السبت، 24 مارس 2018

ثمانية حكم من تحقير مصارع عتاة الكفار

بسم الله الرحمن الرحيم 
الحمد لله ناصر المؤمنين مخزي الكافرين، والصلاة والسلام على نبيه الهادي الأمين وآله وصحبه وأجمعين. 
أما بعد، 
فإن للموت هيبة يجدها كل إنسان في نفسه، غير أن ميتة الشجاع الكريم ليست كميتة الجبان اللئيم، وفي كلٍ عبرة وعظة للعقلاء. وعوائد الناس تخبرنا أن قوة هيبة الموت تجعلهم يميلون بقصد أو بغير قصد إلى تعظيم الميت، والإسهاب في ذكر محاسنه لداعٍ ولغير داعٍ. وليس الشأن في ذكر سير الصالحين المتقين للتأسي بهم، والترحم عليهم، والتصدق عنهم، ولكنه في رفع مكانة المجرمين الظالمين، وتلميع صورهم التي تلطخت بقذارة أفعالهم. وفي هذا تطبيع للجريمة والضلال، وتحسين للقبيح، وتعويد النفس على الخسة والوضاعة. وكل ذلك يهون عند تجاوز محكمات الشريعة وقطعياتها باتباع العاطفة العمياء، فتجد أحدهم يترحم على أعداء الله الكافرين، والآخر يفرش لهم صراطًا إلى الجنة، وأحسنهم حالًا (وكلهم فاسدو الحال) من يختزل سيرة الرجل في أعماله الدنيوية ويتجاوز كفره الظاهر، وتصريحه بعداء الله وأوليائه، أو يدّعي جهله ولاأدريته بحال الرجل لأنه ربما مات على دين الله وشرعه.
ولم يكن هلاك الملحد المحاد لله ستيفن هوكينج استثناءً، بل كان أعظم فتنة لكثير من المنافقين وضعيفي الإيمان، فمن قاطعٍ بأنه خير عند الله من مسلم معين، وآخر جازم بأنه في الجنة، وثالث يترحم عليه، ورابعٍ يعظمه ويبالغ في مدحه، وهكذا يزداد المفتونون الضالون. 
لكن لم تكن الحياة خلوًا من رجال غيورين للحق، قائمين بأمر الله، مصرحين بشرعه لا يهابون في ذلك إرجاف الجبناء، ولا ينساقون خلف شبهات مطموسي البصيرة ورقيقي الديانة. وهؤلاء هم بقية الخير في الأرض، والنور الساطع في وسط الظلمة الكالحة. فنسأل الله أن يعينهم ويزيدهم من فضله وبركته. 
وتأسيًا بهؤلاء الأكارم الأخيار، أحببت أن أبين المصالح العظيمة في تحقير مصارع الكافرين أعداء الله (وأخص منهم من ظهرت عداوته لله بإمعانه في الباطل ومجاهرته به وفتنة الناس به)، وما في ذلك من الحكم البالغة التي تنقل معركة الحق والباطل إلى الهجوم على المبطلين، عوضًا عن ترقب هجماتهم على الدين.
وهذه الحكم بينها تداخل ظاهر، وليس هذا بمانع من اختصاص كلٍ منها بوجه معين.
1- موعظة الموت: 
قال تعالى: ((قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون)) [الجمعة/8]
إن الموت واعظ لكل من غرق في غفلته، وأعمته شهواته عن تبصر الحق. كيف لا وهو يهدم اللذات ويقطع الشهوات ويقرّب النفوس من رؤية الحقائق التي توارت خلف ظلمة الأهواء الكالحة. لكننا ننسى الموت ونغفل عنه كثيرًا لأن أملنا أطول من أجلنا الذي لا نعرف نهايته. نبذر البذرة ونحن ننظر إلى النبتة التي ستنتج عنها، ونأكل الأكلة ونحن نترقب هضمها والتخلص من فضلاتها. وننام ملء الجفون أملًا في بزوغ شمس الصباح. كل هذا والموت غائب عن الذهن. وفي مصرع الكافرين أبلغ مذكر بالموت وأنه لا يستثني أحدًا من الخلق مهما طال عمره.

2- التزهيد في الدنيا:
قال تعالى: ((وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون)) [الأنعام/32]
ينبغي أن يكون هلاك عتاة الكافرين واعظًا لمن غرق في دنياه باللهو واللعب أن يرتدع ويكف عن باطله. فقد رأى في مصارع الظالمين ما يعكّر أحلامه الوردية التي تصبغ واقعًا مختلفًا عنها تمامًا. يجب أن يعلم الكافة أن الدنيا بمبانيها، ومنجزاتها، وتطورها لا تعني عند الله شيئًا ما لم يكن ذلك مقصودًا لإرضائه سبحانه وتعالى. مهما تنامت ثروتك، وتزايدت شهواتك، فكلها تساوي صفرًا في الميزان الإلهي. إن تضخيم إنجازات كافر بالله وتهوين كفره جريمة لا تغتفر. ولمحو آثار هذه الجريمة الشائعة، فإننا نذكر الناس بأن دنيا الكافرين هي جنتهم الزائلة التي يعقبها جحيم أبدي لا يملكون له تخفيفًا ولا يستطيعون منه هربًا.

3- تذكير الناس بغاية الله من خلقهم:
قال تعالى: ((وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون * ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون)) [الذاريات/56-57]
صدق الله العظيم. فأنى لمحاربٍ لله ورسوله أن يحقق غاية الله من خلقه وهو مقيم على كفره وفجوره؟ وهل يصح وصف هذا بالناجح في حياته؟ وهل ينبغي أن يكون قدوة لمن هو دونه؟ بل هلاك أمثال هذا هو أكبر دليل على فشلهم وسفالتهم وأن حياتهم ضاعت هدرًا فيما لا ينبغي لها.

4- تحقيق البراء من الكافرين:
قال تعالى: ((لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آبائهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم...الآية)) [المجادلة/22]
وهلاك رؤوس الكفر والضلالة أولى فرصة باستغلالها لإظهار بغض الكفر وأهله، وأن تلك الحمية والغيرة هي لله عز وجل ومحارمه التي انتهكها أهل الأهواء والضلالات.

5- تصحيح معايير الناس في الحكم على الأشخاص:
قال تعالى: ((إن أكرمكم عند الله أتقاكم...الآية)) [الحجرات/13]
لا يتذكر الناس هذه الآية إلا في سياق محاربة النزعات الجاهلية التي ترفع أقوامًا وتخفض آخرين لاعتباراتٍ أبطلها الشرع كاللون والتعصب القبلي ولكنهم لهوى في أنفسهم لا يتذكرون أعظم نزعة جاهلية وهي التعصب للدين الفاسد الذي لا يرضاه الله. بل هم أول من يبطل محاكمة الكفار إلى معيار الله بدعوى أنهم معذورون بجهلهم، وأن أعمالهم الدنيوية التافهة تشفع لهم عند الله!
وفي تحقير مصارع الكافرين أعظم بيان للمعيار الشرعي الذي يُحاكم الناس إليه وهو تقوى الله. إن أفسق مسلم على وجه الأرض خير من ألف ألف كافر محسن إلى الناس بأمواله، لأن شيئًا من تقوى الله ومحبته قائم بنفسه، بخلاف تلك النفوس الخبيثة التي ما عرفت الله وجحدت حقه سبحانه وتعالى.

6- كسر الهوى في نفوس الأتباع:
قال تعالى عن فرعون: ((فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوم فاسقين)) [الزخرف/54]
لم يتمكن فرعون من إضلال قومه لولا سفاهتهم وأهوائهم التي صرفتهم عن عبادة الله وحده إلى عبادة مخلوقه الحقير الذي رفع نفسه إلى مرتبة الألوهية. ونظائر فرعون كثرٌ في التاريخ، فهم طواغيت يرتقون فوق رؤوس أتباعهم السفهاء. وفي مصرعهم آية لمن اغتر بهم لهواه ومرض نفسه. ألا ترى كيف كان مصرع قارون صفعة لمن اغتروا بظاهر ما امتلكه من الدنيا واكتفوا بذلك عن باطنه الخَرِب الذي يخلو من تقوى الله ومحبته.

7- الاعتزاز بالدين وتعظيمه في النفوس:
قال تعالى: ((ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين)) [آل عمران/139]
وفي تحقير مصارع الكافرين تذكير لأهل الإيمان أن عزتهم إنما هي لإيمانهم بالله، وأن غلبة الكافرين بأموال الدنيا وقوتها إنما هي مؤقتة لا تدوم، ثم تكون عليهم الذلة والصغار، والعذاب المهين في الدنيا والآخرة.

8- التذكير بالإخلاص:
قال تعالى: ((من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذمومًا مدحورًا)) [الإسراء/18]
وما من شك أن عتاة الكافرين أكثر الناس حرصًا على الدنيا وعلى الإعراض عن الإخلاص لله تعالى، وأن كل ما يفعلونه إنما هو لإرضاء شهواتهم الحسية والمعنوية. وتحقير مصارعهم فيه تذكير بضرورة الإخلاص لله كي لا تؤول محاسن الأقوال والأفعال إلى عواقب مرذولة وتكون عديمة الحاصل والمردود.

اللهم أمتنا على دين الإسلام، وملة إبراهيم عليه السلام، واحشرنا مع الأنبياء والمتقين والصالحين.
البراء بن محمد
السبت 1439/7/7هـ
2018/3/24م

الاثنين، 12 مارس 2018

تلخيص مقاصد الاختلاف في اللفظ لابن قتيبة

بسم الله الرحمن الرحيم 
الحمد لله المتفضل على عباده بنعمة الهداية والنور، والصلاة والسلام على نبيه الأمين مبلغ الرسالة، وآله وصحبه الكرام ومن استنار بسنته وهديه. 
أما بعد، 
فإن من أنفع الكتب التي دافعت عن معتقد أهل الحق السائرين على ضوء النبوة المقتفين لآثار الصحابة ومن تبعهم بإحسان هو كتاب الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة للإمام ابن قتيبة الدينوري رحمه الله. 
وقد تضمن كتابه أهم ثلاث مسائل محورية كان عليها مدار الخلاف والنزاع في تلك الحقبة الزمنية، وهي: القدر والأسماء والصفات واللفظ بالقرآن.
وقد رأيت أن من النافع تلخيص مقاصد الإمام، واختصار أدلته اختصارًا لا يغني عن قراءة أصله الغني بالفوائد، ولكنه يثبت المعلومة، ويعين على الفهم. وقد نشرت تلخيصي في غير هذه المدونة، وكنت قد هممت أن أنشره في مدونتي لرجاء بقائه وثباته فيها. ولكنني انشغلت عن ذلك تارة، ونسيته تارة أخرى، وربما غلبني الكسل أحيانًا. 
وعلى كل حال، فهذا هو التلخيص الذي أسأل الله أن ينفع به، وأن يثيبني عليه ويجعله خالصًا لوجهه. 
والله أعلم وأحكم 
البراء بن محمد 
الإثنين 1439/6/24هـ
2018/3/12م