الأحد، 1 نوفمبر 2015

لماذا أتحدث عن ذاتي كثيرًا؟

بسم الله الرحمن الرحيم
س: لماذا تتحدث يا براء عن نفسك (أو ذاتك) كثيرًا؟
البراء: وما الإشكال في ذلك يا (س)؟
س: ولكن من (أنت) حتى تتحدث عن نفسك بهذا القدر الكبير؟
البراء: وما هي معايير (الأنا) التي يحق لها التحدث عن نفسها أمام الآخرين؟ أهي الشهرة والجمال؟ أم العلم والمال؟ هل يجب على الإنسان أن يكون عظيمًا في أعين الناس حتى يحق له التحدث عن مشاعره وأفكاره وأحلامه وأوهامه علانيةً وبصراحة؟
س: مممممم، ولكننا نشمئز ونتقزز ممن يتحدث عن نفسه كثيرًا؟
البراء: ولمَ تفعلون ذلك؟ هل تريدون فعلًا أن يكون الناس كلهم نسخًا منكم؟
س: آآآ، لا، ولكن...
البراء: ولكنكم تفعلون ذلك شعرتم أم لم تشعروا، قصدتم أم لم تقصدوا.
س: ولكن ما الذي تملكه حتى تتحدث عن نفسك؟ أنت تعترف بجهلك وتقصيرك، ولا تعطي الكثير من المعلومات المفيدة، أو ما يسلي الجمهور.
البراء: أنا أملك (لا شيء)، ومن حقي أن أتحدث عن هذا (اللاشيء) كما أريد، بشرط أن ألتزم الصدق فلا أكذب أثناء الحديث عنه، وأكون منصفًا، فلا أغلو في مدحه، ولا أجحفه حقه، وأعطيه أقل من حجمه الطبيعي.
س: :)، ولكن اللاشيء هو ...
البراء: أعلم أنه من الخطأ استعمال لفظ (لا شيء) حرفيًا، وأعلم أنك تعلم أنني لا أعني ذلك بقولي (لا شيء)، ولكنه كناية عن ما تناهى حجمه ووزنه في الصغر حتى كاد أن يكون عدمًا.
س: ولكن ألن تصير متكبرًا ومغرورًا بحديثك المتواصل عن نفسك؟
البراء: هل تعرف قول الشاعر: "رأى الأمر يفضي إلى آخرٍ *** فصيّر آخره أولا"؟
س: ممممم كأنني فهمت ما ترمي إليه.
البراء: لا لم تفهمه على وجهه، إن فهمته على أن نتيجة التحدث عن النفس هي الكبر والغرور، وأنك قد عكستها، فصار السبب نتيجة والعكس كذلك. ولكن سأخبرك، لو كانت العروض بيدي، لأضفت كلمة (قد) إلى البيت، ليصير هكذا: "رأى الأمر (قد) يفضي إلى آخرٍ".
ولكن العروض يا أخي علمٌ مؤسسٌ منذ مئات السنين، وقد أغلقه صاحبه من بعده، فليس لي أن أجاوزه بعلمي القليل في العربية.
على كل حالٍ دعنا من هذا الاستطراد. من أين لك أن كثرة التحدث عن النفس تجلب الغرور والكِبر؟ ألست تعلم كما أعلم أن الغرور قد يصيب الكثير من الصامتين الذين نراهم هنا وهناك؟ ألست تعلم أن الكِبر خطيئة قلبية يقترفها بعض متصنعي التواضع؟
س: ولكن كيف عرفت ذلك؟
البراء: سؤال جيد. فلتات اللسان، وبعض ظواهر الأعمال تكشف عن بعض ما يخبئه الناس في نفوسهم. ومع ذلك، فلست متسرعًا في نسبة الناس إلى الكِبر والغرور، ولا أنهض للحكم عليهم بذلك غالبًا، لوعورته وصعوبته بالنسبة لي.
س: حسنًا، متى نذم الحديث عن النفس وفقًا لرؤيتك؟
البراء: نذم الحديث عن النفس إن خالطه كذبٌ أو غلوٌ أو كبرٌ وغرور.
س: كيف لنا أن نتأكد من أنك لست متكبرًا ومغترًا بذاتك؟
البراء: وهل علي أن أثبت هذا لك؟
س: ماذا تقصد؟
البراء: ما أقصده هو: هل يجب علي أن أنفي توهمك بأنني متكبرٌ ومغرور؟ فإن نفيتَ أنه محض توهم وتخمين، وقراءة ناقصة، فهل هو يقينٌ؟ وإن كان يقينًا فعلام استندت في يقينك هذا لتثبته؟ هل يقينك هذا ثابتٌ في نفسه؟
س: هممممم، ولكنك ستضطر للدفاع عن نفسك.
البراء: أخطأت فيما تقوله، وإنما يصح دفاعي عن نفسي، إن كنت عالمًا بثبوت تهمةٍ ما علي، أو أن التصرف الذي فعلته كان خطأً يستحق التبرير والدفاع. والحق أنني لا أعلم التهمة نفسها، ولست متحققًا من ثبوتها، فهل تتوقع أنني سأدافع عن نفسي حينها؟
 لو سألك إنسانٌ ما (على سبيل النصح المبطن بالاتهام) عن شربك الخمر، أفلا تجد نفسك مدفوعًا لسؤاله عن ما يدفعه لقول ذلك؟ أم أنك ستمتهن المحاماة لتدافع عن هذه التهمة الموجهة إليك؟
س: ممممم، هذا جيد، ولكن دعني أسألك..
البراء: ولكن قبل أن تسألني، أود أن أعزز فهمك لما قلته بتوضيح لطيف، ألا تجد أن الله سبحانه وتعالى قد قال في كتابه: "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسقٌ بنبأٍ فتبينوا أن تصيبوا قومًا بجهالةٍ فتصبحوا على ما فعلتم نادمين"؟
س: صدق الله العظيم.
البراء: هل ستسمي تبيننا وتثبتنا من النبأ المتعلق بذوات الآخرين دفاعًا عنهم ومحاماةً لصالحهم؟ أم أنه توكيدٌ لقيمة الصدق والأمانة في القول عندنا وعند غيرنا؟ وهب أنك سميته دفاعًا عن الآخرين، فهل هو مذمومٌ؟
س: لا، ليس مذمومًا.
البراء: حسنًا، أو ليست ذواتنا مماثلة أو مشابهة لذوات الآخرين؟ فإن كان ذلك، فلمَ لا تأخذ ذواتنا نفس حكم ذوات الآخرين في وجوب التثبت من أي نبأٍ أو خبرٍ متعلق بها؟
س: ولكن ما الجهالة أو الظلم الذي سيصيبك إن لم تفعل ذلك؟
البراء: قد أظلم نفسي بتحميلها ما لم تحتمله من الإثم والأخطاء، ومن ثمَّ أدخلُ في دوامة مُهلكةٍ من العتاب والعقاب الذي لا تستحقه النفس ابتداءً. وضرر هذا مماثلٌ لضرر المدح الكاذب الذي يزيف صورة الإنسان أمامه، ويريه انعكاسًا موهمًا لحقيقته، فيغتر بباطله وأخطائه، ويزيدها غافلًا عنها واهمًا، جاهلًا بالعواقب.
وحتى لو لم تحصل الجهالة، فالعمل على سببٍ يفضي إليها = ليس بلائقٍ وهو ضربٌ من الخلل.
المعذرة يا (س) قطعت عليك السبيل لإحضار سؤالك هنا.
س: لا بأس، سأحاول الوصول إليه بطريق مختلفة *يحك رأسه متأملًا مفكرًا*
البراء: خذ وقتك يا أخي.
س: نعم وجدتها *eureka!* 
البراء: الحمد لله! هاتها بسرعة قبل أن تتلاشى وتختفي.
س: لماذا لا تتحدث عن الآخرين بنفس القدر أو بقدرٍ مقاربٍ لحديثك عن نفسك؟
البراء: أنا أحب التفاعل مع الآخرين، وأكن لهم الكثير من المشاعر الجميلة، وأتمنى أن ...
س: توقف يا براء! لقد سألتك سؤالًا واضحًا محدودًا، فأجب عنه بوضوح!
البراء:أبشر، كما تريد يا س، لا أجد في نفسي ميلًا لذلك بصراحة، ولا أعرف تفسير ذلك. ولكنني أحرص إن تحدثت عن شخصٍ ما على إنصافه ومعاملته بعدل، ولا أظن أن مجرد عدم حديثي عن الناس ظلمٌ وإجحافٌ لهم.
س: لدي سؤال مغاير لما سبق، لماذا تحرص على معرفة آراء الناس وانطباعاتهم عنك؟ يبدو ذلك جليًا لا ينكره من يشاهد الشمس في السماء، ويتابع ما تطرحه أيضًا، أنت تمحور الاستفتاءات حول نفسك، وتطالب الناس بنقدك ونصحك دائمًا.
البراء: صحيحٌ ما قلته، ولا أنكر حرفًا منه أبدًا. ولكنني أفعله لأنني أريد الاستفادة من الآخرين بقدر المستطاع، أنا أقدّم لهم بضاعة من الأفكار والمشاعر، فإما أن يعاينوها، ويفحصوها، أو يراقبوها عن بعد، أو يتجاوزونها ويمرون مرور السحاب والكرام.
معرفة بعض آرائهم تفيدني في تحسين إنتاجي، وتقويم أدائي، بل وإصلاح نفسي، وأخطائي في التعامل معهم ومع الحياة، وبعض انطباعاتهم الحسنة تترك في نفسي أثرًا عظيمًا رائعًا يدفعني للأمام. ولست والله ساعيًا لأن أصير محور الكون -على فرض وجوده- أو الاهتمام، ولكنني أرى أن تفاعلي الفعّال مع من يستقبلون إنتاجي عظيمٌ وطيب.
س: وهل تمارس ذلك مع الآخرين أيضًا؟
البراء: أحاول أن أكون كذلك أو -على الأقل- أبدو بهذه الصورة التي أراها جميلة.
س: ولكن غيرك يراها قبيحة.
البراء: أصبت، فقد أعلم ذلك أحيانًا، وأتجنب الاحتكاك به على النحو الذي يعجبني، أو أغفل عنه في أحيانٍ أخرى. 
س: لحظة! هاهنا سؤال جوهري قد يهدم كل ما قلته أو يؤكد قوة تحمله لعوامل التعرية المختلفة.
.....
وإلى هنا انقطعت المكالمة، وتشوش الصوت الواصل بينهما، ولم يبق منه سوى ما فُرّغ هنا.
*ملاحظة: (س) شخصية غير حقيقية
والله المستعان.
والحمد لله رب العالمين أولًا وآخرًا.
البراء بن محمد