الثلاثاء، 10 يناير 2017

لا إسلام بلا مسلمين ولا مسلمين بلا إسلام


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبيه الأمين وآله وصحبه أجمعين،
أما بعد.
"إسلام بلا مسلمين ومسلمون بلا إسلام"
كتبت عن هذه العبارة الشهيرة مقالًا صغيرًا (البحث المتين في إبطال عبارة إسلام بلا مسلمين) [1] منذ ما يربو على ثلاث سنين، وأتبعته بحاشية للتوضيح والبيان [2]، ولكن استجدت لي بعض المعلومات التي ستُحكِم -بإذن الله- نقدي وتجعله متينًا حقًا وعصيًا على النقض.
-
تقوم عبارة "إسلام بلا مسلمين" على مقدمتين مضمرتين فيها، وهما:
1-     عمارة الأرض غاية كبرى دعا إليها الإسلام.
2-     حقق الغربيون عمارة الأرض وكانوا متخلقين بأخلاق الإسلام فحققوا بذلك غاية كبرى من غايات الإسلام.
النتيجة = أقام الغربيون الإسلام برغم كفرهم به.
والعبارة تعني أن الإسلام ظاهر أو قائمٌ في بلاد الغربيين (الأوروبيين-الأمريكان-اليابانيين) رغم كفرهم بالله.

-
نقد المقدمة الأولى:
"خُلقنا/وجدنا لنعمر الأرض"
هذه العبارة ونظائرها لا تختلف كثيرًا عن الاعتقاد بأن كمال الإنسان وشرفه يكمن في أكله وشربه ونكاحه. لأن عمارة الأرض والعلو فيها وامتلاك مادتها إنما هي وسائل يستخدمها الناس ليعيشوا برفاهية ورخاء ويشبعوا غرائزهم الطبيعية التي يشتركون فيها مع الحيوانات والحشرات.
فليس الغريب -إذن- أن يقولها علماني متهافت على دنياه الزائلة أو ملحد عديم العقل (والفروق بينهما تكاد تنعدم حقيقةً)، فهذا اتساق منهم مع مبادئهم ومعتقداتهم. وإنما الغريب والعجيب أن يرددها ويلوكها مسلمٌ موحد يعلم أن الله عز وجل قال في كتابه: ((وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)) [الذاريات/56].

ثم إن الأمم السابقة كعاد وثمود قد حققوا هذه الغاية التي هي عمارة الأرض بشهادة القرآن نفسه، فقد قال الله عز وجل: ((أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون)) [الروم/9] وقال تعالى: ((ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين*وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين*وكانوا ينحتون من الجبال بيوتًا آمنين)) [الحجر/80-82]. والآيات في ذلك كثيرة.
والشاهد هنا أن الله أرسل الرسل إليهم بالكتب وأيدهم بالمعجزات ليؤمنوا بالله وحده ويذروا شركهم وكفرهم، ولو كانت عمارة الأرض مقصودة بذاتها لنبه الله إليها في القرآن. وهل وردت عمارة الأمم السابقة في القرآن إلا في سياق الذم والقدح؟
ماذا عن أحاديث الزهد في الدنيا؟ ماذا عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل"؟ وماذا عن قوله عليه الصلاة والسلام: "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر"؟ هل يتسق كل هذا مع القول بأن الإنسان مطالبٌ بأن يعمر الأرض ويبنيها؟
قد يقولون بأنها ضرورة للعيش، وعلى التسليم بذلك فإن الأكل والشراب والنكاح ضرورات حياتية لا غنى للإنسان عنهم، ومع ذلك فلا يقول عاقل فضلًا عن مسلم موحد أنها غايات وجود الإنسان. فما الفارق المؤثر بينها وبين (عمارة الأرض)؟
فتبيّن بذلك أن عمارة الأرض ليست غاية إسلامية فضلًا عن أن تكون معيارًا لتمسك المرء بالإسلام. وقصارى ما يقال عنها -كما يقول الشيخ كمال المرزوقي [3]- أنها مباحة لم يدع إليها الإسلام ولم ينه عنها.
-
نقد المقدمة الثانية:
لما تبين أن عمارة الأرض ليست مقياسًا لإسلام المرء وتقواه، وأنها لا تخرج الغربيين وأضرابهم من الذم الذي لحق بالأمم السابقة لكفرهم بالله وتكذيبهم بالنبوة، قال بعض من يصحح عبارة "إسلام بلا مسلمين" أن المقصود هو الأخلاق الإسلامية الرفيعة كالعدل والأمانة والصدق وما أشبه ذلك.
فلما ظهر لنا أن الغربيين يقيمون هذه الأخلاق، قلنا بإقامتهم للإسلام حتى وإن لم يكونوا مسلمين.
والحق أن هذا استدلال باطلٌ ركيك كسابقه ويتبين بما يلي:
1-     من قال أن الأمم السابقة وجاهلية العرب -على وجه التحديد- كانت خالية من الأخلاق الحميدة؟ ألم يتصف عرب الجاهلية بإكرام الضيف والغيرة والشجاعة وسقاية الحجيج؟
فهل أغنى ذلك عنهم من الله شيئًا؟ هل كان ذلك كافيًا لرفع وصفهم القرآني والنبوي بالجاهلية؟
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ((وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب)) [رواه مسلم]، وفي ذلك يقول الإمام النووي رحمه الله: "والمراد بهذا المقت والنظر ما قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد ببقايا أهل الكتاب الباقون على التمسك بدينهم الحق من غير تبديل" [4].
وقد قالت عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: ((يا رسول الله، إن ابنَ جدعان كان في الجاهلية: يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذاك نافعُه؟ قال: لا ينفعه إنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين)) [رواه مسلم]
وقد قال الله تعالى: ((أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين)) [التوبة/19].
2-     أعمال الكافرين مهما صلحت وحسنت فإنها لا تساوي -عند الله- ذرة من أعمال المسلمين، لأن العمل الصالح المقبول في الإسلام هو ما كان صاحبه مخلصًا لله تعالى متابعًا للنبي صلى الله عليه وسلم متحريًا بذلك عبادة الله على الوجه الذي يرضيه، فهل توصف أعمال الغربيين الكافرين الذين ما قصدوا الله سبحانه وتعالى بعبادة أو عمل ولم يتابعوا النبي صلى الله عليه وسلم بل ازدروا سنته ودينه بأنها إسلام؟ هم أنفسهم لم يريدوا موافقة الإسلام، فكيف يصح لعاقل أن ينسب أفعالهم إلى الإسلام لمجرد اتفاقهما في بعض النتائج؟ وهل هذا إلا عين الترقيع الأجوف؟
3-     الحكم بأن بعض أفعال الكافرين إسلام بناءً على اشتراكها الكلي مع الإسلام يؤول إلى التناقض الظاهر. فالحض على بر الوالدين -مثلًا- قيمة يشترك فيها الإسلام والنصرانية، فهل يصح أن نحكم على البار بوالديه بأن فيه إسلامًا ونصرانية لمجرد بره بهما؟ وهل هذا إلا تناقض فاحش؟!
4-     معنى الإسلام واضحٌ كما في الحديث الذي رواه مسلم: ((الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً‏))، فلا يصح حمله على مجرد الأخلاق التي تتفق مع الإسلام. إذ أن بطلان أصل الإسلام وهو توحيد الله سبحانه وتعالى يقضي على الفرع بالبطلان. والإسلام بهذا الاستخدام الاعتباطي للفظه ينتقل من كونه دينًا أنزله الله على الناس إلى مجرد أخلاقيات شكلية يشترك فيها مع غيره ولا يتميز بها عما سواه.
5-     أن يقال وصفكم لأفعال الغربيين بأنها إسلام لا يخلو إما أن تكون كل الإسلام أو بعضه، أي -بعبارة أخرى- إما أن يكون الغربيون قد أقاموا الدين كله بحذافيره أو بعضه. والأول ممتنع بطبيعة الحال لأن الغربيين كافرون بالله ونبيه صلى الله عليه وسلم ولا يؤمنون بالبعث والنشور كما في القرآن والسنة ولا يقيمون الصلاة...إلى آخر ذلك. فتبيّن بذلك أنهم مقيمون لبعض الإسلام. فيقال لكم: من أين لكم أن هذا القدر من أفعالهم كافٍ ليوصف بأنه إقامة للإسلام؟ ولم لا تكون إقامة الدين حقًا قدرًا أكبر مما فعله الغربيون؟ ومن هنا فإما أن يضعوا حدًا معقولًا له دليل من القرآن والسنة، أو يجعلوا نسبة العمل الواحد للإسلام كنسبة الأعمال الكثيرة. والأول اعتباطي لا حقيقة له والثاني ممتنع.
6-     يتفق أصحاب "إسلام بلا مسلمين" أنه ليست كل أفعال الغربيين موافقة للإسلام، فمنها كبائر عظمى كشرب الخمر والزنا، ومنها ما يناقض الإسلام حتمًا كاستحلال الحكم بغير ما أنزل الله والتكذيب بالقرآن. فيقال أن بعض أفعالهم توافق ما يدعو إليه الإسلام كالصدق والعدل، وهذا يختلف تمامًا عن القول بأن أفعالهم إسلام أو أنها تقتضي قيام الدين في بلادهم.

-
فتبين بعد هذا البسط المجمل أن عبارة "إسلام بلا مسلمين" جوفاء لا قيمة لها، بل معناها باطل وفاسد حتمًا لما فيه من وضع الشيء (الإسلام) في غير موضعه (الكافرين) وهذا عين الظلم والبغي.
فالغربيون جاهليون كمشركي العرب، ظالمون لغيرهم كقوم شعيب، ومتبعون لشهواتهم كقوم لوط.
والحمد لله رب العالمين.


-
البراء بن محمد
ماليزيا
الثلاثاء 1438/4/12هـ
الموافق 2017/1/11م