الجمعة، 21 يوليو 2017

بين اللأواء والنعماء ذكريات من مشروع التخرج

بسم الله الرحمن الرحيم
*تنبيه: لا تخلو بعض الحروف المسطورة هنا من مبالغة في نقد الواقع وأهله -وأعني دكاترتي تحديدًا-، ولعلها من تداعيات أزمة مشروع التخرج؛ فقد كتبت المقال على أثرها مباشرة. والله يغفر لي ولدكاترتي جميعًا، فقد كنت مقصرًا مفرطًا مسيئًا في المقام الأول، ولم يكن ثمة عذر لتأخري وإهمالي، فلا وجه للومهم لتأخرهم ومماطلتهم. ومن هنا فإنني لا أقر جميع ما كتبته، ولكنني أتركه للذكرى وحسب*
الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علمًا، ووسعت رحمته الخلائق كلهم، وظهرت حكمته في أنواع الموجودات، وشملت مغفرته خطايا المذنبين، وأفاض بفضله ومحبته صنوف الثواب على المحسنين. 
والصلاة والسلام على نبيه المبعوث بخير الشرائع، وأفضل الرسالات، الصادق الأمين، سيد ولد آدم، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين. 
أما بعد، فهذه حروف ناجٍ من الكرب العظيم، قد انفطر فؤاده مرارًا لما ذاقه من المر والنكد، وهاجت نفسه كثيرًا بكبائر الآلام النفسية، وعظائم الخسائر المالية، والحمد لله على كل حال. 
اعلم -رفع الله عني وعنك البلايا- أنني قد شهدت أيامًا شدادًا لم أشهد نظيرًا لها [في حياتي] مع تعدد الضغوطات والمصائب التي ما انفك عنها إنسان يمشي على قدميه. 
وقد كانت عدتها شهرًا ويومين بالتمام، ابتدأت صغيرة حقيرة الشأن والأثر، وانتهت عظيمة بفوائدها شديدة بأضرارها، وإن كان انقشاع سحابتها السوداء الكالحة كفيلًا بغيث يروي قشرة القلب الجافة، ويطيب خاطرًا مجروحًا، ويحيي روحًا غابت عنها السعادة، وينعش ذهنًا مكدودًا، وفضل الله أوسع من ذلك كله. 
--
"رام نقش الشوك حينًا رجلٌ *** فاختفى عن ناظريه المحمل
لحظة يا صاحبي إن تغفل *** ألف ميل زاد بعد المنزل"
--
[1]
على بعد أيام من الرحلة الموعودة، يجلس البراء بن محمد مع رفقائه في وقت متأخر من الليل، ليتسامروا ثم ينصرف كل واحد منهم لشأنه. إنه شهر رمضان، حيث يبدو السهر عرفًا محتمًا فيه. 
يسألونه عن مشروع التخرج، الهم المشترك بين أبناء الدفعة الذين بذلوا جهودهم في دفعه وإنجاز مهامّه الثقيلة. 
أ: هل سلمت مشروعك يا براء؟
البراء: أي مشروع؟ لا أزال في الmethodology. وهو الفصل الثالث. 
يشير الرفيقان أ وب بأصابعهما الوسطى إليه، ويلقنانه درسًا في الانضباط والالتزام، حيث أن هذه أيام جمع محصول الحصاد، والتسليم نفسه قد شارف وقته الانتهاء. 
أ: سلّم أي مسودة. اكتب أي شيء، لا تقف هكذا مكتوف الأيدي، إن تجاهل الدكاترة تصحيح مشروعك، فسترسب وتحمل المادة لاحقًا. 
كانت جرعة كافية من اللوم والتقريع للبراء لينهض من تلك الجلسة ويباشر العمل، وينتهي من باقي المشروع في غضون يوم وبضع يوم. 
--
"تجرأنا على الآثام لما *** رأينا العفو من ثمر الذنوب"
--
[2]
يلتقي البراء بالexaminer، وينشر بين يديه أوراق المشروع، وتتوالى الملاحظات المتعلقة بالformat أو صياغة البحث. 
يخرج البراء وقد اعتقد أن ملاحظات الexaminer المتعلقة بالصياغة والشكليات لن تضره كثيرًا، سيعرض المشروع على الsupervisor أو المشرفة وبظنه الغالب (على الخطأ) أنه ستمضيه إمضاء من قرأ الحروف سريعًا ولم يعقل معانيها. كما فعل الexaminer أو المصحح. 
لا يزال ذهن البراء مشغولًا بطائرته التي سيخرج بها من أرض ماليزيا إلى جدة، ليعتمر هناك في آخر يوم في رمضان، ثم يعود إلى الرياض. هكذا كانت الخطة. 
يلتقي البراء بالمشرفة، ويفاجأ بمناقشته في صلب النتائج التي لم يكترث لدقتها كثيرًا. ترفض المشرفة المشروع وتقول أن نتائجه غير مقبولة، وتخبره أنها ستناقش بقية الدكاترة في القسم بشأن ذلك. ينسحب البراء وينتظر التوجيهات منها، ويلغي رحلته، ويخبرها بأنه سينتظرها بفارغ الصبر و[الكثير من التوقعات المتفائلة]. 
هكذا بدأت المعاناة، ألغيت رحلة السفر وبلا مردود مالي لأن أدنى حد زمني لإلغاء الرحلات قد فات (48 ساعة) وانتهى. 
إذن سيمكث هنا، ويمضي عيده وحيدًا بعيدًا عن أهله، جاهلًا بمصير مشروعه. 
تخبره الدكتورة بعد حين أن أمر المناقشة مشروط بفراغ الدكاترة من إجازتهم الطويلة. الجميع يريد قضاء عيد سعيد، فلم شغل النفوس وكد الأذهان بشأن طالبٍ مفرط؟ 
--
"قطعت جهيزة قول كل خطيب"
--
[3]
بعد فترة من اللعب والعبث والانتظار والتخيل، يفاجأ البراء برسالة من مشرفته. مشروعك مرفوض ونتائجه غير مقبولة لأنها غير منطقية، وقد رسبت في المادة، وليس أمامك سوى ثلاث خيارات: أن يمتد مقامك بالجامعة فصلًا إضافيًا، أو فصلين، أو تحمل المادة مجددًا في الفصل القادم. كلها مرة بلا حلاوة، قاسية بلا رحمة. ولا يمكن المفاضلة بينها إلا على سبيل اليأس التام والإحباط الشديد، وإلا فكلها مؤلمة كما تبين ذلك. وإن كان ثالثها أخف خيار فيها بالتأكيد. 
استجمع قوته ورفض الخيارات كلها وأبى إلا أن يعيد تنفيذ المشروع في إجازته التي قرر أن يقضيها بجميع دقائقها وثوانيها في سبيل الخلاص من مشروع التخرج هذا. 
قرأت الدكتورة الرسالة الطويلة، وربما أحست بروح التحدي فيها، أو روح من يحاول عبثًا اللعب في الوقت بدل الضائع، لا تهم هذه التفاصيل كثيرًا، فهي مطوية في سرائر النفوس التي لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى. 
--
"فلو كان سهمًا واحدًا لاتقيته *** ولكنه سهم وثان وثالث" 
--
[4]
التقى البراء يوم الجمعة بالمسؤولة عن المادة، وطلب منها تمديدًا لمهلة التصحيح. لقد تعهدت لنفسي أن أبذل جهدي خالصًا لتجاوز وعثاء هذه المادة ومتطلباتها الكثيرة، وليس في نفسي عزم ولا هم على العودة قبل أن أحصد ما أفتخر به. 
يجب أن تكتب خطابًا تطلب فيه التمديد، ويجب أن توقع عليه مشرفتك، وكذلك رئيس القسم (هل أوحت لك هذه التسمية بمركز الشرطة؟ لا تقلق فلنسمه department). 
كم يكفيني من الوقت لإتمام ذلك كله؟ 
كفى بك تسويفًا أن تنهيه اليوم. 
لا أقبله منك بعد الخامسة عصرًا، بل إنني قد أغادر قبل هذا الموعد، فتأهب وائتني بالخطاب موقعًا عليه من أصحاب الشأن. 
بنفسية قلقة مشحونة، يضرب أرجاء الكلية بحثًا عن رئيس القسم الذي اكتشف لاحقًا أنه قد أخطأ في اسمه ورسمه وصورته. 
يعلق الخطاب أمام مكتب مشرفته، ويمضي وقد علم أن الأمر منتهٍ. احتمال كبير ألا تقبله الدكتورة منه؟ بل لماذا تقبله وقد أمهلته يومًا فأخفق في ذلك؟ 
ولكن ثقة متوارية خلف غياهب المجهول، وتحت ركام الواقع المر، كانت تؤزه ليغدو للجامعة صبح الإثنين، فيستل ورقة الخطاب من مكتب الدكتورة، ويناولها رئيس الdepartment ليوقعها، ثم يسلمها مسؤولة المادة، وكأنها لم تحذره يوم الجمعة، وكأنها لم تؤكد له مرارًا ذلك اليوم أنه نهاية الزمان، وغاية الإمكان. ولكنه التغافل المحمود الذي يجعلنا نطرق جميع الأبواب متمثلين قول الشاعر: "أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته *** ومدمن القرع للأبواب أن يلجا". 
--
"خذ ما تراه ودع شيئًا سمعت به *** في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل" 
--
[5]
أين رئيس القسم لو سمحتم؟ 
ليس موجودًا 
إذن كيف لي أن أجده؟ 
تعامل مع سكرتيرته 
أهلًا، لدي خطاب تمديد مدة مشروع التخرج، وأود منه أن يوقع عليه
تفضل، أعطني رقمك لو سمحت، وسنبلغك حال ما نجد الرد
شكرًا
وبعد يومٍ وبضع يوم من المطل.
أين سكرتيرة رئيس القسم؟ 
ذهبت لتصلي، انتظرها
بعد دقائق
تعال، تفضل الخطاب 
وفي أسفل الخطاب، تقف الحقيقة عارية من أي ثوب وزينة، "لقد فشل الطالب، وعليه أن يحمل المادة مستقبلًا" هكذا لخص رئيس القسم قراره بحسم لا يثنيه التحدي الظاهر في الرسالة. 
ولكن البراء لم يقف عند هذا الحد رغم أنه يمثل النهاية التي ينبغي أن يخضع لها. 
طلب رقمه من زميله، وراسله مستفسرًا عن سبب الرفض، متغاضيًا عن الرفض نفسه، كما لو كان يقول للرئيس بشجاعة: ها أنا ذا برزت لك مجددًا، لأحارب بآخر حرف أنقره في كيبوردي. 
يحيلني على ذات المشرفة التي أحالتني على مسؤولة المادة التي بدورها طلبت مني جمع توقيعي الرئيس والمشرفة. فتم الدور واستغلق الأمر.
فاستدرك عليه البراء بقوله أن المشرفة قد وافقت، ثم حال بينهما الصمت. 
--
"إذا المشكلات تصدين لي *** كشفت حقائقها بالنظر"
--
[6]
وبينما يهضم البراء غذاءه صباحًا، إذ برسالة المشرفة تلفت انتباهه، وتوجه فكره نحوها، لديك 48 ساعة حتى يوم الجمعة مساءً لتسلم الرهينة، أعني مشروع التخرج. 
وانكفأ على لابتوبه ناقرًا لوحته محركًا فأرته ذات اليمين والشمال، بحثًا عن نتيجة تطمئن النفس إليها، وتنطفأ حرارة الشك والجهل بها. 
وفي يوم الجمعة المبارك، سلم البراء بحثه للدكتورة، وتناقش معها برهة من الزمان، واختطا مسارًا مختلفًا لنتائج البحث، مع بعض التعديلات على صيغته. 
راسل الexaminer الثانية وأخبرها أنك تريدها أن تصحح لك بحثك. 
حسنًا، سأفعل ذلك. 
تتفضل عليه الدكتورة لما رأت تأخره، وتمنحه مهلة ذهبية ليعدّل بحثه. 
في يوم السبت، تأخر البراء، وتأخرت الدكتورة، ثم تأخرت أكثر، فتعادلا في التأخر. 
سلمها البحث فشددت على الjustifying كانت هذه المهارة رغم ضآلتها وبساطتها غائبة عن ذهنه، بحث عن زميلٍ يساعده، فوقع على صديقه ح الذي حل مشكلته ببساطة. لم يأخذ الأمر أكثر من بضع دقائق، لتنتهي مشكلة استغرقت الكثير من المسودات. 
ثم أحاط البراء مسودته بجلد كثيف ليسلمها يوم الإثنين مضمنة توقيع الexaminers، فيوم الإثنين آخر يوم بالتأكيد. لم يكن يوم الجمعة، كما قد بدا للذهن. 
اقترب النصر، اقترب الفرج. 
إنها الeuphoria أخيرًا! 
--
"إذا تم أمرٌ بدا نقصه *** ترقب زوالًا إذا قيل تم"
--
[7]
ها قد جاءكم البراء يا أهل الكلية، بروحٍ يملؤها الحماس والثقة الكبيرة بانتهاء أزمة مشروع التخرج، والخلاص من عنق الزجاجة الذي علق في منتصفه. 
تعالي أيتها الexaminer، تعالي لنطلعك على فرائد البحوث، ونفائس العلوم، وخلاصة الأفكار والفهوم، حياك الله وتوقيعك الذي سيفتح مغلاقًا اشتد علينا كثيرًا. 
ولكنها تستغل ضيق الوقت الذي جادت به على الطالب المسكين لتقلب أوراق البحث يمنة ويسرة وفوقًا وتحتًا، وتوفق بين خطين تقاطعا ليقطعا كل بادرة أمل سبقت إلى النفس ذلك اليوم. لقد أمسكت بأطراف الكتاب فنفضته، وأسقطت ما بين سطوره من الكلمات والأرقام، وأبطلت صياغته، وقفزت بعد ذلك إلى النتيجة النهائية. يجب أن تعيد طباعة البحث مجددًا مع تلافي الأخطاء الفنية الكثيرة التي أشرت إليها بالقلم الأسود. أطل العنوان، واحش الفراغات بين الأقسام بمفيد الكلام عند النحاة حتى وإن كان لغوًا عند القارئ الكريم. 
أسقط في يدي البراء، وسقط قبلهما قلبه، وخرت نفسه من ذرى الآمال والخيالات إلى قيعان الواقع الموحشة. هبطنا من قمة المجد إلى قعر الذل والبؤس. 
لقد خسرت كل شيء. 
يتوسل إلى المسؤولة، لتخبره بأن النظام قد قضى قضاءه فلا قوة لها عليه إلا إن وافق أربابه. والدكتورة تأبى أن تمنح موافقة مبدئية يستطيع بها البراء أن يستجمع ماء وجهه وعزة نفسه مجددًا، ويصوب أخطاءه ويكفّر عنها بطبعة جديدة ترضي الدكتورة. 
ينام قليلًا في المصلى، وقد جثم الهم على صدره قبل أن يزيحه متوجهًا إلى إدارة الجامعة. 
"الحمد لله على كل حال"، "ليس لدي ما أخسره بعد الآن"، "فلأطرق هذا الباب، عله يسفر عن فرج قريب". 
توجه نحو مكتب الإدارة، وقد استحضر بعض مهارات الإقناع التي يعرفها. ولم يواجههم بغير الصراحة المباشرة. 
"أنا طالبٌ في سنتي الأخيرة [المفترض]، وأتمنى أن تمهلوني وقتًا لأنهي مشروعي. أخبرتني الدكتورة أن مفاتيح الأمر بيدكم، فهلا تفضلتم علي بفتح المغلاق؟"
"لا بأس، أخبر دكتورتك أن تتصل بنا لنفتح النظام، أمهلناك إلى الخميس، فاستغل وقتك، فلا مهلة بعد ذلك."
ينطلق وقد تحررت روحه من غل الإحباط الذي كسر إرادتها وأركسها لحزنٍ عميق وبغض لتلك الدكتورة التي لطالما تجاهلت رسائله كما لو كان متسولًا لحوحًا. 
--
"رب يوم بكيت منه فلما *** صرت في غيره بكيت عليه"
--
[8]
كان الدوام رغم عبئه وكثرة الواجبات والمحاضرات التي نفهم نصفها بنصف ذهن، ويفسد نصفها نصف الذهن الباقي، أخف وطأة وحالًا من دوام الإجازة الذي اكتنفه ضغط شديد، ووحدة في كلية موحشة إلا من بعض طلبة الماجستير هنا وهناك. وزاد الشقاء شقوة وبلاءً أن واجهت دكتورة تقطع بصمتها المريب كل سبيل للتواصل الأكاديمي الذي أحتاجه، وتجدد لي في كل مسودة أخطاء ضل عنها قلمها في المرة الماضية.
لم أكن أحسب الرينجتات (العملة الماليزية) التي تخرج من يديّ كلما هممت بالطباعة، ولكنني أتحسس أثرها لأنها مال محدود لا قِبل لي بزيادته الآن.
ومع تراكمات الضغوط والأعباء، بدت الغلطات الصغيرة أسواطًا تستفحل بها جراح النفس وتُنكأ بعد أن تجلطت.
طبعت عدة أوراق، وتهيأت لطباعة غيرها، كنت أطبع بعض الأوراق ملونة والأخرى بيضاء وسوداء توفيرًا للمال واستجابة لدواعي العقل التي لا تغرر النفس لتقدم على عملٍ لا طائل من ورائه.
كانت الصدمة كفيلة بإعادة موجات التوتر إلى النفس، لقد طبعت الأوراق الملونة بحبر أبيض وأسود، كانت حماقة صغرى يمكن تجاوزها لولا أن سياق اللحظة لم يسمح بذلك. كيف تقع في غلطة كهذه وأنت تطبع بحثك؟ ما هذه التفاهة التي شغلت ذهنك وقتها وأنت تهيئ الأوراق للطباعة؟
ولولا لطف الله وتخفيف إحداهن وقتها، لانجرف في سيل من السلبية القاتلة.
--
"أبعين مفتقرٍ إليك نظرتني *** فأهنتني ورميتني من حالقِ
لست الملومَ أنا الملومُ لأنني *** علقت آمالي بغير الخالقِ"
--
[9]
ها قد أتى يوم الخميس، "السعد وافانا"، إننا بإذن الله منتصرون.
انطلق إلى الجامعة مبكرًا في باصها والأمل يحدوه، وتدفعه ثقة بالنصر والتأييد.
يتمنى لو يصل بروحه إلى مكتبها قبل أن يحمله جسدها، إنه الحماس البالغ.
ما الذي يجري؟ لقد تأخرت الدكتورة، لا بأس. إلى مكتب الإدارة، سأستلم ورقة صديقي ح.
المكتب مغلق أيضًا، همم لا بأس. إلى معمل الكمبيوتر. إنه موصد أيضًا.
ويظل متجولًا في حلقة محكمة الإغلاق وهي كلية الهندسة.
تمر الساعة تلو الساعة، ولا دكتورة ولا إدارة، وقد بلغ توتر البراء غايته القصوى.
بدأت ثقته بالخلاص تتلاشى شيئًا فشيئًا، إنه محبطٌ من هذا الواقع الذي لا يحترم ذاته ولا يضع اعتبارًا لإنسانيته.
لست طالبًا للعلم والمعرفة هنا، بل وظيفتك هي طاعة الدكاترة في كل ما يقولونه وعدم الاعتراض عليهم وانتقادهم.
من حقهم أن يتأخروا عليك، من حقهم أن يماطلوك، من حقهم أن يعاملوك وفقًا لأمزجتهم المتقبلة، من حقهم أن يتلاعبوا بوقتك تلاعب الصبيان بالكرة، ومن حقهم قبل ذلك كله أن يرفعوا أنوفهم نحو السماء إزراء بك.
--
"هم وغمٌ حيرةٌ وتوجعٌ *** في دارنا ومصائبٌ تتدافعُ"
--
[10]
تصطدم ثقة البراء بيوم آخر ثقيل على النفس، ولكنه آخر يومٍ للتسليم. لقد كان ضغطه شديدًا لا يمكن احتماله، فهو اليوم الأخير، كما أنه لم يسبق بما يبشر بالرفض والخسارة وخيبة الأمل.
تتحطم هذه الثقة وتتناثر ككرات الثلج التي ارتطمت بصخرة قوية، وتشتد كربته لتبلغ ذروتها التي لم يتخيل إحساسها يومًا.
يزداد الضغط، يولّد الانفجار، ولكنه انفجار من نوع آخر.
لقد دمعت عيناه، لقد انكسر أخيرًا، ولكنه توجه باعوجاجه إلى السماء.
علم أن خالقه لن يضيعه ما دام ملتجئًا إليه، رفع كفيه إلى السماء التي يحجبه عنها سقف اسمنتي ولهج بالدعاء لدقائق.
ثم غسل وجهه، وانطلق ساعيًا إلى مكتب الإدارة، وأصر على أن ينهي معاملة صديقه أولًا.
--
"عسى الكرب الذي أمسيت فيه *** يكون وراءه فرج قريب
فيأمن خائف ويفك عانٍ *** ويأتي أهله النائي الغريب"
--
[11]
لقد تهللت روحه وانفرجت أسارير وجهه لما تمت معاملة صديقه على الوجه الذي يحبه ويرضاه، فأقبل على القسم يمشي مسرعًا ليدرك روح الدكتورة في مكتبها.
وقد أدركها، ومنحته توقيعها الذي استعصى عليه حتى كاد أن يستحيل ويمتنع.
حمد الله كثيرًا، وسجد لله شكرًا على نعمه الغزيرة وآلائه الجسيمة.
--
استفاد البراء كثيرًا من مر هذه التجربة القاسية، وعلم أن الله كافٍ عباده المؤمنين، وأنه لا يخلو أحدهم من بلاء يكفر به السيئات، وعرف أن إدراك طباع الدكاترة مهم قبل الإقبال عليهم.
وتعلم أن الفرص إذا ذهبت لا تعود، وأن التسويف ما أتى بخير يومًا ما.
وأدرك أنه لا ضمان في دار التقلب والشك.
وعرف قبل ذلك أن الله يفتح مئات الأبواب للناس إن سعوا في طرقها وفتحها.
وأنه أرحم بهم من أمهاتهم.
فلك الحمد يا الله على كل نعمة ورحمة.
--
البراء بن محمد
ليلة الجمعة وصبيحتها 1438/10/27هـ
2017/7/21م
 --
ملحق:
كلمات البراء بن محمد بعد زوال الكرب:
الحمد لله مفرج الكربات، ومزيل الهموم، والصلاة والسلام على نبيه الكريم الذي علمنا الالتجاء إلى الرحمن الرحيم في أوقات الشدة والبأس، وإن كانت حاجتنا إليه باقية دائمة ما تردد نفس في صدورنا، وتحرك دم في عروقنا.
الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه.
الحمد لله الذي لطف بعباده المؤمنين، وابتلاهم بالنعم ليشكروه، وبالنقم ليصبروا ويرضوا بقضائه.
الحمد لله الذي غرس اليقين والطمأنينة في قلوبنا وقت الشك والريب، وربط عليها بالعزيمة والصبر في وقت الخور والضعف، وأغناها عما سواه في وقت الحاجة والفقر.
اللهم لك الحمد على أن خلصتني من معاناة دامت شهرًا، وكان قهرها وبأسها دهرًا في طوله وانقطاع الأمل منه.
لك الحمد يا الله أن رحمتني وتقبلت دعائي، فازداد يقيني بك وبموعودك للصالحين.
اللهم اكتب لي أجر الصبر، وارزقني لذة الانتصار، وأدخلني مدخلًا كريمًا يوم لا ينفع مال ولا بنون.
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
سيظل هذا اليوم ذكرى خالدة في النفس، ويكون وقودًا للعمل الدؤوب النافع في قابل الأيام.
الخميس
1438/10/26هـ
2017/7/20م
..