الخميس، 13 ديسمبر 2018

من شجعان المنافقين

بسم الله الرحمن الرحيم 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه الأمين، وآله وصحبه أجمعين. 
أما بعد، فلما كنت أطالع بعضًا من تفسير شيخ المفسرين محمد بن جرير الطبري رحمه الله، وجدته قد أشار إلى قزمان، أحد المنافقين ممن "لا تنكر شجاعته، ولا تدفع بسالته" فهو "الذي لم يقم مقامه أحد من المؤمنين يوم أحد" (1). 
ولا شك أن وصف منافقٍ بالشجاعة والبسالة مما يثير الانتباه والاهتمام، كيف لا والمعهود عن المنافقين الكذب والجبن والتخذيل عن طاعة الله سبحانه وتعالى، وبالأخص الجهاد في سبيله. 
غير أن لابن جرير رحمه الله تفسيرًا مهمًا لخذلان المنافقين النبي صلى الله عليه وسلم في غزواته حيث يقول:
"وإنما كانت كراهتهم شهود المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركهم معاونته على أعدائه؛ لأنهم لم يكونوا في أديانهم مستبصرين، ولا برسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقين، فكانوا للحضور معه مشاهده كارهين، إلا بالتخذيل عنه" (2).
وعلى كل حال، فقد رجعت إلى كثير من المصادر التاريخية، لمعرفة حقيقة قزمان هذا، والنظر إلى شجاعته التي أثارت اهتمام الطبري رحمه الله. 
ثم اعتزمت نشر ما جمعته من نقول وإحالات، وفيها من التفاصيل والاختلافات ما يلفت النظر. 
الجدير بالذكر أنه قد جاء في الصحيحين خبر قاتل نفسه الذي أبلى بلاء حسنًا في القتال حتى استبشر الناس به خيرًا. ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أهل النار، وقد أزهق روحه بنفسه جزعًا. إلا أن هذا الخبر لا يتضمن النص على اسمه. 
وهذه القصة فيها عبرة ظاهرة تحمل العاقل على أن يسأل الله الإخلاص والثبات. 
-
الواقدي
"وكان قزمان من المنافقين وكان قد تخلف عن أحد فلما أصبح ، عيره نساء بني ظفر فقلن : يا قزمان قد خرج الرجال وبقيت يا قزمان . لا تستحي مما صنعت . ما أنت إلا امرأة خرج قومك فبقيت في الدار فأحفظنه . فدخل بيته فأخرج قوسه وجعبته وسيفه ، وكان يعرف بالشجاعة ، فخرج يعدو حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسوي صفوف المسلمين فجاء من خلف الصفوف حتى انتهى إلى الصف الأول فكان فيه . وكان أول من رمى بسهم من المسلمين ، فجعل يرسل نبالا كأنها الرماح ، وأنه ليكت كتيت الجمل ، ثم صار إلى السيف ففعل الأفاعيل ، حتى إذا كان آخر ذلك قتل نفسه . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكره قال : من أهل النار فلما انكشف المسلمون كسر جفن سيفه وجعل يقول : الموت أحسن من الفرار . يا آل الأوس قاتلوا على الأحساب واصنعوا مثل ما أصنع . قال : فيدخل بالسيف وسط المشركين حتى يقال قد قتل ، ثم يطلع ويقول : أنا الغلام الظفري ، حتى قتل منهم سبعة . وأصابته الجراحة وكثرت به فوقع فمر به قتادة بن النعمان فقال : أبا العيداق قال : باليتك* قال : هنيا لك الشهادة . قال قزمان: إني والله ما قاتلت يا أبا عمرو على دين. ما قاتلت إلا على الحفاظ أن يسير قريش الينا حتى يطأ سفعنا . فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم جراحته فقال ((من أهل النار)) فاندبته الجراحة فقتل نفسه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر))" (3).
* كذا في الأصل ولعلها يا لبيك
وقال في موضع آخر:
"قالوا: وكان قزمان عديدا في بني ظفر ، لا يدرى ممن هو . وكان لهم حائطا محبا ، وكان مقلا لا ولد له ولا زوجة ، وكان شجاعا يعرف بذلك في حروبهم تلك التي كانت تكون بينهم ، فشهد أحد فقاتل قتالا شديدا فقتل ستة أو سبعة وأصابته الجراح . فقيل للنبي عليه السلام : قزمان قد أصابته الجراح . فهو شهيد . قال : من أهل النار . فأتى* إلى قزمان فقيل له : هنيئا لك يا أبا الغيادق الشهادة . قال : بم تبشرون والله ما قاتلنا إلا على الأحساب . قالوا : بشرناك بالجنة قال : جنة من حرمل والله ما قاتلنا على جنة ولا نار ، إنما قاتلنا على أحسابنا . فأخرج سهما من كنانته فجعل يتوجأ به نفسه ، فلما أبطأ عليه المشقص ، أخذ السيف فاتكأ عليه حتى خرج من ظهره . فذكر ذلك للنبي عليه السلام قال : (( من أهل النار ))" (4).
* كذا في الأصل ولعلها فأتي 
وقد نقل ابن الجوزي قصة قزمان من الواقدي وجزم أنه المقصود في حديث الصحيحين (5)، إلا أن ابن حجر تعقبه (6).
-
ابن هشام
"وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، قال: كان فينا رجل أتي لا يدرى ممن هو، يقال له: قزمان، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا ذكر له: ((إنه لمن أهل النار))، قال: فلما كان يوم أحد قاتل قتالًا شديداً . فقتل وحده سبعة أو ثمانية من المشركين، وكان ذا بأس فأثبتته الجراحة. فاحتمل إلى دار بني ظفر، قال: فجعل رجال من المسلمين يقولون له: والله لقد أبليت اليوم يا قزمان، فأبشر، قال: بماذا أبشر؟ فوالله إن قاتلت إلا عن أحساب قومي، ولولا ذلك ما قاتلت. قال: فلما اشتدت عليه جراحته أخذ سهماً من كنانته، فقتل به نفسه." (7).
-
الطبري 
"حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة قال : حدثني محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، قال : كان فينا رجل أتيٌ لا يدرى من أين هو ، يقال له قزمان ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا ذكر له: إنه لمن أهل النار ؛ فلما كان يوم أحد ؛ قاتل قتالًا شديدًا ، فقتل وحده ثمانية من المشركين أو تسعة ؛ وكان شهمًا شجاعًا ذا بأس ؛ فأثبتته الجراحة ، فاحتمل إلى دار بني ظفر . قال : فجعل رجال من المسلمين يقولون : والله لقد أبليت اليوم يا قزمان ؛ فأبشر ! قال : بم أبشر ! فوالله إن قاتلت إلا على أحساب قومي ؛ ولولا ذلك ما قاتلت ؛ فلما اشتدت عليه جراحته ، أخذ سهمًا من كنانته فقطع رواهشه فنزفه الدم فمات ؛ فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أشهد أني رسول الله حقًا !" (8).
-
ابن عبدالبر
"وكان في بني ظفر رجل لا يدرى ممن هو يقال له قزمان أبلى يوم أحد بلاءً شديدا ، وقتل يؤمئذ سبعة من وجوه المشركين ، وأثبت جراحا ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمره ، فقال : هو من أهل النار . وقيل لقزمان : أبشر بالجنة ، فقال : بماذا ؟ وما قاتلت إلا عن أحساب قومي . ثم لما اشتد عليه ألم الجراح أخرج سهما من كنانته ، فقطع به بعض عروقه ، فجرى دمه حتى مات" (9).
-
ابن حجر
"قزمان بن الحارث، حليف بني ظفر صاحب القصة يوم أحد .
قيل: مات كافراً فإن في بعض طريق قصته أنه صرح بالكفر، وهذا مبني على أن القصة وقعت لواحد. وقيل: إنها تعددت.
قال ابن قتيبة في ((المعارف)) : قتل نفسه، وكان منافقاً، وفيه قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر)).
وذكر ابن إسحاق والواقدي قصته، وأنه كان عزيزاً في بني ظفر، وكان لا يدري من أين أصله.
قال الواقدي: وكان حافظاً لبني ظفر، ومحبا لهم، وكان مقلا لا ولد له ولا زوجة، وكان شجاعاً يعرف بذلك في حروبهم التي كانت بين الأوس والخزرج، فلما كان يوم أحد قاتل قتالاً شديداً، فقتل ستة أو سبعة حتى أصابته الجراحة، فقيل له: هنيئاً لك بالجنة يا أبا الغيداق. قال: جنة من حرمل، والله ما قاتلنا إلا على الأحساب.
وقيل: إنه قتل نفسه. وقيل: بل مات من الجراح، ولم يقتل نفسه.
وفي صحيح البخاري من رواية أبي حازم، عن سهل بن سعد- أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم التقى هو والمشركون ... فذكر الحديث، وفيه: وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجل لا يدع شاذة ولا فاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه، فقالوا: ما أجزأ عنا أحد كما أجزأ فلان. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أما إنه من أهل النار)). فقال رجل من القوم: أنا أصاحبه، فخرج معه، قال: فجرح جرحاً شديداً فاستعجل الموت، فوضع نصل سيفه بالأرض، ثم تحامل على سيفه، فقتل نفسه.. الحديث؛ وفي آخره: ((إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار." (10).
-
على الهامش:
1- تصفحت سيرة ابن إسحاق ودلائل النبوة للبيهقي وكذلك أسد الغابة لابن الأثير سريعًا فلم أجد ذكرًا لخبر قزمان، على أن ابن الأثير نقل خبر قزمان في تاريخه (11) كما أن البيهقي نقل خبر الصحيحين في باب غزوة خيبر (12).
2- ذكر خليفة بن خياط بعض من قتلهم قزمان فقال: "وكلاب بن طلحة والحارث بن طلحة قتلهما قزمان حليف بني ظفر" "وأبو يزيد بن عمير بن عبدمناف بن عبدالدار قتله قزمان ، وصؤاب —عبد لهم حبشي— قتله قزمان" (13).
3- ذكر ابن كثير في تاريخه القصة بنحو ما ذكره الطبري (14).
-
والله أعلم وأحكم
ليلة الجمعة 1440/4/7هـ
2018/12/14م 
(1)
(جامع البيان عن تأويل آي القرآن، أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، تحقيق: عبدالله بن عبدالمحسن التركي، دار هجر، ط1 1422هـ-2001م، الجزء الأول، ص377).
(2)
(جامع البيان عن تأويل آي القرآن، أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، تحقيق: عبدالله بن عبدالمحسن التركي، دار هجر، ط1 1422هـ-2001م، الجزء الأول، ص377).
(3)
(مغازي رسول الله، أبو عبدالله محمد بن عمر الواقدي، ط1 1367هـ-1948م، ص174-175).
(4)
(مغازي رسول الله، أبو عبدالله محمد بن عمر الواقدي، ط1 1367هـ-1948م، ص205-206).
(5)
(كشف المشكل من حديث الصحيحين، أبو الفرج عبدالرحمن [بن علي] بن الجوزي، تحقيق: علي حسين البواب، دار الوطن، ط1 1418هـ-1997م، الجزء الثاني، ص272-273).
(6)
(فتح الباري بشرح صحيح الإمام أبي عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، إخراج: محب الدين الخطيب، المكتبة السلفية، الجزء السابع، ص472).
(7)
(السيرة النبوية، [أبو محمد عبدالملك] بن هشام، تخريج: عمر عبدالسلام تدمري، دار الكتاب العربي، ط3 1410هـ-1990م، الجزء الثالث، ص51).
(8)
(تاريخ الرسل والملوك، أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، ط2 1968م، الجزء الثاني، ص531).
(9)
(الدرر في اختصار المغازي والسير، يوسف بن عبدالبر النمري، تحقيق: شوقي ضيف، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، ط 1386هـ-1966م، ص161).
(10)
(الإصابة في تمييز الصحابة، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تحقيق: عادل أحمد عبدالموجود وعلي محمد معوض، دار الكتب العلمية، ط1 1415هـ-1995م، الجزء الخامس، ص335-336).
(11)
(الكامل في التاريخ، أبو الحسن عز الدين علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبدالكريم (ابن الأثير)، تحقيق: أبو الفداء عبدالله القاضي، دار الكتب العلمية، ط1 1407هـ-1987م، الجزء الثاني، ص55).
(12)
(دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، تخريج: عبدالمعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، ط1 1408هـ-1988م، الجزء الرابع، ص252-254).
(13)
(تاريخ خليفة بن خياط، خليفة بن خياط، تحقيق: أكرم ضياء العمري، دار طيبة، ط2 1405هـ-1985م، ص68).
(14)
(البداية والنهاية، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي، تحقيق: عبدالله بن عبدالمحسن التركي، دار هجر، ط1 1419هـ-1998م، الجزء الخامس، ص415).

الثلاثاء، 16 أكتوبر 2018

البراء بن محمد مؤلفًا (إصدار كتاب انتظار لن ينتهي)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء المرسلين، وآله وصحبه أجمعين. 
أما بعد، 
فإن مشاعر الفرح والفخر تتجدد في هذا اليوم المبارك، وهو الذكرى الأولى لإصدار كتابي (خمسون كلمة). 
ولأن وقع الذكرى على نفسي عظيم بالغ الأثر، فقد قررت أن أحتفل بها احتفالًا استثنائيًا يليق بذلك الحدث الجميل. 
وأصدرت النسخة الثانية من الكتاب بعنوان مختلف وهو (انتظار لن ينتهي وخمسون كلمة أخرى).
راجيًا من الله أن يقبل عملي هذا، ويطرح فيه البركة، ويشيع ما فيه من علم بين الناس. 
والحمد لله أولًا وآخرًا. 

رابط الكتاب: 

رابط ثانٍ للكتاب:


والله أعلم وأحكم. 

البراء بن محمد 
ماليزيا
الثلاثاء 1440/2/7هـ - 2018/10/16م 

الجمعة، 27 أبريل 2018

دعوة صالحة تحيي أملًا

بسم الله الرحمن الرحيم 
الحمد لله رب العالمين 
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم
اللهم ارض عن الصحابة الكرام، واجمعنا معهم في أعالي الجنان
أما بعد، 
فهذه خاطرة مقتضبة تعبّر عن مكنونٍ في النفس. قد تطاول عليه الدهر كثيرًا حتى كاد ينسى لولا مشيئة الله ورحمته ولطفه التي اقتضت أن يخرج من ذلك الركام المظلم. 
-
رحم الله جدتي أم والدي وأعلى منزلتها في الجنة. 
ليس خبر وفاتها -يغفر الله لها- بجديدٍ علي، فقد عايشته منذ ما يربو على أكثر من عامين، وبكيتها كثيرًا وقتها، وتمنيت أن أكون بقربها لولا حيلولة البحار والمحيطات، وبعد الأراضي وسعة المساحات. 
لقد تذكرتها أخيرًا، ويا لجمال الذكرى التي ترتبط بالخير والإحسان! 
ها أنا أستحضر خيالها، وأحاول استذكار صوتها الهادئ، ودعواتها الصالحة المباركة. 
لقد كان من تقصيري تجاهها -والله المستعان- أنني لم أسع إلى تعلم رطانتها التي كانت تخفى علي كثيرًا، لوجود أحفادها البررة الذين يعرفون شؤونها ويعتنون بها، ويتواصلون معها دومًا. فيترجمون لي ما خفي واحتجت لمعرفته. 
والمهم هنا، ذلك الموقف الجميل الذي تكرر وتقرر في الوجدان حتى انقطع من الواقع، ورحل تاركًا خلفه روعة الآثار، والخير العظيم. 
كانت جدتي رحمها الله وغفر لها تدعو لي كأي جدة تحب حفيدها وترجو له الخير، ولكن دعوتها كانت متفردة ومختلفة كتفردها وتميزها. 
كانت رحمها الله تدعو لي بحفظ القرآن! 
استحضار كتاب الله وكلامه في الصدر؛ إنها منقبة عظيمة لا أعرف أحدًا تمناها لي بصدق بعد والديّ الكريمين -أطال الله عمرهما في طاعته ورزقني برهما- غير جدتي. كيف لا وهي قد فرحت كثيرًا -فيما بلغني- عندما كنت إمامًا مؤقتًا لمسجد صغير. 
لقد انتقلت إلى رحمة الله قبل أن تتحقق هذه الأمنية العظيمة، وكم أدركت هول تفريطي بعد أن رحلت مني. 
اللهم اغفر لي وارحمني وأعني على حفظ كتابك وضبطه واستحضاره.
عادت بي الذكرى في تلك اللحظة العابرة إلى هذه الدعوة المباركة التي تكررت علي سنين كثيرة، فعلمت أنها دعوة صالحة تحيي أملًا، وترفع همة، وتكون نهضة لحياة، ونجاحًا عظيمًا. 
لئن كان في العمر بقية، وفي النفس طاقة، وفي القلب ثبات وعزيمة، لأحققن أمنية جدتي رحمها الله، فهي بركة ما بعدها بركة. 
وإلا، فلا أقل من الموت في طلب المحمدة والشرف من الله سبحانه وتعالى، والسعي لمرضاته ومحبته. 
اللهم ثبتني على دينك العظيم، وارحمني برحمتك. 
-
البراء بن محمد
في ليل الجمعة 
1439/8/11هـ
2018/4/27م 



الأحد، 15 أبريل 2018

مسودة الوصية الأخيرة

بسم الله الرحمن الرحيم
-
"كل امرئ مصبح في أهله *** والموت أدنى من شراك نعله" أبو بكر الصديق رضي الله عنه
-
الحمد لله رب العالمين. 
اللهم صل وسلم على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد،
فإن الاستعداد لملاقاة الله عز وجل يقتضي التخفف من الدنيا، وتذكر الآخرة، والاعتبار بقرب الأجل، وترك طول الأمل، وإحسان الظن بالله. وآفات الدنيا كثيرة، منها: المرض، والفقر، وفقد الأحبة، والتغرب عن الديار، والظلم. وليس للدنيا قرار، فهي زائلة متقلبة مليئة بالابتلاءات والعجائب. وليس واحدٌ منا خلوًا من ذلك كله. والله يسترنا بجميل عفوه ومغفرته.
واستشعارًا مني لكل ذلك، عزمت على كتابة مسودة لوصيتي الأخيرة، لا لمرض قاهر، أو يأس ظاهر، أو محبة للموت. ولكنني تعلمت من تجاربي القليلة أن استعجال ما يقدر عليه الإنسان من الخير أولى من تأجيله زمانًا غير محدود.
وما زلت أذكر ذلك العبد الصالح -أحسبه كذلك والله حسيبه- ف. ع. الذي أوصانا ذات يوم بكتابة وصايانا الأخيرة، ومطالعة نماذجها في النت. بل أكاد أجزم أن هذه النصيحة من أحسن نصائحه -غفر الله له ورحمه إن كان ميتًا وحفظه وبارك في عمره إن كان حيًا-.
وقد أحببت أن أكتب مسودة الوصية لأتمسك بها مستعينًا بالله وحده، عملًا بنصيحة هذا الطيب المبارك، وعزمًا على إنفاذ ما أقدر عليه. وهي وصية عامة لمن يقرأها من المسلمين. وفيها قصور بطبيعة جهلي وقلة خبرتي، ولكن أسأل الله أن يعينني على تجاوزه، ويغفر لي ويرحمني. 
اللهم يسر وأعن. 
وما توفيقي إلا بالله. 
-
من البراء بن محمد إلى من يقرأ كلماته من المسلمين، 
فهذه وصايا عامة وخاصة، كتبتها عفو الخاطر، تحت إلحاح الحاجة النفسية، والعزم على إنفاذ ما أستطيع فعله. أسأل الله أن ينفع بها ويجعل فيها خيرًا كثيرًا. 
-
الوصايا العامة
1- أوصيك ونفسي بتقوى الله فهي خير الزاد في هذه الحياة، وهي مما يضمن لوجودك القيمة التي خلقك الله لأجلها، وهي عبادته وحده سبحانه وتعالى.
يقول تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)).
2- حافظ على دينك الذي ارتضاه الله لك، فهو دليل خيريتك في الدنيا، وهو أغلى ما تملكه. واعتبر في ذلك وصية خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام. 
يقول تعالى: ((يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون)).
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "أي: أحسنوا في حال الحياة والزموا هذا ليرزقكم الله الوفاة عليه. فإن المرء يموت غالبا على ما كان عليه، ويبعث على ما مات عليه. وقد أجرى الله الكريم عادته بأن من قصد الخير وفق له ويسر عليه. ومن نوى صالحا ثبت عليه. " اهـ
3- اعتبر دأب العقلاء الذين صيّروا الدنيا ممرًا للآخرة، واحذر طريقة السفهاء الظالمين الذين عكسوا الآية، فآثروا الباقي على الفاني. 
"ولم تخلق لتعمرها ولكن *** لتعبرها فجد لما خلقتا" 
4- التزم صلاة الجماعة، ففيها الأجر الكثير، وهي عنوان مسارعتك على الخيرات، وهي مؤشر على عنايتك بوقتك.
وفي الحديث الصحيح: ((لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه)).
واعتبر وصف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لنبينا صلى الله عليه وسلم حيث قالت: ((كان يكون في مهنة أهله تعني خدمة أهله فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة)).
5- يوم يمضي عليك بلا آيات تتلوها من القرآن هو يوم ضائع وخاسر. فتدارك ما بقي من عمرك.
وفي الحديث الصحيح: ((اقرؤوا القرآن فإنه يأتي شفيعًا لأصحابه يوم القيامة)). 
6- تعلم العلم الشرعي ابتغاء مرضاة الله عز وجل، وتذكر أنه يحررك من براثن الجهل والضلال والغي. واعلم أن الهداية من الله، وأن سبيلها في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. واستحضر أن ضلال الكافرين وخسرانهم راجعٌ إلى إعراضهم عن آيات الله وغفلتهم عنها. 
قال تعالى: ((إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)).
يقول الإمام الطبري رحمه الله: "يقول تعالى ذكره : إن هذا القرآن الذي أنزلناه على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يرشد ويسدد من اهتدى به ( للتي هي أقوم ) يقول : للسبيل التي هي أقوم من غيرها من السبل، وذلك دين الله الذي بعث به أنبياءه وهو الإسلام".
7- اقرأ قسطًا من السنة النبوية كل يوم، ولا تحرم نفسك منها.
قال سبحانه: ((لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)).
8- طالع سير الأنبياء عليهم السلام، وأتباعهم المتقين، وتعلم منها. فهم خير قدوة.
"فكل خير في اتباع من سلف *** وكل شر في ابتداع من خلف"
9- فر من الشهرة وحب الظهور كما تفر من الأمراض والمصائب.
قال صلى الله عليه وسلم: ((ما من ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)). 
10- بر الوالدين باب خير عظيم.
قال تعالى: ((وبالوالدين إحسانًا)).
11- أعز نفسك بالصبر. 
قال صلى الله عليه وسلم: ((وما أعطي أحد من عطاء خير وأوسع من الصبر)).
12- "عش عزيزًا أو مت وأنت كريم *** بين طعن القنا وخفق البنود"
13- "فإما حياة تسر الصديق *** وإما ممات يغيظ العدا" 
14- استر خطاياك وذنوبك. 
15- تذكر الموت بين حين وحين. وليّن قلبك القاسي باستحضاره وقربه. 
16- من استهان بالثانية، فقد ضيع الدقيقة. ومن استهان بالدقيقة، ضيع الساعة. ومن ضيع الساعة ضيع يومه وشهره وسنته وعمره كله -عياذًا بالله-. 
"دقات قلب المرء قائلة له *** إن الحياة دقائق وثواني"
17- حدّث نفسك بالجهاد في سبيل الله، فالله يحب من يقاتلون في سبيله. 
قال جل في علاه: ((إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا كأنهم بنيان مرصوص)). 
18- احفظ فرجك فالشهوات مفتاح الشرور كلها. 
قال صلى الله عليه وسلم: ((حفت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره)). 
19- استعن بالصبر والصلاة. 
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة)).
وقال تعالى مخاطبًا المؤمنين: ((واستعينوا بالصبر والصلاة)).
20- تجنب مؤازرة الظالمين وموالاتهم لئلا يعذبك الله بذلك. 
قال تعالى: ((ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار)).
ولئلا أستكثر من حجج الله علي، فقد أحببت أن أقف هنا مقتصرًا على ما استحضرته آنفًا واستشعرته وأحسست بنفعه وأهميته. والترتيب غير مقصود.
-
الوصايا الشخصية 
وهي مستمدة من تجاربي الشخصية المحدودة وممن استفدت منهم كثيرًا كوالدي حفظه الله. 
1- إياك والقراءة العشوائية (وصية والدي). 
وقد عشت وتذوقت ما لا أحصي من المر والشقاء بسبب مخالفة هذه الوصية المهمة. فذلك النهم المعرفي الذي كنت أشعر به لم يكن ليعينني في حياتي العملية التي لا تكترث بآخر ما قرأته وكتبته. 
فالقراءة وسيلة وليست غاية، وهي للعلم النافع لا لاستكثار المعرفة لغير هدف. 
2- قلل من الكتابة (وصية والدي).
فهناك من خبرات الدنيا ما ينتظر الاكتشاف، وليست معرفتها محصورة في المداد والورق.
3- قد تتأخر، ولكن الأذان لن يتأخر (أحد المؤذنين).
4- لا تقطع التلاوة قبل أن تنهي الآية التي تقرأها (الشيخ إبراهيم البشر).
5- لا تتطلع إلى نهاية السورة أثناء القراءة (أحد معلمي الابتدائية).
6- عليك بالصحبة الصالحة (جزء من وصية طويلة لامرأة مباركة أجهل اسمها).
7- عليك بالتأمل الصادق (أحد الأصدقاء الأعزاء).
8- كن رجلًا 
وشيمة الرجال الحفاظ على وعودهم، والصبر حين البأس، وشجاعة القلب عند مواجهة المخاطر. 
9- كن صادقًا 
فالصدق علامة المؤمنين. 
10- اعترف بأخطائك وانسبها إلى نفسك 
11- اعرف أين توجه مشاعرك (أحد الأصدقاء).
12- العدل قبل الإحسان (حامد الحاج).
13- احرص على الخشوع في الصلاة فليس ما يفوتك بأعظم من الصلاة (أحد الإخوة المباركين).
14- الخطة التي ليس فيها حساب للمخاطر خطة غير مجدية (وصية والدي).
15- عليك بواجب الوقت، ولا تنشغل بالنافلة عن الفرض (وصية والدي).
16- لا تغتر بالجماهير في النت، فلا أحد منهم يهتم بك حقًا ويكترث لشأنك، وهم ينسوك بمجرد انتهاء قراءة ما كتبته (والدي).
17- لن تستفيد شيئًا من القلق، اعمل على ما تستطيع فعله الآن، وانس الباقي (أحد أصدقاء الدراسة).
18- عودوا أنفسكم على الكرم ولو شيئًا بسيطًا، قد دعاني ولد صغير إلى بيتهم بعد أن أوصلته إليه، كانت مبادرة حسنة منه تدل على ثقته بنفسه (مشرف سابق في الحلقة).
19- لا تكتب إلا على قدر الحاجة 
إياك وأن تمتهن الكتابة لأجل التسلية أو المجد الشخصي، واجعلها وسيلة لغاية أرفع وأسمى من الغايات الدنيا التي يتعارك الناس لأجلها. الكتابة الحقة تنبع من دافع الحاجة لا الفراغ. والصادق العاقل من يدرك ذلك بنفسه، فلا يتهافت على موضوع سخيف ساقط لمجرد قدرته على الإطناب فيه، وإظهار قدراته اللغوية. 
ولئلا أطيل بذكر الوصايا، فالوقوف على ما كتبته هنا خير وكافٍ بإذن الله، وهو دال على ما لم أدركه أو نسيته وغاب عن ذهني. 
-
وهذا آخر ما وصلت إليه من الوصايا التي أحسبها جامعة ونافعة، فإن أطال الله العمر وأحسن ما بقي من العمل، أصلحت هذه المسودة ونشرتها وصية أخيرة لا مزيد عليها. 
اللهم ارزقني حسن الخاتمة وبارك فيما بقي من عمري. 
البراء بن محمد 
الأحد 1439/7/29هـ
2018/4/15م 





السبت، 24 مارس 2018

ثمانية حكم من تحقير مصارع عتاة الكفار

بسم الله الرحمن الرحيم 
الحمد لله ناصر المؤمنين مخزي الكافرين، والصلاة والسلام على نبيه الهادي الأمين وآله وصحبه وأجمعين. 
أما بعد، 
فإن للموت هيبة يجدها كل إنسان في نفسه، غير أن ميتة الشجاع الكريم ليست كميتة الجبان اللئيم، وفي كلٍ عبرة وعظة للعقلاء. وعوائد الناس تخبرنا أن قوة هيبة الموت تجعلهم يميلون بقصد أو بغير قصد إلى تعظيم الميت، والإسهاب في ذكر محاسنه لداعٍ ولغير داعٍ. وليس الشأن في ذكر سير الصالحين المتقين للتأسي بهم، والترحم عليهم، والتصدق عنهم، ولكنه في رفع مكانة المجرمين الظالمين، وتلميع صورهم التي تلطخت بقذارة أفعالهم. وفي هذا تطبيع للجريمة والضلال، وتحسين للقبيح، وتعويد النفس على الخسة والوضاعة. وكل ذلك يهون عند تجاوز محكمات الشريعة وقطعياتها باتباع العاطفة العمياء، فتجد أحدهم يترحم على أعداء الله الكافرين، والآخر يفرش لهم صراطًا إلى الجنة، وأحسنهم حالًا (وكلهم فاسدو الحال) من يختزل سيرة الرجل في أعماله الدنيوية ويتجاوز كفره الظاهر، وتصريحه بعداء الله وأوليائه، أو يدّعي جهله ولاأدريته بحال الرجل لأنه ربما مات على دين الله وشرعه.
ولم يكن هلاك الملحد المحاد لله ستيفن هوكينج استثناءً، بل كان أعظم فتنة لكثير من المنافقين وضعيفي الإيمان، فمن قاطعٍ بأنه خير عند الله من مسلم معين، وآخر جازم بأنه في الجنة، وثالث يترحم عليه، ورابعٍ يعظمه ويبالغ في مدحه، وهكذا يزداد المفتونون الضالون. 
لكن لم تكن الحياة خلوًا من رجال غيورين للحق، قائمين بأمر الله، مصرحين بشرعه لا يهابون في ذلك إرجاف الجبناء، ولا ينساقون خلف شبهات مطموسي البصيرة ورقيقي الديانة. وهؤلاء هم بقية الخير في الأرض، والنور الساطع في وسط الظلمة الكالحة. فنسأل الله أن يعينهم ويزيدهم من فضله وبركته. 
وتأسيًا بهؤلاء الأكارم الأخيار، أحببت أن أبين المصالح العظيمة في تحقير مصارع الكافرين أعداء الله (وأخص منهم من ظهرت عداوته لله بإمعانه في الباطل ومجاهرته به وفتنة الناس به)، وما في ذلك من الحكم البالغة التي تنقل معركة الحق والباطل إلى الهجوم على المبطلين، عوضًا عن ترقب هجماتهم على الدين.
وهذه الحكم بينها تداخل ظاهر، وليس هذا بمانع من اختصاص كلٍ منها بوجه معين.
1- موعظة الموت: 
قال تعالى: ((قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون)) [الجمعة/8]
إن الموت واعظ لكل من غرق في غفلته، وأعمته شهواته عن تبصر الحق. كيف لا وهو يهدم اللذات ويقطع الشهوات ويقرّب النفوس من رؤية الحقائق التي توارت خلف ظلمة الأهواء الكالحة. لكننا ننسى الموت ونغفل عنه كثيرًا لأن أملنا أطول من أجلنا الذي لا نعرف نهايته. نبذر البذرة ونحن ننظر إلى النبتة التي ستنتج عنها، ونأكل الأكلة ونحن نترقب هضمها والتخلص من فضلاتها. وننام ملء الجفون أملًا في بزوغ شمس الصباح. كل هذا والموت غائب عن الذهن. وفي مصرع الكافرين أبلغ مذكر بالموت وأنه لا يستثني أحدًا من الخلق مهما طال عمره.

2- التزهيد في الدنيا:
قال تعالى: ((وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون)) [الأنعام/32]
ينبغي أن يكون هلاك عتاة الكافرين واعظًا لمن غرق في دنياه باللهو واللعب أن يرتدع ويكف عن باطله. فقد رأى في مصارع الظالمين ما يعكّر أحلامه الوردية التي تصبغ واقعًا مختلفًا عنها تمامًا. يجب أن يعلم الكافة أن الدنيا بمبانيها، ومنجزاتها، وتطورها لا تعني عند الله شيئًا ما لم يكن ذلك مقصودًا لإرضائه سبحانه وتعالى. مهما تنامت ثروتك، وتزايدت شهواتك، فكلها تساوي صفرًا في الميزان الإلهي. إن تضخيم إنجازات كافر بالله وتهوين كفره جريمة لا تغتفر. ولمحو آثار هذه الجريمة الشائعة، فإننا نذكر الناس بأن دنيا الكافرين هي جنتهم الزائلة التي يعقبها جحيم أبدي لا يملكون له تخفيفًا ولا يستطيعون منه هربًا.

3- تذكير الناس بغاية الله من خلقهم:
قال تعالى: ((وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون * ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون)) [الذاريات/56-57]
صدق الله العظيم. فأنى لمحاربٍ لله ورسوله أن يحقق غاية الله من خلقه وهو مقيم على كفره وفجوره؟ وهل يصح وصف هذا بالناجح في حياته؟ وهل ينبغي أن يكون قدوة لمن هو دونه؟ بل هلاك أمثال هذا هو أكبر دليل على فشلهم وسفالتهم وأن حياتهم ضاعت هدرًا فيما لا ينبغي لها.

4- تحقيق البراء من الكافرين:
قال تعالى: ((لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آبائهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم...الآية)) [المجادلة/22]
وهلاك رؤوس الكفر والضلالة أولى فرصة باستغلالها لإظهار بغض الكفر وأهله، وأن تلك الحمية والغيرة هي لله عز وجل ومحارمه التي انتهكها أهل الأهواء والضلالات.

5- تصحيح معايير الناس في الحكم على الأشخاص:
قال تعالى: ((إن أكرمكم عند الله أتقاكم...الآية)) [الحجرات/13]
لا يتذكر الناس هذه الآية إلا في سياق محاربة النزعات الجاهلية التي ترفع أقوامًا وتخفض آخرين لاعتباراتٍ أبطلها الشرع كاللون والتعصب القبلي ولكنهم لهوى في أنفسهم لا يتذكرون أعظم نزعة جاهلية وهي التعصب للدين الفاسد الذي لا يرضاه الله. بل هم أول من يبطل محاكمة الكفار إلى معيار الله بدعوى أنهم معذورون بجهلهم، وأن أعمالهم الدنيوية التافهة تشفع لهم عند الله!
وفي تحقير مصارع الكافرين أعظم بيان للمعيار الشرعي الذي يُحاكم الناس إليه وهو تقوى الله. إن أفسق مسلم على وجه الأرض خير من ألف ألف كافر محسن إلى الناس بأمواله، لأن شيئًا من تقوى الله ومحبته قائم بنفسه، بخلاف تلك النفوس الخبيثة التي ما عرفت الله وجحدت حقه سبحانه وتعالى.

6- كسر الهوى في نفوس الأتباع:
قال تعالى عن فرعون: ((فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوم فاسقين)) [الزخرف/54]
لم يتمكن فرعون من إضلال قومه لولا سفاهتهم وأهوائهم التي صرفتهم عن عبادة الله وحده إلى عبادة مخلوقه الحقير الذي رفع نفسه إلى مرتبة الألوهية. ونظائر فرعون كثرٌ في التاريخ، فهم طواغيت يرتقون فوق رؤوس أتباعهم السفهاء. وفي مصرعهم آية لمن اغتر بهم لهواه ومرض نفسه. ألا ترى كيف كان مصرع قارون صفعة لمن اغتروا بظاهر ما امتلكه من الدنيا واكتفوا بذلك عن باطنه الخَرِب الذي يخلو من تقوى الله ومحبته.

7- الاعتزاز بالدين وتعظيمه في النفوس:
قال تعالى: ((ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين)) [آل عمران/139]
وفي تحقير مصارع الكافرين تذكير لأهل الإيمان أن عزتهم إنما هي لإيمانهم بالله، وأن غلبة الكافرين بأموال الدنيا وقوتها إنما هي مؤقتة لا تدوم، ثم تكون عليهم الذلة والصغار، والعذاب المهين في الدنيا والآخرة.

8- التذكير بالإخلاص:
قال تعالى: ((من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذمومًا مدحورًا)) [الإسراء/18]
وما من شك أن عتاة الكافرين أكثر الناس حرصًا على الدنيا وعلى الإعراض عن الإخلاص لله تعالى، وأن كل ما يفعلونه إنما هو لإرضاء شهواتهم الحسية والمعنوية. وتحقير مصارعهم فيه تذكير بضرورة الإخلاص لله كي لا تؤول محاسن الأقوال والأفعال إلى عواقب مرذولة وتكون عديمة الحاصل والمردود.

اللهم أمتنا على دين الإسلام، وملة إبراهيم عليه السلام، واحشرنا مع الأنبياء والمتقين والصالحين.
البراء بن محمد
السبت 1439/7/7هـ
2018/3/24م

الاثنين، 12 مارس 2018

تلخيص مقاصد الاختلاف في اللفظ لابن قتيبة

بسم الله الرحمن الرحيم 
الحمد لله المتفضل على عباده بنعمة الهداية والنور، والصلاة والسلام على نبيه الأمين مبلغ الرسالة، وآله وصحبه الكرام ومن استنار بسنته وهديه. 
أما بعد، 
فإن من أنفع الكتب التي دافعت عن معتقد أهل الحق السائرين على ضوء النبوة المقتفين لآثار الصحابة ومن تبعهم بإحسان هو كتاب الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة للإمام ابن قتيبة الدينوري رحمه الله. 
وقد تضمن كتابه أهم ثلاث مسائل محورية كان عليها مدار الخلاف والنزاع في تلك الحقبة الزمنية، وهي: القدر والأسماء والصفات واللفظ بالقرآن.
وقد رأيت أن من النافع تلخيص مقاصد الإمام، واختصار أدلته اختصارًا لا يغني عن قراءة أصله الغني بالفوائد، ولكنه يثبت المعلومة، ويعين على الفهم. وقد نشرت تلخيصي في غير هذه المدونة، وكنت قد هممت أن أنشره في مدونتي لرجاء بقائه وثباته فيها. ولكنني انشغلت عن ذلك تارة، ونسيته تارة أخرى، وربما غلبني الكسل أحيانًا. 
وعلى كل حال، فهذا هو التلخيص الذي أسأل الله أن ينفع به، وأن يثيبني عليه ويجعله خالصًا لوجهه. 
والله أعلم وأحكم 
البراء بن محمد 
الإثنين 1439/6/24هـ
2018/3/12م 

الاثنين، 5 فبراير 2018

الشك والشاك: حين يقع الصياد في مصيدته (الجزء الأول)

بسم الله الرحمن الرحيم
--
قال الله تعالى: ((وقل رب زدني علمًا)) [طه/114].
--
"وفي الجملة فالحيرة من جنس الجهل والضلال" (1).
--
الحمد لله الذي امتن على عباده بالفطرة الصحيحة، وألهمهم المعرفة بعقولهم وحواسهم، وزرع اليقين في نفوسهم برسالة أنبيائه عليهم الصلاة والسلام، وأظهر لهم حجج الحق وبراهينه، وفصل بين خلافاتهم وأهوائهم بوحيه. 
والصلاة والسلام على نبيه الأمين الذي بلغ رسالة الإسلام إلى الناس أجمعين، متمًا بذلك نور الله ولو رغمت أنوف الكافرين والمشركين. 
أما بعد، فقد توهم طائفة من الخلق كمالهم وفضيلتهم في الشك والحيرة، وزعموا أن بلوغ الحقائق، والتخلص من الأهواء لا يكون بغير الانتقال من اليقين إلى الشك، والنظر في ما علموه ضرورة وتيقنوا منه، وفحص كل معرفة اكتسبوها بمنظار التكذيب إلى أن تصمد قائمة بلا اعوجاج. 
فزعم أحدهم مثلًا أن انحيازات النفس الباطلة لا مناص منها، وأنها لا بد واقعة فيها، وأن الظهور عليها لا يكون بغير إعمال الشك، وتقليب الفكر دومًا، بحيث لا تقوم خاطرة من العلم في النفس من غير أن تمر بقنطرة الشك والاستفسار. 
ولكن هل يصح في الوجدان والأذهان أن يقال أن اليقين مبني على الشك؟ وأن الجهل أس العلم؟ وأن الظلام مصدر النور؟ وأن الحيرة طريق الطمأنينة؟ 
وهل يسوغ لزاعم أن يزعم انقلاب الأضداد وتحول النقائض بحيث يمسي المرء جاهلًا ويصبح عالمًا؟ وأن قلبًا مهزوزًا بالحيرة والضياع قد استقر باليقين والعلم بسبب اهتزازه ذاك؟ 
فهل يأكل الناس بجوعهم؟ وهل يفرحون بأحزانهم؟ وهل يتحركون بسكونهم؟
--
"علم اليقين عندنا واردات ترد على النفوس تعجز النفوس عن ردها" (2).
--
السماء فوقنا، والأرض تحتنا، 1+1=2، نحتاج للشرب والاغتذاء كي يستمر البقاء. 
هذه وغيرها حقائق اكتسبناها، وجزمنا بها، وعملنا على مقتضاها، حتى كاد التذكير بها يوحي بفساد الطبيعة وزوال الإدراك أو شدة العناد والبلادة. 
لم ننتظر برهانًا منطقيًا عليها، ولا حجة فيلسوف تنصرها، ولم نرخِ سمعًا لمن يزعم خلافها. وكان هذا دليل كمال عقولنا وإدراكنا. 
عقلناها صغارًا، وبنينا عليها أفكارنا ورؤانا ونحن كبار. كانت هي أساس الحقائق التي عرفناها. كانت ضرورات حسية وعقلية لا نتصور زوالها. 
--
"اعلم أن كثرة التعنت في النظر تؤدي إلى طلب تحصيل الحاصل والتشكيك فيه" (3).
--
اليقين من أظهر الحقائق التي يعجز اللسان الإنساني بمختلف لغاته من حدها بتعريف جامع مانع، والناس يشعرون به، ويدركونه في أنفسهم بغير حاجة إلى معلم ودليل. إلا أنه قابل للزوال كسائر النعم الإلهية التي يعاقب العبد بحرمانها إن أساء استعمالها وتصريفها. 
ونبتدئ بالظاهر البين لنستدل به على الباطن الخفي. 
فكم من عاقل أفسد عقله وفكره بكؤوس الخمر فتصرف كالصبيان والحيوانات؟ 
ومن فسد إدراكه فسد يقينه قطعًا. 
فما بال حكيم نراه قد تسافه في آخر عمره؟ وآخر تحول من إيمان إلى كفر؟ وثالث غير أقواله بمجرد أن تبوأ منصبًا رفيعًا واكتسب مالًا عظيمًا؟ ورابع ظل حياته متنقلًا ذات اليمين وذات الشمال؟
هل تعدد الحق أم تعدد الضالون؟ 
كنا لا نتصور إنسانًا بعقله ينفي وجود الله وصفاته، وينسب الخلق البديع، والتصميم الرفيع إلى العدم واللاشيء. فإذا بموجة الشبهات والشك تجتاح قومًا فتزلهم عن الحق، وتضلهم عن طريق الصواب. 
لم يخطر ببالنا يومًا أن يأتي من يزعم أن السنة باطلة ليس عليها عمل ولا يؤخذ منها علم، وأنها كأساطير الأولين، وحكايات الأقدمين. فأصبحنا وقد تنكر لها أناس كانوا يتعبدون إلى الله بأحكامها يومًا. 
لم نتخيل أن يأتي من يعتبر اللواط فطرة صحيحة، ويزيل عنه وصف الفحش والقبح، ليحيله عادة مقبولة يجب على الناس الدفاع عنها.
لم نعلم أن الله سيبتلينا بمن يرى إسرائيل دولة مشروعة الوجود والنفوذ. وأن دماء المسلمين التي سفكتها حق لها. 
لقد كنا نعد تكور الأرض حقيقة لا تقبل النقاش والجدال فضلًا عن تصور النقيض بلا سخرية واستهزاء، فإذا بجمع ممن كنا نعرفهم قد كذبوها وشكوا فيها، بل عدوها زيفًا أجمع الناس عليه. 
لقد اهتزت المسلّمات في القلوب، وهوت النفوس من علياء المعرفة إلى وحل الجهل! 
--
"أنبأنا محمد بن ناصر نا الحسن بن أحمد بن البنا ثنا ابن دودان نا أبو عبد الله المرزناني ثني أبو عبد الله الحكيمي ثني يموت بن المزرع ثني محمد بن عيسى النظام قال مات ابن لصالح بن عبد القدوس فمضى إليه أبو الهذيل ومعه النظام وهو غلام حدث كالمتوجع له فرآه منحرفا فقال له أبو الهذيل لا أعرف لجزعك وجها إذا كان الناس عندك كالزرع فقال له صالح يا أبا الهذيل إنما أجزع عليه لأنه لم يقرأ كتاب الشكوك فقال له أبو الهذيل وما كتاب الشكوك قال هو كتاب وضعته من قرأه يشك فيما قد كان حتى يتوهم أنه لم يكن وفيما لم يكن حتى يظن أنه قد كان فقال له النظام فشك أنت في موت ابنك واعمل على أنه لم يمت وإن كان قد مات فشك أيضا في أنه قد قرأ الكتاب وإن كان لم يقرأه." (4).
--
إن كان الشك بذرة فقد أنبتت جهلًا، وقد هدم الجهل كل الفضائل وأفسد جميع الأخلاق. 
فهل كان الشك علاجًا لمريض وغذاء لجائع؟ 
لقد شك السوفسطائية فأنكروا الحقائق، وشك ديكارت ومن قبله الغزالي ليثبتوا الحقائق. وما بينهما بين الشرق والغرب! 
فهما منهجان معروفان للشك، أحدهما يهدم الحقيقة، والآخر يوهنها ويضعفها. وإليك البيان: 
فالسوفسطائية: "ثلاثة أصناف ؛ فصنف منهم نفى الحقائق جملة ، وصنف منهم شكوا فيها ، وصنف منهم قالوا : هي حق عند من عنده حق ، وهي باطل عند من عنده باطل ." (5). وقد نقلها ابن حزم عن سلف من المتكلمين كما قال. وذكر خبر السوفسطائيين (6) شائع في كتب العقائد ومقالات الفرق والمذاهب. 
أما أشهرهم، فهو بروتاجوراس الذي قال: "الإنسان مقياس كل شيء"، وهو الذي نفى علمه بوجود الآلهة أو عدمها وأن معرفة ذلك متعذرة (7).
على أن نفس المصادر التي أشارت لوجود السوسفطائيين قد أشارت إلى وجود تيار من الشكاك في اليونان. ولا أدري ما وجه التفريق بين هؤلاء الشكاك والسوفسطائيين وهو مخالف لما توارد عليه المتكلمون والنظار الإسلاميون من اعتبار الشكاك في الحقيقة من جنس السوفسطائية ولعل ذلك لعدم انشغالهم بمعرفة أقسام الفلسفات اليونانية المختلفة.
إلا أنني قد وجدت بعض التفسيرات المتناثرة في بعض هذه المصادر. فيوسف كرم، على سبيل المثال، يقول: "لم يكن الشاك في هذا الدور نافيًا متهكمًا كالسوفسطائي ولكنه رجل مغلوب على أمره فقد الإيمان بالحق والخير في بيئة تبلبلت فيها الأفكار وفسدت الأخلاق إلى حد بعيد فانعزل في نفسه لا يوجب ولا ينفي وإنما يقول: لا أدري، ولم يكن كالسوفسطائي مزهوًا بفنه طالبًا للمال، ولكنه كان جادًا معرضًا عن متاع الدنيا، أقرب في أخلاقه إلى الرواقية منه إلى الأبيقورية، ولم يكن هدامًا مثله، ولكنه كان يرى في الإخلاد إلى التقاليد والعقائد الشعبية وسيلة إلى الراحة والاطمئنان، وكان السوفسطائيون مبتدئين يحاجون بلا ترتيب ولا منهج، أما الشكاك فأناس انتفعوا بتقدم الفكر اليوناني فأتقنوا المحاجة على أصولها وأبلغوا الشك أشده وأقاموه مذهبًا بين المذاهب." (8).
وقريب من ذلك قول اميل برهييه في توصيف السفسطة: "ان السفسطة، التي وسمت بميسمها العقود الاخيرة من القرن الخامس، لا تشير الى مذهب، وانما الى طريقة في التعليم ." (9).
ومن وجه آخر يقول الدكتور توفيق الطويل: "يبدو الشك البيروني متخاذلا يائسًا مترددًا لا يقوى على إصدار حكم إيجابيًا كان أو سلبيًا ، فيلوذ بالعرف والتقاليد الشعبية ويلتمس في رحابها الأمان ، إنه يؤثر العافية فيعلن لا أدريته التماسًا للسعادة وطمأنينة النفس كما أشرنا من قبل .
أما ما يسمونه بالشك السوفسطائي فقد كان شك القوى الذي يضيق بالقيم المألوفة في مجال الحق والخير فيتصدى لنقدها وبيان تهافتها والسخرية منها في غير حيطة ولا حذر ، ومن غير أن يقيم للعرف وزنًا أو يلجأ إلى التصورات والمعتقدات الشعبية ." (10).
وجاء في (قصة الفلسفة اليونانية): "لم يكن السوفسطائيون مدرسة فلسفية كالفيثاغوريين أو الإيليين، لها آراء خاصة تربطها عقيدة فلسفية، إنما كانوا طائفة من المعلمين متفرقين في بلاد اليونان اتخذوا التدريس حرفة" (11).
فلنا أن نستلهم من هذه التفصيلات فرقين مهمين بين شك السوفسطائية وشك الشكاك: أولهما: أن شك السوفسطائية لم يكن يمثل مذهبًا متكاملًا كشك الشكاك الذي ثبت نفسه بين فلسفات اليونانيين القديمة. ثانيهما: أن شك الشكاك كان يمثل أزمة كبيرة لهم بخلاف شك السوفسطائية الذي كان يُتخذ براجماتيًا للوظيفة والتعليم.
لكنهما يلتقيان في إنكار الحقائق. فسواء كنت تشك في إمكانية المعرفة وتشك في شكك لئلا تتناقض! (12) أو كنت تشك في إمكانية المعرفة وحسب فإن النتيجة واحدة وهي إنكار ثبوت الحقيقة فضلًا عن إدراكها. [ومن هنا نفهم لم اعتبر بعض المتكلمين الشكاك في الحقيقة من جملة السوفسطائية. هذا مع اعتبار أن المتكلم لا يبحث في تاريخ مقالة السوفسطائية منكري الحقائق إلا بقدر ما يكتفي به في نقض مذهبهم تفريعًا على ثبوت الحقيقة وإمكان المعرفة وهما مقدمتان ضروريتان لتأصيله وفكره. ومن ثم فليس المتكلم مطالبًا بتقرير مذهب الشكاك منفصلًا عن السوفسطائية لمجرد اختلافهم في شيء من التأصيل والظروف إذ أن نتيجتهم واحدة].
ولنا أن نلخص تيار الشك في اليونان اعتمادًا على ما ذكره Richard H. Popkin في مقدمة كتابه The History of Scepticism حيث ذكر أن مواقف المفكرين اليونانيين في الحقبة الهلينية قد تطورت لتقيم حججًا لاستحالة المعرفة وتمثل هذا في تيار الشكوكية الأكاديمية وعدم كفاية الدليل على إمكان المعرفة، وأن تعليق الحكم وتأجيله متعين لذلك وتمثل هذا في تيار الشكوكية البيرونية. (13)
وإذا أردنا قسمة أعم من هذه فلنا أن نقول كما قال ديوجينيس اللائرتي مؤرخ الفلاسفة اليونانيين الشهير: "ويمكن تقسيم الفلاسفة إلى طائفتين: دجماطيقيين Dogmatikoi، وشكاك Ephektikoi. فأما الدجماطيقيون فهم أولئك الذين يصدرون تأكيدات قاطعة عن الأشياء ويؤكدون أن من الممكن معرفتها، وأما الشكاك فهم هؤلاء الذين يعلقون الحكم أو يرجئونه على أساس أنه ليس من الممكن معرفة الأشياء (أو التوصل إلى كنهها على وجه اليقين)." (14).
وظاهر أن شكًا يؤدي لهدم المعرفة، وينتهي إلى استمرار الجهل، لجدير بالاطراح والإهمال. فالأمر كما قال راسل: "ويجدر بنا أن نلاحظ أن مذهب الشك باعتباره مذهبا فلسفيًا، ليس هو مجرد الشك بل هو ما يمكن أن تسميه شيكا (15) يقيم نفسه على أسس جامدة؛ فلئن قال رجل العلم: ((أظن الأمر كذا وكذا؛ ولكنني لست على يقين)) وإن قال المفكر الطلعة (16) ((لست أدري ماذا عسى أن يكون الأمر، لكني آمل أن أهتدي إلى حقيقته)). فإن المتشكك الفلسفي يقول: ((لا أعلم ولا أحد يستطيع أن يعلم))؛ وهذا العنصر في المذهب، عنصر الجمود في العقيدة، هو الذي يجعل المذهب كله عرضة لسهام النقد؛ نعم إن الشكاكين أنفسهم ينكرون أنهم حين يأخذون باستحالة العلم، يبنون إنكارهم على تعصب أعمى، غير أن إنكارهم هذا لا يقنع أحدًا إقناعًا كافيًا." (17).
وقد أبطل يوسف كرم مذهب الشك بثلاثة أوجه وهي عجز الشاك عن الدعوة لمذهبه، وتناقضه في دعوى الشك المطلق نفسها، ولزوم ثلاث لا يقوم الشك إلا عليها وهي: "وجود الذات المفكرة، وعدم جواز التناقض، وكفاية العقل لمعرفة الحقيقة" (18).
ونظير هذا قول الإمام الجويني: "فإن قيل: قد أنكرت طائفة من الأوائل إفضاء النظر إلى العلم، وزعموا أن مدارك العلوم الحواس (19)، فكيف السبيل إلى مكالمتهم؟ قلنا: الوجه أن نقسم الكلام عليهم، فنقول: هل تزعمون أنكم عالمون بفساد النظر، أو تستريبون فيه؟ فإن قطعوا بفساد النظر، فقد ناقضوا نص مذهبهم في حصر مدارك العلوم في الحواس، إذ العلم بفساد النظر خارج عن قبيل المحسوسات.
ثم نقول: أعلمتم فساد النظر ضرورة، أم علمتموه نظرا؟ فإن زعموا أنهم علموه ضرورة كانوا مباهتين، ثم لا يسلمون عن مقابلة دعواهم بنقيضها. وإن زعموا أنهم أدركوا فساد النظر بالنظر، فقد ناقضوا كلامهم؛ حيث نفوا جملة النظر وقضوا بأنه لا يؤدي إلى العلم، ثم تمسكوا بنوع من النظر، واعترفوا بكونه مفضيا إلى العلم.
وإن قالوا: أنتم إذا أثبتم النظر وادعيتم أداءه إلى العلم، أتسندون دعواكم إلى الضرورة، أو تسندونها إلى النظر؟ فإن ادعيتم الضرورة لزمكم ما ألزمتمونا وانعكس عليكم مرامكم؛ وإن حكمتم بصحة النظر بالنظر فقد أثبتم الشي‌ء بنفسه، وذلك مستحيل. قلنا: كلامكم هذا يفيدكم شيئا، أو لا يفيدكم شيئا أصلا؟ فإن زعموا أنه لا يفيد علما و لا يجلب حكما، فقد اعترفوا بكونه لغوا، وكفونا مئونة الجواب.
وإن زعموا أنه يفيد العلم بفساد دليلنا، فقد تمسكوا بضرب من النظر في سياق إنكار جميعه. وإن قالوا: غرضنا مقابلة الفاسد بالفاسد، رددنا عليهم التقسيم، وقلنا: معارضة الفاسد بالفاسد من وجوه النظر. ثم نقول: لا بعد في إثبات جميع أنواع النظر بنوع منها يثبت نفسه وغيره، وهذا كالعلم يتعلق بالمعلومات ويتعلق بنفسه؛ إذ بالعلم يعلم العلم، كما به يعلم سائر المعلومات.
وإن قال السائل: لست قاطعا ببطلان النظر فيطرد عليّ تقسيمكم، وإنما أنا مستريب مسترشد؛ فالوجه أن يقال لمن رام إرشادا: سبيلك أن تنظر في الأدلة نظرا قويما، وتنهج فيها نهجا مستقيما؛" (20).
وسواء زعم الشاك أن شكه  نظري مفتقر للدليل أو ضروري لا يُستدل عليه فإنه باطل، ذلك وأنه إن كان نظريًا فالنظري لا يبطل الضروري الذي يعلمه من نفسه ويشاركه غيره في ذلك، وإن كان ضروريًا فهو يتناقض مع غيره من الضروريات، وما تناقض فهو باطل. وقريب من ذلك يقول شيخ الإسلام: "القدح في الضروريات بالنظريات غير مقبول لأن الضروريات أصل النظريات فلو جاز القدح في الضروريات بالنظريات لكان ذلك قدحًا في أصل النظريات والقدح في أصل الشيء قدح فيه نفسه فيكون القدح في الضروريات بالنظريات يتضمن القدح في الضروريات والنظريات وإذا كان على هذا التقدير لا تصح الضروريات ولا النظريات لم يكن هذا علمًا ولا كلامًا صحيحًا فلا يقدح به في شيء" (21) ويقول بعدها بقليل: "وإذا كان القدح في الضروريات بالنظريات مستلزمًا ألاَّ يكون واحدٌ منهما علمًا ولا يثبت أنه حق وصدق كان كلام القادح ليس علمًا ولا يثبت أنه حق وصدق فلا يكون مقبولاً فثبت أنه على التقديرين لا يقبل ما ذكره وليس هو علمًا ولا ثبت أنه حق وصدق فبقي ما قاله المنازع على حاله غير مقدوح فيه." (22).
بل إن الشك المطلق نفسه لا يصح بغير مرجع يستند إليه من فطرة الناس وبديهتهم. وهذا عجيب حقًا لمن تأمله. فالشكاك يتكلف الشك ولا يكون ذلك منه بفطرته وغريزته. بل إنه يحمل نفسه حملًا على الشك والطعن فيما يعلمه. وسيأتي في شك ديكارت مزيد من ذلك. ولكن أقتصر هنا على عيب من عيوب الشك المطلق وهو اعتماده على ما يريد هدمه وتقويضه! وفي ذلك يقول رضا زيدان: "إن الشك المطلق لغو، لأنه استخدام خاطئ لكلمة الشك التي يستخدمها الرجل العادي عند المقارنة مع يقين، فالشك يستلزم مرجعًا كما يقول فيتنجشتين." (23).
ويلاحظ مؤلفا كتاب (قصة الفلسفة اليونانية) أن الإغراق في التفكير في الذات دون سواها يؤدي إلى الشك، وهذا يعني أن الشك نتيجة لإهمال النظر خارج الذات حيث يقولان: "وبملاحظة تاريخ الفلسفة يتبين لنا أن نوع الفلسفة الذي يعتمد على التفكير الذاتي، أعني تفكير الإنسان في نفسه وعقله فقط يعقبه دائما الشك، ذلك لأن المعرفة هي علاقة بين العقل والشيء الخارجي، فإذا اقتصر الباحث على النظر الى عقله ونفسه مهملا ما في الخارج أداه ذلك إلى إنكار ما في الخارج من حقائق." (24).
ولا نسترسل كثيرًا في الشك المطلق فبطلانه ظاهر، وننتقل إلى ما بعده وهو: الشك المنهجي.
--
"لا يعرف [الشك] إلا من يكابده"!
--
لما كان سبيل الشك المقصود إلى هدم الحقيقة مذمومًا متناقضًا، سلك بعض العقلاء سبيلًا آخر وهو التوسل بالشك نفسه لبلوغ اليقين. ولنا فيه تجربتان شهيرتان وهما تجربتا الغزالي وديكارت. وإن كانت تجربة ديكارت أبعد غورًا من تجربة الغزالي. مع التنبه إلى أنني لم أجمع بينهما جريًا على المسلّمة الشهيرة التي تشير إلى تأثر ديكارت بالغزالي، بل وتعزو جزءًا من فلسفته إليه (25). بل هي فرضية باطلة يعلمها كل من طالع كتابيّ المنقذ من الضلال (للغزالي) ومقال عن المنهج Discours de la méthode فضلًا عن التأملات Méditations (لديكارت). وقد توسع زمير (2010م) في دراسته (Descartes and Al-Ghazālī: Doubt, Certitude and Light) في تبيين أوجه الاختلاف بين منهجي الغزالي وديكارت ووصل إلى عدم وجود دليل ضروري بشأن ذلك (26).
ونبتدئ بالغزالي الذي تعطشت نفسه لمعرفة الحق، وقد رأى اختلاف الخلق فيه، وتنوع المذاهب والأقوال. فتطلب حقيقة العلم وعلم أنه ما "ينكشف به المعلوم انكشافًا لا يبقى معه ريب ، ولا يفارقه إمكان الوهم والغلط" (27). ثم نظر في مظان العلم فوجدها راجعة إلى محسوسات وضرورات عقلية. ومكث يتأمل هذه المحسوسات ليعلم هل يثبت يقينه بها أم لا؟ وإذا بالغزالي يعترف اعترافًا مهمًا وهو قوله: "فانتهى بي طول التشكيك إلى أن لم تسمح لي نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضاً" (28) ولم يحصل هذا التشكيك إلا بعرض أخطاء الحواس متمثلة في البصر باعتبارها الأقوى -عند الغزالي- كما يرى الإنسان الكوكب صغيرًا أصغر من الدينار ثم يعلم أنه أكبر من ذلك بكثير.
اعتقد الغزالي أن الشك سينتهي إلى هنا حيث تقف الأوليات العقلية كزيادة العشرة أكثر من الثلاثة وعدم اجتماع النفي والإثبات. ولكنه أدرك أنه لما أبطل إدراك الإحساس لصالح العقل، فقد جاز أن يبطل إدراك العقل لصالح أمر آخر لا يعلمه. وأورد إشكالًا عويصًا وهو الحلم، إذ أنه يشتبه باليقظة ويزول لعدم أصله بالنسبة إليها، فما الذي يضمن له أن اليقظة ليست كذلك بالنسبة لحال أخرى؟ (29)
وهنا تحديدًا اشتدت أزمة الشك، وعاش الغزالي معتركًا صعبًا يصفه بقوله: "فلما خطر لي هذه الخواطر، وانقدحت في النفس حاولت لذلك علاجاً فلم يتيسر، إذ لم يكن دفعه إلا بالدليل، ولم يمكن نصب دليل إلا من تركيب العلوم الأولية. فإذا لم تكن مسلمة لم يمكن تركيب الدليل. فأعضل الداء، ودام قريباً من شهرين، أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال، لا بحكم النطق والمقال." (30) ولكنه نجا بفضل الله ورحمته، بعيدًا عن أي دليل عقلي ينتظم ويؤسس لليقينيات. ويصرح بذلك فيقول: "حتى شفى الله تعالى من ذلك المرض، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال، ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقاً بها على أمن ويقين، ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف، فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة فقد ضيق رحمة الله تعالى الواسعة." (31) وبعيدًا عن حقيقة هذه التجربة، فإن الغزالي لم ينصح باتخاذ هذا المسلك، ولم يقرر أنه موصل لليقين والحق. بل إنه عندما ألف آخر كتبه (إلجام العوام) لم يدع إليه أصلًا ولم يشر إليه بحال. فحديثه عن تجربته أقرب ما يكون إلى السيرة الذاتية منه إلى التنظير المعرفي. بل إنه يعتبر الشك مرضًا شفاه الله منه حيث يقول: "حتى شفى الله تعالى من ذلك المرض، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال" (32). إلا أن ذلك كله لا يعني أنه لم يفتعل بعض الشك ليكتسب المعرفة. فهي مغامرة خاضها الغزالي ليصل إلى اليقين، ولكنه تعثر بالشك والريبة وتأخر كثيرًا قبل أن يستطيع مواصلة سيره نحو العلم الحق. ليس الأمر مجرد وسوسة عارضة كتلك التي تعرض للمؤمنين في الصلاة. بل هي مجاهدة لخواطر الجهل التي هجمت على النفس فتركتها مذبذبة حائرة لا نور لها ولا هدى.
الجدير بالذكر أن شك الغزالي لم يستتبع اليقين ضرورة، بتصريحه هو. لقد بقي في الشك والحيرة شهرين لولا أن هداه الله وبث الطمأنينة واليقين في قلبه. ولا ندري إلى كم كانت ستبقى لولا لم يقدر الله انجلاءها.
وللمعلمي تعليق هام على هذه النتيجة حيث قال: "وذاك النور الذي يقذفه الله في الصدور ليس يحصل لكل أحد، فإنه لم يحصل في إنكار البديهيات، وقد ذكر الغزالي أنه بقي نحو شهرين على الشك، بلى قد يقال إنه في الأصل بالنسبة إلى الضروريات عام ولكن من خاض في النظر المتعمق فيه وحاول اكتساب اليقين من جهة النظر احتجب عنه ذاك النور، فإن استمر على ذاك استمر على الشك، كالسوفسطائية، وإن رجع إلى القناعة بالفطرة عاد له ذلك النور كما وقع للغزالي" (33) ويقول يوسف كرم قريبًا من ذلك: "ومتى أذعن العقل لنور الأوليات، أو بالأحرى متى كفت الإرادة عن الافتتان بالشك وقهر العقل على الانصراف عن نور الأوليات، لم يعد أمامنا مانع من المضي في الفحص عن سائر المسائل لاقتناص ما يتيسر من يقين." (34).
--
"كما لا يقبل قدح السوفسطائي بنظره فيما يقول الناس إنه معلوم بالبديهة، ولا يقبل مجرد قوله على منازعه، بل المرجع في القضايا الفطرية الضرورية إلى أهل الفطر السليمة، التي لم تتغير فطرتهم بالاعتقادات الموروثة والأهواء." (35).
--
أكتفي بهذا العرض للجزء الأول من المقال، وأستكمله بالجزء الثاني بحول الله مبتدئًا بشك ديكارت.
والله أعلم وأحكم.
البراء بن محمد
ليلة الإثنين 1439/5/19هـ
2018/2/5م
---
الهوامش
---
(1) (مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المجلد الحادي عشر، 1425هـ-2004م، ص384).
(2) (مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المجلد الرابع، 1425هـ-2004م، ص43).
(3) (إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات إلى المذهب الحق، أبو عبدالله محمد بن المرتضى اليماني [ابن الوزير]، دار الكتب العلمية، ط2 1407هـ-1987م، ص17).
(4)
(5) (الفصل في الملل والأهواء والنحل، أبو محمد علي بن أحمد [بن سعيد] بن حزم الظاهري، تحقيق: د. محمد إبراهيم نصر ود. عبدالرحمن عميرة، دار الجيل، ط2 1416هـ-1996م، ص43).
(6) الجدير بالذكر أن ابن التلمساني قسمهم إلى أربعة فرق وزاد على هذه القسمة بذكر غلاتهم وهم من يعلمون بعدم العلم. انظر (شرح معالم الدين، شرف الدين عبدالله بن محمد الفهري المصري [ابن التلمساني]، تحقيق: نزار حمادي، دار الفتح، ط1 1431هـ-2010م، ص71).
(7) (تاريخ الفلسفة اليونانية، ماجد فخري، دار العلم للملايين، ط1 1991م، ص54). (تاريخ الفلسفة، اميل برهييه، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الطليعة، ط2 1987، الجزء الأول، ص108). (قصة الفلسفة اليونانية، أحمد أمين وزكي نجيب محمود، دار الكتب المصرية، ط2 1935م، ص95-96). (تاريخ الفلسفة اليونانية، يوسف كرم، مؤسسة هنداوي، ص62-63).
(8) (تاريخ الفلسفة اليونانية، يوسف كرم، مؤسسة هنداوي، ص277).
(9) (تاريخ الفلسفة، اميل برهييه، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الطليعة، ط2 1987، الجزء الأول، ص106)، والأخطاء الإملائية في الأصل.
(10) (قصة الفلسفة اليونانية، أحمد أمين وزكي نجيب محمود، دار الكتب المصرية، ط2 1935م، ص93)
(11) (أسس الفلسفة، د. توفيق الطويل، مكتبة النهضة المصرية، ط3، ص234-235).
(12) "إنه ليس على يقين حتى من أنه يشك؛ فهو شاك في أنه شاك! ولو زعم أنه يشك لأثبت بهذا أنه يعرف حقيقة هي أنه يشك ولناقض بهذا نفسه!" (أسس الفلسفة، د. توفيق الطويل، مكتبة النهضة المصرية، ط3، ص231) "وأما اللاأدرية فهم يقولون: الكلام الذي ذكرته أنت لو خلا عن المعارض الذي أوردته أنا لكان يفيد في الجزم، ولكن لأجل تلك المعارضات زال الوثوق، فلا جرم لا أقطع بشيءٍ أصلًا لا بحيرتي ولا بعدم حيرتي." (نهاية العقول في دراية الأصول، فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي، تحقيق: د. سعيد عبداللطيف فودة، ط1 1436هـ-2015م، الجزء الأول، ص169).
(13) " In the Hellenistic period, the various sceptical observations and attitudes of earlier Greek thinkers were developed into a set of arguments to establish either (1) that no knowledge was possible or (2) that there was insufficient and inadequate evidence to determine if any knowledge was possible, and hence that one ought to suspend judgment on all questions concerning knowledge. The first of these views is called Academic scepticism, the second Pyrrhonian scepticism."
(Popkin, Richard H. The history of scepticism from Savonarola to Bayle. Oxford University Press, 2003, pp. xvii)
(14) (حياة مشاهير الفلاسفة، ديوجينيس اللائرتي، ترجمة: إمام عبدالفتاح إمام، المجلس الأعلى للثقافة، ط1 2006م، المجلد الأول، ص39).
(15) كذا في الأصل ولعلها شكًا
(16) الطُلَعة: بمعنى كثير التطلع. راجع معجم المعاني
https://www.almaany.com/ar/dict/ar-ar/%D8%B7%D9%84%D8%B9%D8%A9/  [آخر دخول 2018/2/2م]
(17) (تاريخ الفلسفة الغربية، برتراند رسل، ترجمة: د. زكي نجيب محمود، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط 2010م، الكتاب الأول، ص366).
(18) (العقل والوجود، يوسف كرم، مؤسسة هنداوي، ص52).
(19) قال شارح الإرشاد المقترح: "اعلم أولا : أن الناس مختلفون في النقل عن السمنية وفي نسبة هذا المذهب إليهم : فمن الناس من ورّك بالغلط على الناقل ؛ فإن المذهب مخالف للبديهة ؛ فلا يتصور مخالفة العقلاء فيه ؛ فإنا نعلم علوما بديهية خارجة عن الحواس كعلمنا بآلامنا ولذاتنا ، ونفورنا وشهواتنا ،وغضبنا وفرحنا ، وأن الاثنين أكثر من الواحد ، وأن النفي والإثبات لا يجتمعان على موضوع واحد الى نحو ذلك من العلوم البديهية ، وإذا كان كذلك فلا وجه لمنازعة العقلاء في ذلك ." ثم قال بعد قليل: "ومن الناس من عد هؤلاء من قبيل السوفسطائية" (شرح الإرشاد، تقي الدين المقترح، إعداد: فتحي أحمد عبدالرزاق، جامعة الأزهر كلية أصول الدين، ط 1410هـ-1989م، ص13-14).
(20) (الإرشاد إلى قواطع الأدلة والاعتقاد، أبو المعالي [عبدالملك بن عبدالله بن يوسف] الجويني، تحقيق: د. محمد يوسف موسى وعلي عبدالمنعم عبدالحميد، مكتبة الخانجي، ط 1369هـ-1950م، ص3-5).
(21) (بيان تلبيس في الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية، أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن تيمية الحراني، تحقيق: د. سليمان الغفيص، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ط 1426هـ، الجزء الخامس، ص153).
(22) (بيان تلبيس في الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية، أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن تيمية الحراني، تحقيق: د. سليمان الغفيص، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ط 1426هـ، الجزء الخامس، ص153-154).
(23) (الإجماع الإنساني المحددات ومعايير الاحتجاج، رضا زيدان، مركز براهين، ط1 2017م، ص68).
(24) (قصة الفلسفة اليونانية، أحمد أمين وزكي نجيب محمود، دار الكتب المصرية، ط2 1935م، ص305-306).
(25) انظر على سبيل المثال: المنهج الفلسفي بين الغزالي وديكارت للدكتور محمود حمدي زقزوق.
(26) https://www.jstor.org/stable/41480705?seq=1#page_scan_tab_contents  [آخر دخول 2018/2/3م]
(27) (المنقذ من الضلال، أبو حامد [محمد بن محمد بن محمد بن أحمد] الغزالي، تحقيق: محمود بيجو، دار التقوى-دار الفتح، ط2، ص32).
(28) (المنقذ من الضلال، أبو حامد [محمد بن محمد بن محمد بن أحمد] الغزالي، تحقيق: محمود بيجو، دار التقوى-دار الفتح، ط2، ص33).
(29) يقول الفخر الرازي ردًا على الاحتجاج بالمنام -في سياق الرد على حجج السوفسطائية-: "قوله: النائم قد يجزم بما يشاهده، ثم يتبين عند اليقظة أن ذلك الجزم كان باطلًا، فجاز أن يكون الأمر في اليقظة كذلك. قلنا: نحن نجد من أنفسنا أن هذا الكلام لا يشككنا في علمنا بوجود أنفسنا وآلامنا ولذاتنا، ولا فرق أقوى مما يجده الإنسان من نفسه." (نهاية العقول في دراية الأصول، فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي، تحقيق: د. سعيد عبداللطيف فودة، ط1 1436هـ-2015م، الجزء الأول، ص177).
(30) (المنقذ من الضلال، أبو حامد [محمد بن محمد بن محمد بن أحمد] الغزالي، تحقيق: محمود بيجو، دار التقوى-دار الفتح، ط2، ص36).
(31) (المنقذ من الضلال، أبو حامد [محمد بن محمد بن محمد بن أحمد] الغزالي، تحقيق: محمود بيجو، دار التقوى-دار الفتح، ط2، ص36).
(32) (المنقذ من الضلال، أبو حامد [محمد بن محمد بن محمد بن أحمد] الغزالي، تحقيق: محمود بيجو، دار التقوى-دار الفتح، ط2، ص36).
(33) (القائد إلى تصحيح العقائد، عبدالرحمن بن يحيى المعلمي، المكتب الإسلامي، ط3 1404هـ-1984م، ص65).
(34) (العقل والوجود، يوسف كرم، مؤسسة هنداوي، ص53).
(35) (درء تعارض العقل والنقل، تقي الدين أحمد بن عبدالحليم [بن عبدالسلام] بن تيمية، تحقيق: د. محمد رشاد سالم، إدارة الثقافة والنشر [بجامعة الإمام محمد بن سعود]، ط2 1411هـ-1991م، الجزء السادس، ص14).

الأحد، 14 يناير 2018

خواطر حول الجامعة

بسم الله الرحمن الرحيم 
ما زالت تقنيات التعليم والتفهيم قابلة للتغيير والتحديث والنقاش المستمر، وما زال الجدال حول كفائتها مطروحًا متداولًا بين الناس. كيف لا وهم يرون مخرجات الجامعات التي تتفاوت في درجاتها بين الناجح المخترع والفاشل المطرود وبينهما متخرج يتأمل في شهادته مرارًا ثم يغلق عينيه ويتخيل نفسه حائزًا على وظيفة ينافسه آلاف المتخرجين مثله. لا يزال كثير من الطلاب يقاسون مرارة اختبارات الجامعة، وشدة أنظمتها، وتعسف دكاترتها، فيلعنونها، ويكملون مسيرهم في هذا المسار المجهول الذي يبدو أحاديًا بالنسبة إليهم. تراهم يتحدثون تارة بلغة الحقوقي الذي يقصد العدل ولا يعدل عنه بشيء، ويتحدثون تارة أخرى بلغة طالب الفضل والإحسان الذي ما فتئ يستعطف دكاترته لبضع درجات كي يتجاوز المادة إلى ما بعدها وينجو من عواقب حملها مجددًا في فصل آخر.
تختفي محاسن النظام الجامعي وسط هذه الصورة المشوشة التي لا يبرز منها غير جانبها المظلم الكالح. تتلاشى أهمية ضبط عامة الناس بنظام يستحيل تطبيق جزئياته كاملة على الأرض. يزيلها ذلك الضوء الساطع الذي يكشف عن خلل يكتنف جسد النظام، وعادة اتفق الناس عليها لذاتها لا لغاية محمودة؛ حتى وهم ينظرون إلى قبيح نتاجهم. يغيب عن الأذهان كثيرًا أن الرغبة الذاتية في التعلم لا توجد عند كثير من الناس، وأنهم لا يتعلمون إلا بقدر ما يرتبط تعلميهم بلقمة عيشهم.
إن الجامعة -على ما فيها من انتقادات- تجربة ثرية لمن تفطن إليها، واستفاد من معايشته لظروفها المختلفة. وهي مرحلة حتمية لأكثر الناس في زماننا، فلا مناص من دخولها. 
وها هنا بعض الخواطر المتفرقة حول جوانب من الجامعة. 
1-      جدلية ما نهوى وما يتوجب علينا فعله 
تبتدئ هذه الجدلية في نفس الناشئ قبل دخوله الجامعة، وهو ينظر في مختلف التخصصات التي منها ما يوافق رغبته، ومنها ما يتعارض معها قطعًا. وعند هذه اللحظة تحديدًا بدأت الموازنات بين الرغبة والحاجة، بين رغبة الإنسان ورغبة والديه. ليس كل ما نرغبه مفيدًا حقًا، وليس كل مفيد مرغوبًا. بين هذين الخطين العريضين تتدرج محاولات التوفيق والاستبعاد.
فإن توافقت الرغبة الحقيقية في التخصص مع قرار دراسته (وهو موافقة تكاد تكون نموذجًا متفردًا لا يقاس عليه) فذلك مطلب عالٍ بلا شك. ولكن حصوله ترف لكثير ممن شقوا طريقهم بأنفسهم، وكابدوا مشقة مخالفة الهوى، ومجانبة الراحة طلبًا للكمال والعز. وينبغي أن ننبه إلى أن هذه الرغبة الحقيقية تشغل بال المرء وفكره، فلا يتخيل نفسه في غير تخصصه، ولا ترتسم مساحات إبداعه وذهنه الوقاد في غير مجاله المعرفي الذي يبذل فيه كافة جهده. إننا نتحدث عن شغف يتجاوز تحقيق المعدل المرتفع، والتفوق على الأوائل في الترتيب الجامعي. فهل هذا الشغف معقود في نفوس الطلاب؟ سرّح نظرك في واقعهم، وسترى خلاف ذلك. قليل من هؤلاء من يريد إكمال الدراسات العليا في تخصصه، فضلًا عن درجة الدكتوراه والسلك الأكاديمي والمجال البحثي. وأقل من هؤلاء من يتجاوز إطار الوظيفة التي عين فيها من قبل. بل إن قدرًا من هؤلاء يتخرجون بغير معرفة حقيقية بمجالهم، ولا حتى الأساسيات التي يفارقون بها غير المتخصصين.
فإن كان واقع هؤلاء بعيدًا عن محبة العلم لذاته، وكانت نفوسهم قاصرة عن العزيمة والإرادة التي تدفعهم لنهاية مسار التعلم (الذي لا نهاية له في حقيقة الأمر)، فينبغي أن نقدر وجود الجامعة الذي يجبرهم على تقدير العلم واحترامه ويضطرهم لخوض غماره ولو قليلًا.
2-     إقامة العدل المحض دومًا فيه عسر
الغش في الاختبارات والواجبات وسائر النشاطات ممنوع في الجامعة، وهو مظنة إلغاء الدرجات، بل الطرد والإبعاد في أسوأ الأحوال. ولكنه وسيلة كثير من الطلاب للنجاح والتفوق، وأحوالهم في ذلك مختلفة، فمن كسول أقعده خموله عن التحصيل، وآخر بنصف فهم واستيعاب، إلى مستوعب فاهم خانته ذاكرته في وقت حاجته إليها. والغش نفسه على درجات. فليس غش اختبار كامل كغش فقرة وفقرتين. استحضر ما قلناه عن الغش وانتقل معي إلى ما بعده.
حضور الكلاسات (أو الحصص الدراسية) واجب قانوني على الطالب، وتقصيره فيه ينعكس على درجاته. بل إن هناك حدًا معينًا من الغياب يرتبط بالحرمان من الجلوس للاختبار النهائي وربما الرسوب في المادة. لكن الدكاترة أنفسهم يختلفون في معيار الحضور، فمنهم من يرفض التأخر مطلقًا، ومنهم من يتساهل في ذلك. بل قد اتفق لي أن حضرت حصة قبل نهايتها بدقيقتين أو أقل فأشرت إلى الدكتور أستأذنه في التوقيع فسمح لي وابتسم.
الغش في الجامعة والتساهل في حضور الحصوص هما مما يمكن للدكتور كشفه بأقل مستوى من الذكاء والحيلة. فماذا لو كان الدكاترة كلهم على نسق واحد من الالتزام بالقوانين الصارمة كما هي بقطع النظر عن أي أحوال أخرى؟ بل ماذا لو سارت كل الجامعات على هذه الوتيرة؟ سنجزم حينها أن نصف الطلاب راسبون في هذه الجامعات. إن لم يكن أكثر من ذلك. وهنا حديثٌ عن ثلاث مساحات تتقاطع كثيرًا وهي الظلم والعدل والفضل. فلو قدرنا أن الغش مسموح به صراحة في كل الجامعات لكان ذلك ظلمًا بينًا، ولو قدرنا أنه ممنوع صراحة وضمنًا بحيث يتعذر أن يغش طالب واحد لسقط كثير من الطلاب. خاصة وأن الأسئلة قد تتجاوز مستوى فهم الطلاب للمادة التي يُختبرون فيها. وليسوا كلهم في الهمة والعزيمة سواء. وليست قابلية الصلاح والاستفادة من العفو موجودة عندهم جميعًا. وهنا يتجدد السؤال: هل تطبيق هذه القوانين بصرامة متناهية يحقق أهداف الجامعة؟ سواء قلنا أن هدف الجامعة هو التعليم حقًا أو التأهيل للتعليم والعمل، فإن كلا الهدفين يتعذر تحقيقهما مع صرامة القوانين. اللهم إلا أن يقال أن بنية الجامعات وأنظمتها واجب تغييرها، وهذا أمر آخر على كل حال.
ومن هنا فإن تقاطع المساحات الثلاثة يكون في صالح المؤسسة التعليمية والطلاب أحيانًا أو كثيرًا، ما دمنا نتحدث عن وضعها الحالي. وهذا يقودنا للجانب التالي.
3-     طيف متنوع
تمثل الجامعة في واقعها عالمًا مصغرًا يمثل عالمنا الكبير الذي نعيش فيه ونتفاعل مع أجزائه، فهي وإن كانت مصممة لتنميط الطلاب في صورة الاجتهاد والانضباط الأقصى؛ إلا أنها تحمل تنوعًا للناس بخلفياتهم الدينية والعرقية والمجتمعية. هذا التنوع كنز ممتلئ بالمعلومات التي ليس من مظانها جوجل أو المكتبات. إننا نختبر مسلماتنا وفرضياتنا بتنوع حتمي كهذا. وهو خبرة عملية يجب اكتسابها في مرحلة ما قبل الانشغال بمعتركات حياتية أخرى. هذا التنوع لا يقع على الطلاب وحدهم بل يمتد إلى الدكاترة الذين يختلفون في أمزجتهم ومتطلباتهم وتجاربهم الشخصية ورؤاهم للحياة. ألا يذكرك هذا بأرباب الأعمال ومدراء الوظائف؟
4-     معيار للانضباط
إن قوانين الجامعة كما قدمنا ليست قابلة للتطبيق العملي بحذافيرها لأن ذلك يعطل المصالح المرجوة من سنّها في المقام الأول. كما أن درجتها وشهادتها لا تشمل جميع مناحي الخبرة العلمية والعملية المطلوبة للنجاح في الحياة. إلا أنها معيار معتبر مستقر ينبغي تقديره على الأقل. ومسارها هو مستوى من مستويات قياس أداء الناس وفعاليتهم. وهو ليس دربًا يشقه أولو العزيمة والإرادة، وهو ليس من حيل الضعفاء والفاشلين. ولكنه معيار يمكن الاستئناس به واعتباره لغيره من مراقي الكمال والنجاح. ولن يعتد به إلا قاصر الهمة، ولكنه لم يوضع لذلك بالطبع.
--
لن أزعم أن ما كتبته يمثل فلسفة مكتملة الأركان، ولا تنظيرًا يفتقر إلى التطبيق، ولكنه خواطر شخصية تستحق أن تفرد في مدونة، وتثير التفكير قليلًا.
والله أعلم وأحكم.
البراء بن محمد.
الأحد 1439/4/27هـ
2018/1/14م