًا سوى بأخبار اللاعبين والأندية فقط، وهي معلومات كمية لا ارتباط لها بواقع حياتنا ولا أخلاقنا ولا سلوكياتنا ولا أفكارنا. فاكتسابها غير نافع وجهلها غير ضار + لا ملكة ذهنية أو عقلية قد نُمّيت.
لا توجد منفعة من ذلك على الصعيد النفسي والجسدي الصحي أيضًا، فمتابع الكرة ولو مكث الساعات الطوال أمام الشاشة الصغيرة (تلفازًا كانت أم حاسوبًا أم شاشةً في مقهى) أو زاحم الصفوف الطويلة ليظفر بمقعدٍ صغير يرى به المباراة عن قرب (أو في بعض الأحيان يضع مقعدته على مساطب الاسمنت :) )، فإنه مع ذلك كله لن يفقد شيئًا من وزنه الزائد، ولن تعتدل بنية جسمه وقوامه بتنفيذ جميع ما سبق (يُلفت النظر إلى أن بعض متابعي الكرة ممارسون لها ومواظبون عليها، ولكن هذا لا يجعل تلازمًا بين متابعة الكرة وممارستها، فمتابع الكرة إذن مختلف بهذا الوجه عن ممارسها).
أما الجانب النفسي، فقد تسوء نفسية المتابع وتتلف عواطفه ومشاعره بعد حماسه وتفاعله الشديد مع الكرة المتقلبة التي توسّع فمه من السعادة يومًا، وتبكيه دموعًا ودمًا في يومٍ آخر. مع التذكير بلحظات الانفعال والغضب التي يعقبها شتمٌ ولعنٌ للاعبٍ أضاع هجمة سهلة (كما يراها المتابع!) أو استهتار حارسٍ بفريقه الذي خسر ذلك النهائي العظيم.
وهنا حجةٌ أخرى بعد الاستطراد السابق، وهي أن الناس يتقحمون كبائر الذنوب تقحمًا قويًا، فيزنون ويشربون الخمر، ويسرقون، ويقتلون، ويأكلون أموال بعضهم بالباطل، وهم مع ذلك كله مستمتعون مشتهون متلذذون بفعل ذلك!
فهل تمتعهم بذلك وتلذذهم به يحيل مضار هذه الأفعال منافع؟ وهل (اهتمامهم) بذلك يعذرهم من النقد والنصح والتوبيخ؟
---
(3)
في الجهة المقابلة، ما الذي يبذله المتابع في سبيل (متعته)؟
وقبل الإجابة عن هذا السؤال ينبغي أن يُستشعر أن غالب متابعي كرة القدم = مستهلكون، فالواحدُ منهم ليس مساهمًا في النادي بماله أو عضوًا مؤثرًا فيه، ومن ثمَّ، فإن وجود الفرد منهم أو عدمه ليس له أثر البتة، اللهم إلا اجتماعهم، كما تجتمع قطرات الماء (إنما السيل اجتماع النقط)
الكثير من الجهد الذهني، والمال، والوقت، وربما الصحة أيضًا!
فأما الصحة، فنحن نعلم ما قد يمر به متعصبة المتابعين من أمراض الضغط والبدانة وغيرها لإفراطهم في المتابعة من خلف الشاشات.
ونحن نعلم التقلبات المزاجية التي يمرون بها أثناء مشاهدتهم للمباراة، والتي قد يفتعلون بعضها لإثارة الحماس.
وأما المال، فهذا واضحٌ جلي، لن يدخل متابع الكرة الملعبَ مجانًا في الغالب، بل سيدفع قدرًا من المال لشراء التذكرة، وقد يتكرر ذلك منه إن كان رئيس رابطةٍ ينعق بصوته، أو مرافقًا يضرب الطبل، أو مشاركًا يلوح بيديه حتى يراه المشاهدون في التلفاز.
يبذل متابع الكرة جهدًا ذهنيًا كبيرًا في غالب نقاشاته الكروية وتحليلاته لاجتهادات المدربين وعقود ملاك الأندية، وتنبؤاته المستقبلية بسير الفريق في بطولة الدوري أو الكأس. 
ولا داعي للتذكير مجددًا أنه لا أمل بحصول منفعة من هذا المجهود، الذي يتخلله التعصب والعاطفة الشديدة اللذان يذكينهما الإعلام الرياضي ومشاهير الكرة.
أما الوقت، فمتابع الكرة (كما قدمنا) لا ينحصر وقته في 90 دقيقة فقط، بل يتجاوزها إلى عشرات الساعات المبذولة في مشاهدة المباريات الفائتة أو اللقطات الإبداعية، ولا ننسى النقاشات الكروية بين جماهير الأندية المختلفة، وأيضًا قراءة الكثير من الجرائد الرياضية، وتصفح المواقع المهتمة بذلك كله.
ولنا أن نزيد على ذلك القول بأن متابعة الكرة طريقٌ إلى التعصب الرياضي الذي يمسخ الفكر والعاطفة. لأن المتابع يذوب جزئيًا في النادي الذي يشجعه وذلك ببذله للانتماء العاطفي الكبير له، فيتمثل فيه إنجازاته وإخفاقاته. أما المتعصب فيتحد وجوده بوجود النادي، فيغدوان موجودًا واحدًا رغم أن الإساءة للنادي تضر المتعصب أكثر من الإساءة الموجهة للمتعصب.
المتابعة نفسها نشاط عبثي لأن الحق أن إنجازات الأندية ينالها أربابها ولاعبوها والمساهمون فيها بأموالهم حصرًا دون غيرهم، كما أنهم من يتحملون ثمن إخفاقاتهم. فكيف يسوغ لعاقلٍ أن يربط نفسه عاطفيًا وفكريًا بما لا ثمرة له من ورائه؟
إن فهم هذه العبثية التي تتخلل التشجيع الرياضي يسهّل علينا كثيرًا فهم التعصب الرياضي وتفهم دموع المشجعين وشغبهم وبأسهم على بعضهم في الانترنت والواقع والمدرجات. فمن سهل عليه أن يجعل النادي الرياضي هوية له سيسهل عليه أن يغرق فيه حتى النخاع.
والحق أن الفرق بين متابعة كرة القدم من حيث كونها نشاطًا ذهنيًا ونفسيًا يتخلل مشاهدة المباريات وتحليلها وتشجيع الأندية ومعرفة أخبارهم وتتبع كلام الإعلاميين حولهم، والتعصب الذي يكون فيه شديد القتال والبذاءة والإسفاف = فرقٌ رقيقٌ يصعب أن يفصل بينهما.
فحتى لو قيل بأن الإعلام الرياضي هو من يذكي التعصب ويقويه في النفوس، فالمتابعة للكرة تتأثر وتنفعل به كما تقرر ذلك.
أما القول بأن في مشجعي الكرة بعض الناجحين والمتفوقين في حياتهم، فهو استدلال خاطئ زائغ عن سنن التفكير الصحيح. فمتابعة كرة القدم من حيث هي = مجرد نشاط منفصل عن التفوق الأكاديمي والذكاء الاجتماعي. والربط بينها وبين غيرها على أساس علاقة سببية بين أثر ومؤثر يستلزم دليلًا وتعليلًا.
ونعيد طرح الأسئلة الجوهرية الهامة: ما هي القيمة الكبرى التي تضيفها متابعة كرة القدم للإنسان؟ ما الثمرة العظمى التي يحصّلها متابع الكرة بعد شهورٍ وسنينٍ من متابعته للكرة؟ ما حاجة الناس الحقيقية لمتابعة الكرة؟
---
(4)
يقتصر بعض الدعاة والوعاظ عند حديثهم عن متابعة كرة القدم على الحث على عدم التعصب والاهتمام بالصلاة، وهو جهدٌ مشكورٌ ولا شك، ولكنه يختزل المشكلة بأعماقها، ويسطّحها بما يزيد من غفلة الواقع فيها ويجذبه أكثر إليها.
لن أقول أن الكرة وسيلةٌ يستخدمها الطغاة لإلهاء الشعوب، أو مؤامرة صهيونية لصرف المسلمين عن قضاياهم الكبرى، فهذا ادعاء ضخم لا أتحمل تبعة طرحه بلا برهان مقنع.
المشكلة يا إخوتي هي في جعل وسائل الترفيه التي لا يُلتمس منها النفع = مشروعاتٍ حياتية، وما سواها = مشروعات فرعية.
ليست مشكلتنا مع الكرة وحدها، بل إن أي متابعة لوسيلة ترفيه (سائر الرياضات والأفلام والمسلسلات مثلًا) بنفس القدر الذي أشرتُ إليه سابقًا هو مشكلة كبرى.
---
(5)
يطرح بعضهم سؤالًا بريئًا وهو عن البديل المناسب، أو يقولون أن انشغال الناس بمتابعة كرة القدم خيرٌ من انشغالهم بالأفلام الإباحية والتفحيط وغيرها.
أما التساؤل الأول فهو مشروع وضروري ولا أنكر ذلك مطلقًا. ولكن لا ينبغي أن أجيب عن هذا السؤال مباشرة بصياغته هذه.
لست أبتغي تقييد المباحات التي ينتفع منها الناس وحصرها فيما تشمله رؤيتي الخاصة القاصرة، فهذا استبداد لا أحبه ولا أرضاه.
ولكنني أشير إلى معيار أساسي عام ومهم وهو حصول النفع الفردي والجماعي من البديل الذي سيستبدل به متابع الكرة نشاطه.
فلسنا نريد أن ينقلب متابع الكرة إلى متابعة أخبار المشاهير أو الانشغال بالألغاز والأسئلة والأجوبة الثقافية، فهي استجارة بالرمضاء من النار. ولكننا نريده أن ينتفع ويتعظ من ماضيه الأغبر ويستلهم العبر ممّن جربوا قبله وفهموا اللعبة أكثر.
أكاد أجزم أن انشغال المرء بالعطور وأنواعها أو إطارات السيارات ومستلزماتها أنفع مئة مرة من طلبه واكتسابه للمعلومات النظرية عن ممارسي كرة القدم لا عن الرياضة ذاتها.
ومن هنا يكون الرد على من يقول أن أداء المرء في كرة القدم يتحسن إن شاهد المباريات وتابعها. فنحن قد لا نجادله في ذلك، ولكن إن كانت متابعة 10 أو 20 مباراة كافية للمرء حتى يفهم اللعبة ويدركها جيدًا، فما الداعي لزيادتها عن ذلك؟
الواقع أن غالب متابعي كرة القدم ليسوا مدربي أندية تتعلق أموالهم بذلك، فيشاهدونها لغرض ينفعهم وحدهم وحسب. ولكنهم أقل من ذلك بكثير، فلماذا يشغلون أنفسهم بذلك؟
ولو قلنا جدلًا بأن نسبة المدربين فيهم هي 50% فما الداعي لانشغال البقية بها؟
وننطلق من هنا لحل الإشكال الثاني -في نظر صاحبه- وهو أن متابعة كرة القدم خير بديل عن ما هو أحط منها وأخس.
وهذا في مجمله صحيح، ولكنه مقصودٌ لباطل. إذ أنه ثبت أن متابعة كرة القدم إن لم تضر صاحبها مباشرة، أضره تراكمه في ذهنه واعتياد نفسه عليه. وحصر خيارات الشباب وعاداتهم بين مباح غير نافع ومحرمٍ ضار هو مغالطة في حد ذاتها. وما ينفع الشباب ويصلحهم ويناسب مرحلتهم العمرية والجسدية أوسع من ذلك بكثير.
---
(6)
سؤال أخير وجريء
ما الذي سيضرنا لو خفضنا الإنفاق أو جففناه عن الأندية الرياضية أو أي وسيلة تدفع الشباب لمتابعة الكرة والرياضة؟
ماذا لو حوّلنا هذا الصرف الضخم على مشروعات أخرى كالتعليم والصحة والاقتصاد...إلخ؟
وكما أسلفتُ الذكر، فممارسوا الرياضة يختلفون تمامًا عن من شُغِفوا بمتابعتها.
ومُشاهد الكرة = خيرٌ ممن يتابعها، ومن يستغل وقت ترفيهه فيما ينفعه = خيرٌ منهما جميعًا.
أعد النظر فيما ترفه به نفسك، وما تستمتع به، فقد تكمن فيه مضرتك من حيث لا تدري!
والله أعلم وأحكم.
البراء بن محمد
كتبه يوم الخميس 1436/12/4هـ
2015/9/17م
وأعاد تحريره يوم السبت 1438/5/22هـ
2017/2/18م