الأحد، 14 يناير 2018

خواطر حول الجامعة

بسم الله الرحمن الرحيم 
ما زالت تقنيات التعليم والتفهيم قابلة للتغيير والتحديث والنقاش المستمر، وما زال الجدال حول كفائتها مطروحًا متداولًا بين الناس. كيف لا وهم يرون مخرجات الجامعات التي تتفاوت في درجاتها بين الناجح المخترع والفاشل المطرود وبينهما متخرج يتأمل في شهادته مرارًا ثم يغلق عينيه ويتخيل نفسه حائزًا على وظيفة ينافسه آلاف المتخرجين مثله. لا يزال كثير من الطلاب يقاسون مرارة اختبارات الجامعة، وشدة أنظمتها، وتعسف دكاترتها، فيلعنونها، ويكملون مسيرهم في هذا المسار المجهول الذي يبدو أحاديًا بالنسبة إليهم. تراهم يتحدثون تارة بلغة الحقوقي الذي يقصد العدل ولا يعدل عنه بشيء، ويتحدثون تارة أخرى بلغة طالب الفضل والإحسان الذي ما فتئ يستعطف دكاترته لبضع درجات كي يتجاوز المادة إلى ما بعدها وينجو من عواقب حملها مجددًا في فصل آخر.
تختفي محاسن النظام الجامعي وسط هذه الصورة المشوشة التي لا يبرز منها غير جانبها المظلم الكالح. تتلاشى أهمية ضبط عامة الناس بنظام يستحيل تطبيق جزئياته كاملة على الأرض. يزيلها ذلك الضوء الساطع الذي يكشف عن خلل يكتنف جسد النظام، وعادة اتفق الناس عليها لذاتها لا لغاية محمودة؛ حتى وهم ينظرون إلى قبيح نتاجهم. يغيب عن الأذهان كثيرًا أن الرغبة الذاتية في التعلم لا توجد عند كثير من الناس، وأنهم لا يتعلمون إلا بقدر ما يرتبط تعلميهم بلقمة عيشهم.
إن الجامعة -على ما فيها من انتقادات- تجربة ثرية لمن تفطن إليها، واستفاد من معايشته لظروفها المختلفة. وهي مرحلة حتمية لأكثر الناس في زماننا، فلا مناص من دخولها. 
وها هنا بعض الخواطر المتفرقة حول جوانب من الجامعة. 
1-      جدلية ما نهوى وما يتوجب علينا فعله 
تبتدئ هذه الجدلية في نفس الناشئ قبل دخوله الجامعة، وهو ينظر في مختلف التخصصات التي منها ما يوافق رغبته، ومنها ما يتعارض معها قطعًا. وعند هذه اللحظة تحديدًا بدأت الموازنات بين الرغبة والحاجة، بين رغبة الإنسان ورغبة والديه. ليس كل ما نرغبه مفيدًا حقًا، وليس كل مفيد مرغوبًا. بين هذين الخطين العريضين تتدرج محاولات التوفيق والاستبعاد.
فإن توافقت الرغبة الحقيقية في التخصص مع قرار دراسته (وهو موافقة تكاد تكون نموذجًا متفردًا لا يقاس عليه) فذلك مطلب عالٍ بلا شك. ولكن حصوله ترف لكثير ممن شقوا طريقهم بأنفسهم، وكابدوا مشقة مخالفة الهوى، ومجانبة الراحة طلبًا للكمال والعز. وينبغي أن ننبه إلى أن هذه الرغبة الحقيقية تشغل بال المرء وفكره، فلا يتخيل نفسه في غير تخصصه، ولا ترتسم مساحات إبداعه وذهنه الوقاد في غير مجاله المعرفي الذي يبذل فيه كافة جهده. إننا نتحدث عن شغف يتجاوز تحقيق المعدل المرتفع، والتفوق على الأوائل في الترتيب الجامعي. فهل هذا الشغف معقود في نفوس الطلاب؟ سرّح نظرك في واقعهم، وسترى خلاف ذلك. قليل من هؤلاء من يريد إكمال الدراسات العليا في تخصصه، فضلًا عن درجة الدكتوراه والسلك الأكاديمي والمجال البحثي. وأقل من هؤلاء من يتجاوز إطار الوظيفة التي عين فيها من قبل. بل إن قدرًا من هؤلاء يتخرجون بغير معرفة حقيقية بمجالهم، ولا حتى الأساسيات التي يفارقون بها غير المتخصصين.
فإن كان واقع هؤلاء بعيدًا عن محبة العلم لذاته، وكانت نفوسهم قاصرة عن العزيمة والإرادة التي تدفعهم لنهاية مسار التعلم (الذي لا نهاية له في حقيقة الأمر)، فينبغي أن نقدر وجود الجامعة الذي يجبرهم على تقدير العلم واحترامه ويضطرهم لخوض غماره ولو قليلًا.
2-     إقامة العدل المحض دومًا فيه عسر
الغش في الاختبارات والواجبات وسائر النشاطات ممنوع في الجامعة، وهو مظنة إلغاء الدرجات، بل الطرد والإبعاد في أسوأ الأحوال. ولكنه وسيلة كثير من الطلاب للنجاح والتفوق، وأحوالهم في ذلك مختلفة، فمن كسول أقعده خموله عن التحصيل، وآخر بنصف فهم واستيعاب، إلى مستوعب فاهم خانته ذاكرته في وقت حاجته إليها. والغش نفسه على درجات. فليس غش اختبار كامل كغش فقرة وفقرتين. استحضر ما قلناه عن الغش وانتقل معي إلى ما بعده.
حضور الكلاسات (أو الحصص الدراسية) واجب قانوني على الطالب، وتقصيره فيه ينعكس على درجاته. بل إن هناك حدًا معينًا من الغياب يرتبط بالحرمان من الجلوس للاختبار النهائي وربما الرسوب في المادة. لكن الدكاترة أنفسهم يختلفون في معيار الحضور، فمنهم من يرفض التأخر مطلقًا، ومنهم من يتساهل في ذلك. بل قد اتفق لي أن حضرت حصة قبل نهايتها بدقيقتين أو أقل فأشرت إلى الدكتور أستأذنه في التوقيع فسمح لي وابتسم.
الغش في الجامعة والتساهل في حضور الحصوص هما مما يمكن للدكتور كشفه بأقل مستوى من الذكاء والحيلة. فماذا لو كان الدكاترة كلهم على نسق واحد من الالتزام بالقوانين الصارمة كما هي بقطع النظر عن أي أحوال أخرى؟ بل ماذا لو سارت كل الجامعات على هذه الوتيرة؟ سنجزم حينها أن نصف الطلاب راسبون في هذه الجامعات. إن لم يكن أكثر من ذلك. وهنا حديثٌ عن ثلاث مساحات تتقاطع كثيرًا وهي الظلم والعدل والفضل. فلو قدرنا أن الغش مسموح به صراحة في كل الجامعات لكان ذلك ظلمًا بينًا، ولو قدرنا أنه ممنوع صراحة وضمنًا بحيث يتعذر أن يغش طالب واحد لسقط كثير من الطلاب. خاصة وأن الأسئلة قد تتجاوز مستوى فهم الطلاب للمادة التي يُختبرون فيها. وليسوا كلهم في الهمة والعزيمة سواء. وليست قابلية الصلاح والاستفادة من العفو موجودة عندهم جميعًا. وهنا يتجدد السؤال: هل تطبيق هذه القوانين بصرامة متناهية يحقق أهداف الجامعة؟ سواء قلنا أن هدف الجامعة هو التعليم حقًا أو التأهيل للتعليم والعمل، فإن كلا الهدفين يتعذر تحقيقهما مع صرامة القوانين. اللهم إلا أن يقال أن بنية الجامعات وأنظمتها واجب تغييرها، وهذا أمر آخر على كل حال.
ومن هنا فإن تقاطع المساحات الثلاثة يكون في صالح المؤسسة التعليمية والطلاب أحيانًا أو كثيرًا، ما دمنا نتحدث عن وضعها الحالي. وهذا يقودنا للجانب التالي.
3-     طيف متنوع
تمثل الجامعة في واقعها عالمًا مصغرًا يمثل عالمنا الكبير الذي نعيش فيه ونتفاعل مع أجزائه، فهي وإن كانت مصممة لتنميط الطلاب في صورة الاجتهاد والانضباط الأقصى؛ إلا أنها تحمل تنوعًا للناس بخلفياتهم الدينية والعرقية والمجتمعية. هذا التنوع كنز ممتلئ بالمعلومات التي ليس من مظانها جوجل أو المكتبات. إننا نختبر مسلماتنا وفرضياتنا بتنوع حتمي كهذا. وهو خبرة عملية يجب اكتسابها في مرحلة ما قبل الانشغال بمعتركات حياتية أخرى. هذا التنوع لا يقع على الطلاب وحدهم بل يمتد إلى الدكاترة الذين يختلفون في أمزجتهم ومتطلباتهم وتجاربهم الشخصية ورؤاهم للحياة. ألا يذكرك هذا بأرباب الأعمال ومدراء الوظائف؟
4-     معيار للانضباط
إن قوانين الجامعة كما قدمنا ليست قابلة للتطبيق العملي بحذافيرها لأن ذلك يعطل المصالح المرجوة من سنّها في المقام الأول. كما أن درجتها وشهادتها لا تشمل جميع مناحي الخبرة العلمية والعملية المطلوبة للنجاح في الحياة. إلا أنها معيار معتبر مستقر ينبغي تقديره على الأقل. ومسارها هو مستوى من مستويات قياس أداء الناس وفعاليتهم. وهو ليس دربًا يشقه أولو العزيمة والإرادة، وهو ليس من حيل الضعفاء والفاشلين. ولكنه معيار يمكن الاستئناس به واعتباره لغيره من مراقي الكمال والنجاح. ولن يعتد به إلا قاصر الهمة، ولكنه لم يوضع لذلك بالطبع.
--
لن أزعم أن ما كتبته يمثل فلسفة مكتملة الأركان، ولا تنظيرًا يفتقر إلى التطبيق، ولكنه خواطر شخصية تستحق أن تفرد في مدونة، وتثير التفكير قليلًا.
والله أعلم وأحكم.
البراء بن محمد.
الأحد 1439/4/27هـ
2018/1/14م