السبت، 29 أكتوبر 2016

عقل في زجاجة!

بسم الله الرحمن الرحيم
(ما الدليل على أن عقولنا ليست محبوسة في قنينة زجاجية ويتحكم بها كمبيوتر يبعث إليها صورًا وتخيلات مخالفة لواقعها؟ ماذا لو كانت حياتنا حلمًا طويلًا ووهمًا كبيرًا؟)

كتبت قبل أربعة أشهرٍ(1) مقالًا في نقض الاعتقاد بأن عالمنا وهمٌ لا حقيقة له وأننا نسكن مصفوفة مغلقة يتحكم بها أحدهم.
تذكرت مؤخرًا أن باعث هذه الفكرة كان فيديو في اليوتيوب (2) عن المذهب الشكي skepticism وشكهم في واقعية عالمنا، فأعدت مشاهدة الفيديو وأضفت إليه اثنين من مقاطع الفيديو التي فيها محاولات فلسفية لإثبات أن عالمنا واقعي وأن عقولنا ليست حبيسة قنينة زجاجية.
لم تخل هذه المحاولات من الثغرات والأخطاء التي يمكن النفاذ منها وتقوية "شك" الشكاكين حول واقعية عالمنا.
أود تسجيل ملاحظة شخصية مختصرة بهذا الصدد:
خطأ الفلاسفة الذين حاولوا نقض فكرة أن عقولنا حبيسة قنينة زجاجية هي أنهم تعاملوا مع الفكرة كما لو أنها كانت شبهة فلسفية معتمدة على دليل حسي أو عقلي.
وحقيقة هذه الفكرة هي أنها معتمدة على مجرد الإمكان الذهني. أي: أنها ممكنة الوقوع عقلًا، فلا يترتب على ذلك أي استحالة عقلية كالجمع بين النقيضين مثلًا.
وهذا الجزء من الفكرة صحيحٌ لا غبار عليه لكنه ليس كافيًا ليكون دليلًا صحيحًا على دعوى تفتقر إلى الدليل.
وجود التنين ممكن عقلًا ولكنه مستحيل واقعًا، لا تجد عقولنا أي مشكلة في تخيل عالمنا بوجود تنانين، ولكن ليس لدى عقولنا أي دليلٍ يدعم إمكانية وجود هذه التنانين فعلًا خارج أذهاننا. هذا كل ما في الأمر.
من الممكن عقلًا أن تكون قد جئت إلى الأرض من كوكب مغايرٍ إلا أن والديك قد اتفقا على تضليلك بالقول بأنك ابنهما الذي خرج حصادًا للبذرة التي زرعاها وأشرفا على نموها. ومن الممكن كذلك أن يكونا قد اتفقا مع الكثير من الناس على الكذب عليك وإتقان هذه الكذبة جيدًا بحيث لا يخطر ببالك شكٌ أو جزء من الشك حول مبتدأ وجودك في الأرض.
كل هذا ممكن عقلًا إلا أنه مستحيل واقعًا. وما لم يطرأ أي شك قوي للغاية حول صحة نسبتك إلى والديك، فلا داعي لتجشم عناء فحص عينات الـDNA الخاصة بك ووالديك لتثبت أنك منتسب إليهما فعلًا. لن يصدر هذا الفعل غالبًا سوى من مجنون أو من غلبه الوهم أو عابثٍ شديد العبث.
نعود لفكرة العقل المحبوس في الزجاجة أو المصفوفة المغلقة.
لاحظ أن الفكرة كلها تعتمد ابتداءً على سؤالٍ افتراضي: (ماذا لو ...؟)، ثم يسترسل صاحب الفكرة في تشييد الفروض المنطقية التي يمكن أن تترتب على هذا الافتراض (العاري عن الدليل والبرهان). فيُذهل المستمع أو القارئ بقوة هذه اللوازم أو النتائج ويراها أنها ممكنة التحقق جدًا دون أن يلتفت إلى الأصل الواهي الذي تهدمه مروحة كهربائية بقوة الزر رقم 1.
وما يفعلونه يذكرني بما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فمن استدل على إمكان الشيء ووجوده في الأعيان، بإمكان تصوره في الأذهان، كان في هذا المقام أضل من بهيم الحيوان" [درء تعارض العقل والنقل 134/5]
الخلاصة: لا تبالغ النظر في النتائج دون أصلها الذي نشأت منه.
--
الهامش:
(1)
كتبت أصل المقال قبل أربعة أشهر، ثم عدلته ونقحته بعد ذلك ونشرته في قناتي بالتلغرام، قبل نشره مؤخرًا في المدونة.
(2)

الثلاثاء 1437/8/10هـ
2016/5/17م

بطلان الاعتقاد بأننا داخل مصفوفة أو حلم ووهم وخيال

بسم الله الرحمن الرحيم
يدعي بعض الناس أنه من الممكن أن تكون حياتنا وعقولنا حبيسة مصفوفةٍ ما matrix أو أن ما نشاهده ونعاينه ونحسه ونجسه من العالم الخارجي إنما هو حلمٌ ووهمٌ نعيشه، وليس له حقيقة ثبوتية.

وهذا الاعتقاد باطلٌ لا حقيقة له، وتلفيق لا أصالة له، بل هو كذب وتناقضٌ فج، وذلك لاشتماله على ما يخالف بدائه العقول السليمة.
ونبطل هذا الاعتقاد بما يلي:
1-هذا المعتقد مفتقر إلى الدليل، وحيث أن معرفته واستيعاب مفهوميته ليست مبدأً عقليًا قبليًا، ولا ضرورة عقلية يكتفى بالتمثيل بها لمعرفتها، بل هي معتقد مكتسب، فهي إذن مفتقرة إلى الدليل والنظر حتى تصح وتثبت. وأصحاب أو القائلون بهذا المعتقد لا يستندون في إثباتهم إياه على دليل، فهو معتقد مبنيٍ على عدم الدليل. وصحيحٌ أن عدم الدليل ليس دليلًا على العدم، ولكن عدم الدليل ليس بالتأكيد دليلًا على الثبوت والصحة (إلا إن كان وجود الدليل لازمًا عن وجود مدلوله).
2-يعتمد أصحاب هذا المعتقد على مجرد الإمكان الذهني، فيقولون: أليس من الممكن أن تكون عقولنا محدودة بمصفوفة ومُتحكمًا فيها من قِبَل موجودٍ خارجي؟ أليس من الممكن أن يكون دماغك موضوعًا في إناء زجاجي، وليس ثمة جسدٌ ولا واقعٌ وإنما هي إشارات وصور ذهنية نتعامل معها؟
وهذا ممكنٌ عقلًا، وليس ممتنعًا في ذاته، العقل يستطيع تخيل كل ذلك وتصوره، وليس هذا موضع النزاع قطعًا، إذ أن النزاع والخلاف بيننا وبينهم هو في ثبوت كل ذلك وتحقق وجوده. وهذا التحقق والثبوت ليس بحاصلٍ بالإمكان الذهني المجرد وحده، فحقيقة الإمكان الذهني هي عدم الامتناع، وليست هي ثبوت الأمر نفسه ووجوده. وبناءً على ذلك، فقد يكون هناك الكثير من الممكنات الذهنية التي يمتنع تحققها في أرض الواقع، لأن إمكانها الذهني يقتضي أن العقل يمكنه أن يتصور وجودها، لا أن وجودها حاصلٌ ومتحقق بالفعل خارج العقل.
3-تنقلب الحجة على أصحابها بقولنا لهم: سلمنا لكم بأننا نعيش داخل مصفوفة يتحكم بها موجود منفصل عنا، فكيف حكمتم بأن هذه المصفوفة حقيقية؟ والحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره، فكيف تصورتم المصفوفة وأنتم لم تخرجوا عنها ولم تعاينوا آثارها وحدودها؟
والحق أننا لم نميز الحلم من الواقع إلا بعد أن رأينا أن الحلم قصير الزمان وإن بدا طويلًا، ممكنٌ الخروج منه، ويحصل فيه ما لا يحصل في الواقع. فإن ظننت أنك حبيس حلم طويل يدور في ذهنك، فيجب عليك أن تثبت إمكانية الخروج منه، وكذلك مخالفته للواقع الذي يعيشه عقلك. ولن تستطيع إلى ذلك سبيلًا.
وهناك مشكلٌ معضلٌ في الاستدلال بآثار المصفوفة على وجود المصفوفة نفسها، إذ لو قيل بأن (س) أثرٌ للمصفوفة التي تحكمنا، فما الدليل على أنها أثرٌ لها؟ بل ما الدليل على وجود المصفوفة أصلًا؟
وهنا تتجلى المصادرة على المطلوب في أجلى صورها وأوضحها. إذ أن المطلوب إثباته هو وجود المصفوفة، وإثبات وجودها يتوقف على صحة نسبة هذه الآثار للمصفوفة مع استبعاد الاحتمالات الأخرى. والمستدل بالآثار هنا يصادر على المطلوب إذ يدعي صحة نسبة هذه الآثار إلى المصفوفة ولا دليل له سوى الدعوى المجردة عن الدليل.
4-أنتم تؤمنون بأننا داخل حلمٌ أو مصفوفة إما قطعًا ويقينًا وإما باحتمالٍ راجحٍ بدرجة كبيرة على نقيضه، فبم رجحتم هذا اليقين أو الظن؟ إذ أن معتقدكم هذا لو كان مساويًا في صحته لما يناقضه، لما صح لكم اعتناقه. فإن كان مرجوحًا على ما يناقضه، فما مرجحكم؟ حسنًا. لن نطالبكم بدليلٍ ثبوتي لتصحيح دعواكم، فهل عندكم من دليل نفي لنقيض دعواكم؟ أوليس رفع أحد النقيضين كافيًا في إثبات الآخر؟ إذن، فأثبتوا دعواكم بنفي ما يناقضها.
فتبين بهذه الوجوه أن هذا المعتقد وهم وباطل.
والحمد لله أولًا وآخرًا
الاثنين 1437/8/9هـ
2016/5/16م