السبت، 16 يناير 2016

جادل الأحمق!

بسم الله الرحمن الرحيم
شاع في الناس قول القائل: ((لا تجادل الأحمق، فقد يخطئ الناس في التفريق بينكما)) واعتبروها حكمة رائقة مستقاة من تجارب الحياة.
ولكن ما معنى هذه المقولة؟
إنها تعني أنه ينبغي لك ألا تجادل الأحمق لأن الناس لن يفرقوا بينكما. فعلة امتناعك عن مجادلة الأحمق هي عدم تفريق الناس بينكما أثناء الجدال.
والحقيقة أن انتشار وشيوعه هذا المعنى لا يقتضيان صحته ولا معقوليته، فهو معنى باطلٌ لا صحة له.
وذلك لوجوه:
الوجه الأول وهو مجموع سؤالين لن أتبرع بالإجابة عنهما، وإنما أتركهما للقارئ المفضال: هل عدم تفريق الناس بين الأحمق وغير الأحمق سببٌ كافٍ لكي يمتنع العاقل غيرُ الأحمق عن مجادلته؟ وإن كان كذلك، فلماذا؟
الثاني: سلمنا بصحة المقولة، وسلمنا بأن اعتبار الناس كافٍ لمنع المجادلة مع الحمقى. لنقل أن الناس حمقى لا يجيدون التفريق بين الأحمق وغير الأحمق، بل يسوون بينهما، فهل ينبغي للعاقل أن يمتنع عن مجادلة أخيه العاقل لأن اعتبار الناس لهما هو الحمق؟
الثالث: عدم تفريق الناس بين الأحمق وغير الأحمق لن يجعلهما متساويين، ولن يُعدِمَ الفرق بينهما بالتأكيد. فالعاقل يبقى عاقلًا حتى لو اعتبره البشر كبير الحمقى، والأنوك (لفظٌ مرادفٌ للأحمق) أنوكُ (ممنوعة من الصرف، أي: التنوين) حتى لو اعتبره الناس أحكم الحكماء. فإن كان اعتبارهم غير مؤثرٍ كما قد تبين، فلمَ الإصرار على جعله سببًا كافيًا للامتناع عن مجادلة الحمقى؟!
الرابع: قد يُقال أن الأحمق مستفزٌ لغضب الحكيم، وجالبٌ لشر الحليم، وذلك لجهله المركب، وسفاهته ونقص عقله وتدبيره، فالامتناع عن مجادلته يكون لأجل درء شره واستفزازه الذي قد يفضي بمجادِلِه إلى الغضب والغيظ، فيحمق ويسفه مثله، ومن ثمَّ يخفق الناس في التفريق بينهما. وقد يكون للتعليل السابق وجهٌ من الصحة، إلا أنه لا يقوم لنصرة المقولة الأصلية. فعدم تفريق الناس بين الأحمق وغيره نتيجةٌ عائدة إلى سببٍ أصلي وهو تحامق مجادِلِ الأحمق وفقدانه للتحكم بنفسه وأعصابه، وليست هذه النتيجة متولدةً عن ما يكون سببًا لسببها الأصلي، وهو مجادلة الأحمق. على أن مجادلة الأحمق بذاتها ليست مفضية إلى الاستفزاز والغيظ، فقد يجادل الأحمق حكيمٌ حليمٌ حصيف ضابطٌ لنفسه وأعصابه، فهو جبلٌ لا تزعزعه الرياح. بل هو الذي يعكس أثر الأحمق ليعود إليه مضاعفًا قويًا. وخلاصة الأمر: أن التعليل السابق له صحة محتملةٌ في نفسه، إلا أنه لا ينهض لإسعاف المقولة الأصلية، إذ فيه استدلالٌ على النتيجة بما يحتمل أن يكون سببًا لسببها الأصلي. والصحيح أن يُقال: لا تجادل الأحمق لئلا يستفزك أو يجرك إلى الغضب، وما أشبه ذلك.
الخامس: أليس إخفاق الناس في التفريق بين الأحمق وغيره عائدًا إلى جهلهم وقلة علمهم –بالمقام الأول-؟ فعدم العلم بالفرق بين الأحمق وغيره جهلٌ؛ وما دام اعتبار الناس مبنيًا على جهلٍ فهو ظنٌ فاسد. ولكن لماذا يُلام مجادِلِ الأحمق ويُنهى عن فعلِهِ لمجرد ظن الناس الفاسد المنبني على جهل؟ ألا يلام الناس على ذلك أصالةً وقبل كل شيء؟
وبهذه الوجوه الخمسة يتبين أن مقولة: (لا تجادل الأحمق، فقد يخطئ الناس في التفريق بينكما) خاطئةٌ لأنها ليست قائمة على تعليل صحيح، فمجرد جهل الناس بالفرق أو خطئهم في التفريق بين الأحمق وغير الأحمق لا يلغي الفرق بينهما، وهو غير مؤثرٍ في حماقة أحد المتجادلين أو حكمة الآخر. كما أن هذا الاعتبار قد يكون فاسدًا، فلماذا يكون فساده موجبًا أخلاقيًا للامتناع عن مجادلة الأحمق؟
ثم إن الناس إما أن يعلموا بحمق الأحمق أو لا يعلمون بذلك، فإن علموا فإن مجادلة الأحمق إنما تكون توكيدًا لذلك وتنفيرًا للناس عن سلوك مسلكه، أو اتباع سبيله. وإن كان الناس لا يعلمون بحمق الأحمق، فمجادلته إنما تكون لفضح حمقه وتبيانه لئلا يغتر به الناس، فيتبعوه على جهل وبلا بصيرة.
ومجادلة الأحمق إنما تُشرع أو تُستحسن لمصالحها التي تغلب مفاسدها، وذلك من هدايةٍ وإرشاد وإرغام وإسكات، وتنبيهٍ وتحذير. فإن كان يلحق صاحبها استفزازٌ لا يقدر على مقاومته، ويفضي به إلى ظلم وتعدٍ، فالأكمل والأحسن له أن يبتعد عنها ويفر بعقله ولسانه.
وما ذكر آنفًا لا تعلق له بما تدعو إليه المقولة، إذ أنها تدعو للانكفاف عن مجادلة الحمقى لا بالنظر إلى مصالحها ومفاسدها، ولكن بالنظر إلى ما تفترض أنه مفسدة وهو اعتبار الناس وظنهم.
والحمد لله أولًا وآخرًا
ماليزيا
6/4/1437هـ
16/1/2016م