الاثنين، 4 نوفمبر 2019

بواعث العقوق

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه سيد الخلق أجمعين، وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد، 

-

قال تعالى: ((وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا)) [الإسراء/23].

-

إن المواعظ المتعلقة ببر الوالدين تؤثر فينا، وتنفذ إلى أعماق قلوبنا بقدر ما تتصل بكلام الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وقصص البررة والعققة. لكن انغماسنا في الغفلة عن أحوالنا الظاهرة والباطنة يحول بيننا وبين الانتفاع بتلك المواعظ الجليلة، فتعبر من أذن وتخرج من أخرى دون أن ترد على القلب أو الفكر. 

ومن هنا، فإنني لن أعظ القارئ الكريم بتلك المواعظ المباشرة التي اعتاد سماعها وقرائتها، بل سأعمد لتحليل سلوكياتنا القبيحة، والنظر في بواعثها التي تعززها في أنفسنا.

-

ينبغي -في البدء- أن نقر بأن علة عقوق الوالدين غير منحصرة في البغض والحقد، إذ أن جملة من مظاهر العقوق -كالتأفف والتضجر- لا تلوح فيها علامات البغضاء بحال.

-

"ومن البر ما يكون عقوقًا" 

إن التقصير في حقوق الوالدين لازم لنا بطبيعتنا البشرية المشوبة بالأهواء والعواطف. إذ يكفي أننا لن نفيهما حقوقهما ما حيينا.

ومع ذلك، فإن للتقصير دركات، كما أن للإحسان درجات، فليس التأفف كشتم الوالدين أو ضربهما -عياذًا بالله-.

-

بواعث العقوق:

الاستغراق في لحظة الحاضر وفصلها عن سياقها 
اختزال التاريخ ((لو أحسنت إلى أحدهن الدهر كله...))
الإيغال في التفكير الذاتي
فوضى الوقت
الاستقلال عن الوالدين
ظلم الوالدين
سوء الفهم
الندية (أي أن يكون أحد الوالدين ندًا)
التجرد من المسؤولية

-

لو مثلنا للعقوق بفعل التأفف المناقض لقبول أمر الوالدين أو نهيهما، ثم أمعنّا النظر فيه؛ فإننا سندرك أن اتصاله بهذه البواعث وثيق للغاية، وأنه لا ينفك عنها بحال.

إن هذا المتأفف من أمر والده ينظر إلى هذا الأمر بوصفه انتهاكًا لحريته الشخصية في فعل ما يشاء، وأن والده يريد أن يتسلط عليه، وأنه مستقل عنهما بعلمه وقوته وماله، وأنه ليس مسؤولًا عنهما، وأن أولوياته ومصالحه مقدمة مطلقًا على مصالح والديه، وأن والديه أنداد له؛ ومن ثم فليس معنيًا بالاعتناء بهما برحمة وشفقة.

قد لا يستحضر المتأفف كل هذه المشاعر والأحاسيس، لكن تأففه المتكرر يوطنه عليها، ويزيد من تقبله إياها في المستقبل.

-

"لقد ظلمني والدي كثيرًا، لا أنسي أنه فعل كذا وكذا"، "عقتني صغيرة، فسأعقها كبيرة".
كم عاقًا سمعناه يردد مثل هذه الأقاويل؟

لا شك أن الظلم يجر الظلم، ويشجعه على الظهور والاستفحال. والعاق ليس استثناء من هذه القاعدة، فهو يستجيب الظلم بظلم مماثل لأنه يبالغ في تصويره، ويتخذ والديه أندادًا له، ويتجرد من كل مسؤولية تجاههما، ويجتزئ تاريخهما لينتقم منهما بكل قسوة.

-

إن استبداد العاق بمزيد عقل ومال وقوة يوهمه أنه مستقل عن والديه استقلالًا يوجب تباعده عنهما. وهو يتخزل بذلك تاريخًا طويلًا ضاربة جذوره في الماضي متضمنًا محاسن لا يستطيع أن يوصلها إلى نفسها لولا -الله- ثم وجود والديه وعنايتهما به.

والحق أن العاق امتداد والديه شاء ذلك أم أباه، هو نبتة زرعها والداه، واعتنيا بها (ولو لبعض الوقت)، فنمت وترعرعت.

بالإضافة إلى أن إثبات التفوق على الوالدين لا طائل منه في الغالب، وهو فعل يفتقر إلى أي تبرير أخلاقي وعقلي متسق.

-

المسؤولية تقتضي أن يحمل العاقل كلام والديه وأفعالهم على أحسن المحامل ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، أو التجاوز عنها إن كانت حقيرة بما يكفي لعدم النظر فيها، أو تقويمها برفق وحكمة دون استفزاز واعتداء.

لكن العاق خالٍ -كليًا أو جزئيًا- من المسؤولية، فهو -إذن- عرضة لسوء الفهم وفهم السوء، وهو ميالٌ إلى سوء الظن ما استطاع إلى ذلك سبيلًا. ولأن والديه أنداد له، فإنه لن يتجاوز عن زلة وإن دقت، أو يقوم الغلطة بما يزيلها حقًا دون تشنيع وإساءة.

-

ولأن العاق موغلٌ في النظر في مصالحه دومًا بلا اعتبار لمصالح والديه، فإن فوضويته في الوقت تؤثر بجلاء في تعامله مع والديه. إنه يستثقل بعض الدقائق التي يسامر فيها والدته ويؤنس وحشتها، ولا يستثقل أغلب الساعات التي يضيعها مع رفاقه في لغو الحديث ومنكره.

وحتى مع انتظام العاق في وقت عمله وحياته الخاصة، فإن انتظامه فوضى باعتبار خلوه من السعي لإرضاء والديه ورد شيء من الجميل الذي يستحقانه.

-

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئًا، قالت: ما رأيت منك خيرًا قط)) [البخاري]
وهذا الخلق الذميم تجاه الزوج منعكسٌ في سلوك العاق تجاه والديه. فكثير من العاقين ينظرون في زلات والديهم، ويعظمونها، ولا يزنونها إزاء المحاسن أبدًا. بل إنهم يشيعون هذه المساوئ ليكافئوا بها مساوئهم تجاه والديهم. رغم أن كثيرًا من هذه الزلات يمكن اغتفارها بخلاف العقوق المنطوي على سوء القصد والظن.

لا غرابة إذن أن نسمع عن عاق أفنى والداه أعمارهما في رعايته والعناية به، ثم لما ارتسمت اللحية على وجهه، قلب لهما ظهر المجن، وتنكر لمعروفهما، وجازهما جزاء "مجير أم عامر"!

-

وحتى لا تخلو المقالة من فائدة؛ فهذا جماع ما يفسد هذه البواعث ويبطل عملها في النفس:

فدواء الاستغراق في الحاضر وقطعه عن سياقه؛ هو النظر إلى المستقبل القادم الذي سيحمل في طياته عواقب الشر الوخيمة ما لم يتدارك العاقل نفسه. ودواؤه النظر -أيضًا- في الماضي المنصرم، للاعتبار به، والازدجار عن فعل ما يورد النفس الهلكة.
وهو كذلك دواءٌ شافٍ لمشكلة اختزال التاريخ.

وعلاج الإيغال في التفكير الذاتي هو توسيع النظر فيه ليشمل المصالح الحاصلة بالتقرب إلى الله عز وجل عن طريق خدمة الوالدين ومن في حكمهما، وأن مآل بر الوالدين هو صلاح الذات نفسها قبل كل شيء.

وتدارك فوضى الوقت هو بإدارته جيدًا، وترتيب الأولويات بحسب منظار الشرع والعقل.

وقطع باعث الاستقلال عن الوالدين هو أن يضع المرء نفسه في مكانهما، ويستشعر حاجتهما إلى رفيق معين، خاصة مع تقدم السن ووهن الجسد. بالإضافة إلى استحضار ماضٍ مكلل بالضعف والوهن، واستذكار مستقبلٍ واعدٍ بانحلال القوى، وانفصال الروح عن الجسد.

أما ظلم الوالدين، فالله عز وجل يتكفل به، والعدل يطفئ نار الظلم، والعفو عند المقدرة يكسر شهوات النفس ويريحها من الغل والحقد.

وحل سوء الفهم هو الحوار الفعال، والإنصات بغرض الفهم لا الاتهام.

وقطع واردات الندية يكون باستحضار أن الولد يظل ابنًا لوالده وإن بلغ عنان السماء، وأن الله كلفه ببره وطاعته -فيما لا يخالف الشرع الحنيف- وأن الحقائق لا تتبدل أو تزول تبعًا لأهواء النفوس.

ولا يكون التحلي بالمسؤولية بغير الانخلاع من ضدها وهو ترك اللامبالاة بالعظيم من الأمور مع الاهتمام بسفاسفها.

-

وفي الختام: فإن الوعي بالذات مهمٌ لتقويم السلوك المنحرف، وهو -وحده- غير كافٍ ما لم يقترن بالعزم الجازم على التغيير.

-

جعلنا الله وإياكم من أهل البر والإحسان، وجنبنا سبيل أهل العقوق والطغيان.

-

البراء بن محمد
الرياض
1441/3/7هـ
2019/4/11م

الثلاثاء، 22 أكتوبر 2019

الجوع (قصة قصيرة كتبها نجيب محفوظ)

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد،
فقد اطلعت مؤخرًا على بعض أعمال الروائي المصري الشهير نجيب محفوظ، وقد اعتزمت جردها جميعًا ثم الإقبال إلى أعمال غيره من كبار الروائيين لأنمي ذوقي الأدبي وأرتقي به فوق مستواي المتواضع.
لم أنته من المجلد الأول من أعمال الرجل الكاملة، ولكنني أقرأ منه صفحات كل يوم بحسب الطاقة والوسع. وكنت أعثر كل مرة على تعبير لافت، ووصف دقيق، وسلاسة في العبارة، وتشويق في السرد.
تجدر الإشارة إلى أن همس الجنون هي أول أعمال نجيب محفوظ وهي سلسلة قصص قصيرة متنوعة.
وقد انتخبت قصة (الجوع) هاته لأنها تشتمل توصيفًا لأحوال الفقراء الذين يقبلون على قتل أنفسهم في آخر المطاف، والمصاعب التي يواجهونها والتي تضطرهم لفعل الرذائل أحيانًا. كما أن هذه القصة تشير إلى تبذير الأغنياء وإسرافهم الذي يمكن أن يحسن من أحوال الفقراء ويعود عليهم بالزيادة.
وحتى لا أطيل على القارئ الكريم، فها هو نص القصة كاملًا، وإن كنت أتمنى أن أنسقه فألبسه حلة تليق به، ولا تصرف الأنظار عنه. وقد أعمل على ذلك قريبًا.

النص:

"الجوع
انتصف الليل ولما يصادف حظ الوجيه محمد عبد القوي غير العبوس، وما انفكت خسارته تنمو وتتضاعف حتى بلغت نيفا وأربعين جنيها في أقل من ثلاث ساعات، وكان هذا دأبه في أكثر لياليه ، فلم تعد الخسارة تهز أعصابه أو تكرب نفسه.
كان يتعاطاها بغير مبالاة بين رشف الكئوس وقذف الدعابات . ثم ينساها بمجرد الانفصال عن المائدة الخضراء. ولكنه كف تلك الليلة عن اللعب بغير إرادته لخمار دار برأسه، فرغب في تنسم هواء الخريف الرطيب في الخارج ومراودة نشاطه بالمشي والحركة، فنهض معتذرا، وغادر النادي، وكان الطريق كالمقفر والجو لطيفا منعشا، فسرت منه إلى رأسه الساخن الدائر قوة وسكينة، فجد في السير مصفرا صفيرا خافتا وأحيانا مترنما، لغير غاية ، وانحرف إلى الطريق المؤدي إلى قنطرة قصر النيل، وبصر بها في نهايته فانشرح صدره وحث خطاه، فلما بلغها مضى يسير الهويني التماسا لمزيد من الراحة والانتعاش، ولم يكن يقطعها في تلك الساعة إلا السيارات المنطلقة في فترات متقطعة، إلا أنه حين بلغ ثلثها الأخير لاحت منه التفاتة إلى الجانب الأيسر منها فرأى رجلا رث الهيئة في جلباب قذر ينحني متقوسا على سور القنطرة ملقيا برأسه إلى النهر فلم يلق إليه بالا ، ومضى إلى نهاية القنطرة، ولم يجد رغبة للتوغل فيما وراءها فتحول إلى الجانب الأيسر ليعود من حيث أتي، وكان الرجل ما زال في تقوسه واستغراقه إن لم تكن أسكرته نسائم الهواء الرطيب فتسلل النوم إلى جفنيه ...
ولما صار منه على بعد قریب رآه يقفز بحركة مباغتة إلى أعلى السور ثم توثب كأنما ليلقى بنفسه إلى النيل، فاندفع نحوه بسرعة جنونية وأدركه في اللحظة الفاصلة، فأمسك بيسراه وجذبه إلى الخلف بشدة فسقط على الإفريز عوضا عن أن يسقط في النهر، وبلغ منه الانفعال وتدافعت أنفاسه وتفرس في وجه الرجل الذي هانت عليه الحياة فرآه يحدجه بنظرة جامدة ووجه مكفهر ، وقد لاح لعينيه هزاله ورثاثته وشدة اصفرار وجهه ، فصاح به:
- ماذا كنت فاعلا بنفسك؟
فلم ينبس بكلمة وظل على جموده واكفهراره، وتمالك الوجيه عواطفه فعجب لما يدفع مثل ذلك الرجل إلى الانتحار وهو لا يعلو على الحيوان - والحيوان في العادة لا ينتحر - فسأله :
- هل كنت حقا تروم الانتحار؟ لماذا؟ .. دعني أشم فمك ، هل أنت ثمل أم مجنون؟ . . تكلم يا حيوان.
فقال الرجل بصوت مبحوح دل على الحقد والاستهانة :
- أنا جائع.
فنظر إليه كالمرتاب وقال :
- كذبت ... إن الكلاب الضالة تجد قوتها... ولن أصدق أن إنسانا يموت جوعا في هذا البلد.. ولكن هل تدمن الحشيش أو المنزول؟
فقال بنفس اللهجة :
- لك عذرك... فإنك لم تعرف الجوع.. هل ذقت الجوع؟.. هل بت ليلة بعد ليلة تتلوى من عض أنيابه؟ هل ثقب أذنيك عويل أطفالك من نهشة أمعدتهم؟.. هل رأيت صغارك يوما يمضغون عيدان الحصيرة ويأكلون طين الأرض؟!.. تكلم یا إنسان ... وإذا لم يكن لديك ما تقوله فلماذا تحول بينهم وبين الخلاص من غائلة الجوع؟
فامتعضت نفسه وسأله بلهجة لم تخل من شك :
- أتعني حقا أن لك زوجا وأطفالا؟
ففطن الرجل إلى بواعث شکه وعبس وجهه امتعاضا وقال :
- کنت يوما قادرا على الزواج والإنفاق .. كنت عاملا بمصانع عبد القوی شاکر .
وأحدث الاسم في نفس الوجيه هزة عنيفة ؛ لأنه اسم والده، وكان يوشك أن يسأم ويضجر فاسترجع اهتمامه وسأل الرجل:
- هل حقا كنت عاملا مرتزقا؟!
- نعم.. وبلغت یومیتی ستة قروش.. وكنت محترما ومحبوبا. وكفلت الحياة الزوجي وأمي وأطفالي الستة. بل كنت أعظم جلدا من البك صاحب المصانع العظيمة لأني تعودت الرضا والقناعة حيث جعل يتذمر ويشكو سوء الحال ويعتل بالعلل لقطع رزق البعض والتقتير على البعض الآخر.. لم تكن الحياة رغدا ولا يسرا.. ولكنها كانت مشقة مفعمة بالرجاء والأمل.
وأمسك الرجل عن الكلام كأن استرجاع الذكريات الحلوة استنفد البقية الباقية من حيويته وقواه فجزع الوجيه وقال له :
- هيه .. وكيف انقلب بك الحال إلى هذا المصير؟ فرفع يمناه إلى أعلى فتدلی کم الجلباب الممزق كأنه لا يوجد فيه ما يمسك به، وبرز من أحد خروقه بقية عضده كأنه رجل أريكة تداعت وأكلها التقادم، وأشار إليها بيسراه وقال :
- أرأيت إلى هذا.. لقد هوت الآلة الجبارة على ذراعي وأنا منشغل عنها ما بين يدي فلم تبق منه إلا على ما ترى وأطاحت بالجزء النافع الذي أكسب به قوتی فجعلتني في ثانية شيئا تافها زائدا عن الحاجة .. ولما تماثلت للشفاء مضيت إلى البك صاحب المصنع منكسر الفؤاد ، مفعم النفس بالقنوط فتلقاني آسفا وأعلن أني قطعت ذراعی من جراء إهمالی .
فقلت له : إنه القضاء الذي لا يرد فهز رأسه آسفا وتصدق على بمبلغ يسير.
فقلت له : إن هذا المبلغ لابد نافد عاجلا أو آجلا، وإني وأسرتی سنموت جوعا إذا لم تدرکنا رحمته ..
فوعدني أن يتصدق على بثلاثين قرشا كل شهر ... وكان هذا أقصى ما ظفرت به منه .
وأدركت أن حیاتی دمرت تدميرا، وأنی وأمي وزوجي وأطفالي الستة قد ألقي بنا إلى الفقر والجوع.. ولشد ما وجدت الحياة قاسية لا رحمة فيها .. فتجرعت مرارتها قطرة قطرة وهمت على وجهي في الطرقات أسأل السابلة مستدرا رحمتهم بعرض بقية عضدي على أنظارهم، متلهفا على الملاليم وكسر الخبز.
وعلم الله أني كنت ذا حياء وأنفة وأن إماتة هذه العاطفة النبيلة كلفتني ما لا أطيق من الألم والخجل، واشتدت وطأة العيش فبعت الضروری من أثاث حجرتنا بثمن بخس. وتمزقت ثيابنا وتعرى الأطفال .. وتهالكنا من الجوع.. وكان أقسى ما في حياتنا صراخ الأطفال وعويلهم وشكواهم، فجوع دهر طويل أخف على نفسي من قول طفلى وهو يتطلع إلى المستغيث ودموعه منهمرة : « أبتي.. أنا جائع».
ولاحقتني هذه الآلام فجعلت صدري جحيما وبغضت لی الدنيا وولدت في قلبي شعور المقت والحقد، وتضاعف إحساسی بعجزی وهوانی حتى قال صاحب ممن جمعنا الجوع في ميدان واحد: «مالك تكلف نفسك ما لا تطيق من الهم كأنك امرأة مترفة تأكل كل يوم رطل لحمة .. سيتحجر قلبك ويصبح الجوع مستملحا فتجيب ابنك إذا شكا إليك الجوع كما أجيب ابني .. بلطمة تنسيه الجوع». . وسكت الرجل وقد بلغ منه الإعياء والتأثر، وبدأ الوجيه يضجر مرة أخرى ويفكر في حل للعقبة التي اعترضت سبيله ليتخلص منها على وجه مرض، فسأل الرجل :
- أهذا ما دفعك إلى محاولة الانتحار؟
فقال الرجل وهو يهز رأسه كأنه يقول له بل أكثر وأكثر :
- في مساء هذا اليوم رجعت إلى الفناء الذي نأوي إليه صفر اليدين عجزا وإعياء .
فلقيت الأطفال نائمين هادئين فاستولت على الدهشة كيف نزلت عليهم السكينة؟
هل تعودوا الجوع فما عاد يقرصهم؟!.. وكانت زوجي وأمي نائمتين أيضا.
فأيقظت أكبر الأطفال .. وأدنيته منی، وما إن أفاق من ذهول النوم حتى اندفع يقول لی فرحا: «أكلنا عيشا ساخنا»، فسألته: «من أتی به»؟ فقال : «عم سليمان الفران» فنفذ الاسم إلى صدرى المتهالك كالرصاصة.
وشددت قبضة يدي على ساعده وسألته وقد طالعت في وجهه أثر ما لاح في وجهي من التغيير : «وهل الرجل دعا أمك إلى الفرن أم أتي بنفسه إلى هنا؟». فقال : «أرسلها مع غلامه» فلم أرتح إلى جوابه على الرغم من أنه لم يحقق شكوکي ودفعته ساخطا غاضبا، واستقر بصری على وجه زوجي وقد تملكني الحنق وتخايلت لعيني أشباح مخيفة. لقد امتلأت عيناها بالنوم بعد أن امتلأ بطنها.. بعد أن ملأها الوغد الذي خطب ودها فيما مضى وراجعه هواه فسعی بحذق إلى استغلال ما تعاني من الشقاء والجوع.
إني أدرك كل شيء. وأدرکه بمشاعرى التي نشأت عليها ولم يظفر الجوع بإماتتها بعد.. إنها لا تزال حية في صدری تبعث في نفسي الغيرة وفي قلبي الغضب.. وتشبعت أفكاري بروح الجريمة والعدوان .. هل أنقض على المرأة النائمة فأكتم أنفاسها؟ كانت رغبتي في الفتك عظيمة جبارة .
ولكن لاحت مني التفاتة إلى الأطفال فترددت. من لهم بعد أمهم وأبيهم؟ وتخاذلت وتداعت إرادتي .. ونفست عن غضبي فركلتها بعنف وغادرت الفناء وصراخها الفزع يلاحقني . ثم همت على وجهي في الطرق التي أتسول فيها.. وجعلت أتخبط على غير هدى .. وعاودتني أفكار العدوان .. هل أرجع إلى الفرن وأثب على عم سليمان وثبة الهلاك؟ أم أرصد عبد القوی بك وأطعنه طعنة قاتلة؟...
ولكن ما أعجزنی... فقدت يمناي ودب الإعياء في جسمي وأطرافي وتضعضعت حواسي. ثم بلغت بي قدماي هذا المكان ورأيت النهر الجاري في وحشة الليل فانجابت عنى الوساوس ؛ وأدركت للحال كيف ينبغي أن أنهى الحياة ، وخلت أن النيل ضالتی المنشودة. وكأن قضاء إلهيا هداني إليه ليدلني على سبيل الخلاص والراحة. واستولت على فكرة الموت واستبدت بی. وتفكرت في عجزی وضعفي وجوعی، وفي عذاب أطفالي وشقائهم . فحمدت الله على أني لم أطع غضبي وأقتل زوجي .
وقلت لنفسي: إني إذا اختفيت من حياتها فلن يعيبها إطعام الأطفال. ليكن عم سليمان أو غيره أما أنا فلا. وما على إلا أن أوجه غضبي إلى نفسي فتكون الضحية .. وألقيت بناظري إلى النهر طويلا واستسلمت لليأس. ثم توثبت لألقي بنفسي. ولكنك حلت بيني وبين ما أريد. هذا كل ما هنالك. فهل أدركت الآن أي شر فعلت؟
وكان الوجيه يصغي إلى الرجل مصطبرا ويعمل فكره فسأله :
- هل إذا تركتك الآن تعود؟
فقال الرجل بهدوء وتصميم:
- إن شاء الله .
فضحك الوجيه وكان قد بت في المسألة برأي قاطع، وبحث في جيوبه عن نقود فضية فعثر بقطعة ذات عشرة قروش فدسها في يد الرجل وقال :
- استعن بهذه على إصلاح أمرك، وإذا طلع عليك صباح الغد فتوجه من فورك إلى المصنع الذي كنت تعمل فيه وستجدني هنالك في انتظارك، وهاك بطاقة تقدمها لمن يعترض سبيلك.
وأعطاه البطاقة ودفعه عن السور وهو يقول :
- أجل عزمتك فلا يزال لديك متسع من الأمل وسأجد لك عملا كبواب أو خادم أو ما شاكل ذلك .. تقدم وعد إلى رشدك .. ولكن خبرني قبل أن أنسى ما اسمك؟
وجعل الرجل ينظر إليه بعينين ذاهلتين كأنه لا يصدق أذنيه، ولما سأله عن اسمه قال بصوت غريب:
«إبراهيم حنفي» فدفعه الشاب مرة أخرى:
- افعل ما أمرتك به يا إبراهيم.. سلام عليك .
وتحول عنه ومضي في طريقه متفكرا.. يعجب كيف أنه أتي في الوقت المناسب ليعفي أباه من وزر ثقیل: وكان ينطوى في قرارة نفسه على سذاجة فأيقن أن ما ساقه إلى الرجل في الوقت المناسب شيء أكبر من المصادفة، فأثلج صدره وشعر بارتياح وطمأنينة.
ولكن فكرة خطرت له بباله فقطب جبينه وتساءل کالحالم وهو يجد في السير :
«تری کم أسرة من الأسر التي يشقى بها أمثال إبراهيم حنفی يمكن أن تسعدها النقود التي أخسرها كل ليلة في النادي؟!»."

انتهى النص
(همس الجنون - الجوع، نجيب محفوظ، دار الشروق، ط1 1427هـ-2006م، ص149-156).

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانعفنا بما علمتنا، واصرف عنا السوء والشر.

البراء بن محمد
الثلاثاء 1441/2/24هـ
2019/10/22م

الخميس، 10 أكتوبر 2019

الانتهار لمن عزم على الانتحار

بسم الله الرحمن الرحيم
--
قال تعالى: ((الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملًا)) [الملك/2]
قال تعالى: ((كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون)) [الأنبياء/35].
--
الحمد لله الذي نفخ الروح في أبينا آدم عليه السلام وخلق منه حواء عليها السلام، وألهمها التناسل الذي نشأت به نفوس البشر، ثم برأ للواحد منهم جسمًا حسنًا وقوامًا معتدلًا وجوارح يحصل بها الفعل والحركة، وجعله مفتقرًا للغذاء والشراب والنَفَس لتدوم بها الحياة إلى أن يحين الأجل الذي قضاه الله تعالى، فينقطع بانفصال الروح عن الجسد. 
والصلاة والسلام على من أحيا أرواحنا بالإيمان بالله تعالى، والتصديق بكتابه العزيز، واتباع نهجه السديد، وآله المطهرين، وصحبه المكرّمين.
أما بعد،
--
(إهراق الدم بطعنة السكين - اختراق جمجمة الرأس برصاصة - إحكام الخناق على الرقبة وقطع الهواء عن القصبة الهوائية - الهوي من الأعالي) وغير ذلك من الصور التي يجمعها إزهاق الروح وفصلها عن الجسد بتعمد محض وإرادة مشوبة باليأس من الحياة.
قتل النفس هو الاسم الذي ينطبق على كل هذه الصور القاتمة، وقد يسمى أحيانًا بالانتحار. ولكنني سألتزم غالبًا بتسميته قتل النفس كما ورد في القرآن، بالإضافة لدلالته اللفظية على القتل.
--
لا يشك عاقل في أن الحياة نعمة عظمى ومنحة كبرى. كيف والباري عز وجل هو من أخرجنا من ظلمة العدم إلى نور الوجود، وأفاض علينا من اللذات والمسرات ما لا يحصره ذهن؟
بل الحياة أصل لسائر النعم التي تلازمها كالعلم والقدرة والإرادة والحركة وغير ذلك.
ولما كان الله جل جلاله حكيمًا عدلًا متنزهًا عن العبث والظلم، فإنه خلقنا لغاية شريفة محمودة وهي عبادته وحده لا شريك له، وإفراده بالتعظيم والإجلال الذي لا يليق إلا به تعالى.
وقد رتب الرحمن سبحانه أعظم الثواب لمن حقق هذه الغاية وامتثل بها في حياته، ورتب أعظم العقاب لمن تنكر لها وكفر بها وتنكب عن سبيلها.
وقد كان من عدل الله سبحانه وتعالى أن أخر نيل الثواب ومعاناة العقاب وإجراء الحساب إلى يوم القيامة الذي يقوم الناس فيه لربهم جل وعلا، فيزول كل ملك غير ملكه، وتنمحق ظلمات الجهل والوهم بأنوار الحقيقة الساطعة.
وقد كان من تقدير الله وقضائه عز وجل أن ابتلانا بالشر والخير فتعاقبا علينا كتعاقب الليل والنهار، فتقلبت حياتنا بين النعمة والنقمة، والسراء والضراء. والمؤمن حقًا هو من يتقلب بين الشكر والصبر، فلا تلهيه الشهوات عن شكر الرب سبحانه وتعالى، ولا تجزعه المصائب. ولله في خلقه شؤون.
إذا أيقنت بكل هذا، وعقدت قلبك عليه، فاعلم أن من يعزم على قتل نفسه، وإزهاق روحه بأي وسيلة كانت مجرمٌ خاطئٌ معتدٌ عاصٍ لربه تعالى، كافر بنعمته، جاحد لمنته، خوارٌ ضعيف، قاصر النظر والفكر.
ولنذكر من الشنائع اللاحقة بالمنتحرين، ما يكف أهل العقل والرشاد عن متابعتهم والسير في ركابهم مهما استطالت بلاءات الدنيا واشتدت آلامها.
وقد نذكر وجهًا يستحق أن يدخل في وجه سابقٍ أو لاحق، ولكن تخصيصه بالذكر لبيان أهميته لا أكثر. فهي أوجه متداخلة في حقيقة الأمر.
---
تنبيه: لست أحتقر معاناة من يعزم على الانتحار لعلمي بأنه لم يقدم على إنهاء حياته إلا لما اعتراه من الآلام والأوجاع الشديدة. ولكنني أحتقر القرار الخاطئ الذي يتوهم صاحبه أنه الحل الوحيد المشروع لمعاناته التي يصبر الناس على ما هو أشد منها دون أن يخطر ببالهم إزهاق أرواحهم للتخلص منها.
--
تنبيه ثانٍ: لا أزعم أن ما كتبته سيردع كل عازم على الانتحار عن الإقدام على هذه الجريمة الخطيرة، ولكنني متيقن بفضل الله أن الوضوح والقوة في تقرير الحقائق الشرعية يحدث رادعًا ما في نفس كل عاقل منصف. ولذا فإنني أسأل الله تعالى أن ينفعني والقراء بما كتبته، ويطرح فيه البركة والخير.
---
الوجه الأول: قتل النفس معصية وكبيرة من كبائر الذنوب التي توجب الإثم وصلِّي النيران.
قال تعالى: ((ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا * ومن يفعل ذلك عدوانًا وظلمًا فسوف نصليه نارًا وكان ذلك على الله يسيرًا)) [النساء/29-30].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذي يخنق نفسه يخنقها في النار، والذي يطعنها يطعنها في النار)) [رواه البخاري]
وقال عليه الصلاة والسلام: ((من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيه خالداً مخلداً فيها أبداً، ومَن تحسَّى سمّاً فقتل نفسه فسمُّه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومَن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً)) [رواه البخاري ومسلم]
وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَن قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة)) [رواه البخاري ومسلم]
فقاتل نفسه المنتحر عاصٍ لله آثم بفعلته القبيحة.

الوجه الثاني: قتل النفس يوجب حصول العقوبة الأخروية بمثل العقوبة الدنيوية.
ودليله ما تقدم من نصوص تشير إلى أن المنتحر يعذب بمثل ما قتل به نفسه عياذًا بالله.

الوجه الثالث: قتل النفس شأن كل جَزعٍ خوار.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح فجزع فأخذ سكيناً فحز بها يده فما رقأ الدم حتى مات. قال الله تعالى: بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة)) [رواه الشيخان]
وتأمل في سيرة المنافق الشجاع قزمان والذي قتل نفسه فأبان بذلك عن الريب والشك الذي يعتريه، وأنه مهتز الجنان جبان في الحقيقة وإن كان يتظاهر بالشجاعة والصلابة.
وقد جمعت أخباره في مقالة منفصلة، فارجع إليها:
https://abomalek1434.blogspot.com/2018/12/blog-post.html
فهل يحب العاقل أن يتشبه بهذا المنافق الخائب الذي قتل نفسه بعد معركة حامية الوطيس؟
بل وانظر في حال هتلر طاغوت ألمانيا النازية، قتل نفسه ذليلًا في حجرة صغيرة وترك بلاده وقومه يقاسون شر الحلفاء،

الوجه الرابع: قتل النفس كفران بنعمة الحياة.
قال تعالى: ((وكيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون)) [البقرة/28].
وكثيرًا ما يحتج الله سبحانه وتعالى على ربوبيته بخلق الناس وبث الأرواح فيهم.
وما من شك أن حياتنا نعمة تستوجب الشكر لله عز وجل، ولن نبلغ وفاء هذه النعمة بشكرنا الضعيف، فضلًا عن الشكر الذي لم نوفق إليه سوى بفضل الله تعالى ورحمته، فهو أيضًا نعمة تستوجب الشكر، وهكذا إلى غير نهاية. فآلاء الله ونعمه لا تحصى كما قال تعالى: ((وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها)) [النحل/18]. فإحصاؤها متعذر، فكيف بشكرها؟
وقد تبين أن قتل النفس معصية لله تعالى، وأنها سبب غير شرعي لقطع الحياة. بل إنني أقول أن قتل النفس يعود على نعم الله عز وجل بالإبطال، إذ إن انقطاع الحياة يقتضي انقطاع العلم والقدرة والإرادة وحواس الجسد وأجهزته وغير ذلك.
فأي وقاحة وسوء أدب يتمتع به قاتل النفس الذي قصّر كغيره من الناس في شكر نعم الله فأراد أن يبطلها باستخدامها فيما لا يرضي الله عز وجل؟

الوجه الخامس: قتل النفس من سوء الخاتمة.
وليت شعري ما الذي يحمل قاتل النفس على اختتام حياته بخطيئة يتجاوز بها أوامر الله تعالى؟ إنه لن يرتضي أن ينتقل من الدار الدنيا وهو يحتسي الخمر أو يواقع الفواحش، فما باله ينهي الحياة بكبيرة من كبائر الذنوب؟ وأي فرق بينه وبين عتاة الفساق الفجار الذين هلكوا أثناء اجترائهم على الله تعالى بالمعاصي؟

الوجه السادس: قاتل النفس معتدٍ ظالمٌ.
وذلك بنص الآية الكريمة ((ومن يفعل ذلك عدوانًا وظلمًا)). بل لا تكاد تتصور حالٌ يخرج قاتل النفس فيها من نعت الظلم والعدوان.

الوجه السابع: قتل النفس يضاد رحمة الله تعالى.
لا شك أن الانتحار نتيجة اليأس والبؤس ومقاساة الآلام النفسانية والجسدية وضيق الرزق. فلا جرم أن من يسعى لقتل نفسه يكون قد احتمل ألمًا كبيرًا لا يسشتعره أكثر الناس. فهو مضطر إلى استمطار رحمة الله تعالى أكثر من غيره (والكل محتاج إليها ولا ريب). ولا سبيل لنيل الرحمة الإلهية بقتل النفس إذ أن الإله الحكيم نهى عنه وذكر في الآية أنه رحيم بالناس. فدل ذلك على أن قتل النفس يخالف رحمة الله تعالى. فأي جرمٌ يحتمله المنتحر بمخالفته رحمة خالقه سبحانه وتعالى؟

الوجه الثامن: قتل النفس معصية لا توبة منها.
من نحن لولا توبة الله تعالى علينا وستره لذنوبنا ومغفرته إياها؟
قال تعالى: ((فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم)) [البقرة/37]
وقال جل من قائل: ((وتوبوا إلى الله جميعًا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون)) [النور/31].
وقال سبحانه: ((إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليمًا حكيمًا)) [النساء/17].
وقال جل وعلا: ((إن الله يغفر الذنوب جميعًا)) [الزمر/53].
والآيات في ذكر توبة الله على عباده كثيرة.
يالله! ما أوسع رحمتك التي شملت أمثالنا من المجرمين المقصرين!
لو تأملت أصناف المعاصي لعلمت أن إمكان توبة مقترفيها واردٌ ما دامت أنفاسهم تتردد بين جنباتهم قبل أن تحين الساعة.
ولكن قتل النفس استثناء شنيع من هذه المعاصي، فقاتل نفسه غير مقتدر على التوبة، وهو محرومٌ منها إذ أنه انتقل من دار التكليف والابتلاء إلى دار البرزخ. والله يتولى شأنه.
إنها حقيقة مفزعة تخلع القلب من مكانه، وتضع ملايين العقبات في ذهن المنتحر قبل أن يسترسل في غيه ويطيع شيطانه وهواه بالسعي لقتل نفسه.

الوجه التاسع: قتل النفس يخالف الإقبال على الله تعالى.
من نظر في أحوال أهل الدنيا، واعتبر حقيقتها، فإنه سيحتقرها بالنظر إلى النعيم المقيم الذي لا يمكن أن تقارنه أبدًا.
ومن تدبر كتاب الله، وتأمل صفات الله عز وجل، فإن شوقه إلى لقاء الله تعالى سيزداد بقدر ما في قلبه من الإيمان واليقين بموعود الله. و((من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه)) كما في الحديث الشريف.
وبذل النفس لله عز وجل يكون بالجهاد في سبيله، والاستشهاد في ذلك. فهل قاتل النفس في ذلك من شيء؟
لسان حال قاتل النفس: "يا رب! قد جَزِعت من مصائب الحياة التي أقطع أن غيري يعاني أشد مما أعانيه وهو مع ذلك صابرٌ لاهج لك سبحانك بالحمد والتسبيح. يا رب! أردت أن أدفع ما يمر بي من أذى بطريقة لا ترضيك واستعجلت الموت وعملي ليس بصالح، ولو وقر الإيمان بقلبي حقًا لما أقدمت على هذه الفعلة الخسيسة"

الوجه العاشر: قتل النفس ضربٌ من السفاهة.
وهذا ظاهرٌ في أحوال المنتحرين. إذ أنهم يدفعون عذاب الدنيا بعذاب جهنم، ويتخلصون من الأذى الذي يمكن الصبر عليه بالأذى الذي لا يمكن احتماله بحال. والأخطر من ذلك كله أنهم يعرضون أنفسهم لسخط الله تعالى.
ومصداق ذلك قصة قزمان الذي قتل نفسه بعد أن أثخن في الأعداء. ولو كان وافر العقل حسن الظن بربه تعالى لعقد قلبه على محبة الشهادة في سبيل الله تعالى، إذ أن حصول القتل واردٌ جدًا في أرض المعركة. فلم يزهق روحه هكذا لغير فائدة؟
ومن دفع مصاب الدنيا بمصيبة الآخرة فهو سفيه معلول العقل حتمًا. ولتتبين ذلك، فاقرأ حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم التالي.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة ثم يقال يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط هل مر بك نعيم قط فيقول لا والله يا رب ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة فيقال له يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط هل مر بك شدة قط فيقول لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط)) [رواه مسلم].

الوجه العاشر: قتل النفس جريمة.
وهو ظاهر.

الوجه الحادي عشر: قتل النفس معصية لا لذة فيها.
قاتل النفس إما أن يحصل اللذة بفعله أو يدفع الضرر به، وتحصيل اللذة متعذر لما يعقبه من موت وفناء. ولا سبيل للقطع بأن ذلك مما يندفع به الضرر، لأن صاحبه مستحق للعقوبة الشديدة ما لم يغفر الله له بفضله الواسع. وكل ضررٌ دنيوي هو دون ضرر التعرض لعقوبة الله سبحانه وتعالى.

الوجه الثاني عشر: قتل النفس مشكلة في حد ذاته.
لو كان في قتل النفس حلٌ لمشكلات الحياة التي لا نهاية لها، لأقبل عليه الصالحون والصديقون وأهل الله سبحانه وتعالى. ولكنه مشكلة في حد ذاته لما يتضمنه من عصيان الله سبحانه وتعالى والتعرض لعقوبته والكفران بنعمه على ما تبين سابقًا.
وفي ذلك يقول المنفلوطي: "لا عذر لمنتحر في انتحاره مهما امتلأ قلبه بالهم ونفسه بالأسى، ومهما ألمت به كوارث الدهر ونزلت به ضائقات العيش، فإن ما أقدم عليه أشد مما فر منه، وما خسره أضعاف ما كسبه ." (1)

الوجه الثالث عشر: قتل النفس لا يقطع الأجل ولا يقصر العمر.
قال تعالى: ((ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)) [الأعراف/34].
اعلم يا قاتل النفس أنك لن تفنى قبل وقتك الذي قدره الله لك، فانشغل بطاعته وطلب مرضاته لتنقلب إليه مسرورًا راضيًا به وبقضائه.

الوجه الرابع عشر: لا مصيبة تجيز قتل النفس.
انقسم الناس في المصائب التي تحل بهم إلى من يرضى بقضاء الله عز وجل وقدره وهم صفوة الخلق، ومن يصبر عليها فيحبس لسانه عن التسخط وجوارحه عن شق الجيوب، ومنهم من تزيده المصيبة جزعًا وسخطًا لقضاء الله جل في علاه، فيجمع بين ألم المصيبة وألم إثم التسخط.
وأشد الناس بلاء هم الأنبياء ((ثم الأمثل فالأمثل)) كماء ورد في الحديث الشريف. فهل نحر أحدهم نفسه؟ أم صبروا على مصابهم فكانوا خير قدوة للناس؟ لقد ظل الأنبياء عليهم السلام والصالحون من بعدهم أظهر دليل على أن الصبر على البلاء ممكن مهما اشتد واستطال، فما بالنا ننهار عند أهون مصيبة؟

الوجه الخامس عشر: قتل النفس وصمة عار.
مهما يكن من تعاطف الناس مع قاتل النفس، فإنهم لا محالة يزدرونه ويحتقرونه في كثير من الأحيان. ولسان حالهم ناطقٌ بأن قاتل النفس هذا كان بإمكانه أن يصبر أكثر وأنه مسكين بائس. ولا شك أن المسكنة والبؤس من صفات النقص، فكيف إن استجلبها المرء لنفسه؟ ألا يكون حقيقًا بالذم؟

الوجه السادس عشر: قتل النفس يقتضي إيذاء الناس.
لو تفكر المنتحر في بشاعة الأثر الذي يخلفه في نفوس أقربائه وأصدقائه والغرباء لاستعاذ بالله من شر الشيطان الذي يوسوس له برديء الخواطر والأفكار، ولانشغل بما ينفعه.
قاتل النفس يفطر قلوب محبيه بلا داعٍ، ويدخل الحزن عليهم، ويبث فيهم روح اليأس والكآبة. بل وينقل إليهم سلوكه المنحط هذا!
يقول صاحب كتاب شهقة اليائسين: "وتبين دراسات أن معدل الانتحار في أقارب الدرجة الأولى للمرضى النفسيين یزید 8 مرات عن معدل الانتحار بين سائر الناس. غير أن باحثين يرون أن الأمر ليس مرتبطا بالوراثة بقدر ما هو متصل بـ((القوة المعدية للنموذج المحتذى))، إذ يرى هؤلاء أن ((الانتحار معد للغاية. وهذه القابلية للعدوی تظهر، على الأخص لدى الأفراد الذين تجعلهم بنيتهم أسهل انفتاحًا على كل الإيحاءات، بوجه عام، وعلى أفكار الانتحار بوجه خاص)).
كما وجد الباحثون أن انتحار شريك حياة يجعل الشريك الآخر عرضة بشكل واضح للانتحار هو الآخر. وأظهرت الدراسة التي أعدها فريق من جامعة آرهوس الدنماركية أن الرجال الذين يفقدون شريكًا للحياة يكونون عرضة 46 مرة أكثر للإقدام على الانتحار أنفسهم، وهو ما يمثل ثلاثة أضعاف احتمال إقدام النساء على الشيء نفسه" (2)
وانظر لقبيح الأثر الذي تركه البوعزيزي بعد أن سن سنة إحراق النفس يأسًا أو اعتراضًا على الظروف الصعبة. فقد نقل صاحب هذا الكتاب أيضًا أنه "خلال شهر واحد، أشعل حوالي ثلاثين شخصًا النار في أجسادهم، في كل من تونس والجزائر والمغرب وموريتانيا ومصر والسعودية والسودان واليمن." (3)
ولنا أن نستأنس بما نُقل عن العوائل التي تنتحر جملة: "ومن الملاحظ إكلينيكيا أن هناك عائلات تكثر فيها حالات الانتحار،والمثل الشهير لذلك عائلة الروائي الأمريكي إرنست همنغواي، فقد انتحر هيمنغواي وانتحرت أخته وانتحر الأب قبلها، وانتحر أشخاص آخرون في العائلة، ومنهم الحفيدة مارغو في 1996." (4)
وقاتل النفس يجلب لأهله العار والشنار وسواد الوجه بجريمته هذه، وهو يجعل عِرِضه وعِرض أهله فاكهة يلوكها السفهاء في المجالس. والله المستعان.

الوجه السابع عشر: قاتل النفس عدو نفسه.
وهذا أعظم الخذلان والخيبة. لا أقبح من أن يعادي أحدنا نفسه فيكيد لها ويوقعها في المهالك. ومن كان عدوانه متجهًا لنفسه فلن يرضى بشيء من الدنيا ولو ركعت له بين يديه. فنعوذ بالله من هذا البؤس الشديد.

الوجه الثامن عشر: قتل النفس دليل ضِعة النفس وحقارتها.
لما خلق الله عز وجل النفس الإنسانية فإنها كرمها بأجناس عظيمة من الكرامة كالعقل والإيمان وحسن الهيئة واعتدال والقوام والتسلط على كافة الحيوانات وغير ذلك. وعاقب الله من يعتدي على إنسان بغير وجه حق بعقوبة رادعة تصل إلى القتل قصاصًا في بعض الأحيان.
إن فهمت ذلك، فاعلم أن قاتل نفسه وضيعٌ حقيرٌ سخيف العقل؛ وإلا لما أقدم على إعدام هذه النفس التي كرمها الله، وإفساد الجسد الذي أحسن الله خلقه.
ولو وضع العاقل نفسه موضعها لعلم أن كل يوم تشرق شمسه وتغيب هو فرصة لمحو الأخطاء، وتجديد التوبة، والإقبال على الله تعالى برضا وسرور، والسعي في الحياة بما يرضي الإله تعالى.
----
وبعد هذا كله، فإن مساوئ قتل النفس وشناعاته لا تنتهي، وما كتبته من وجوه هو غاية ما بلغه ذهني القاصر من الفكر والتأمل. والله يكفينا وإياكم شر قتل النفس وإيرادها المهالك.
أما وإنني قد انتهيت من تحبير المقال، فإنه لا يسعني إلا أن أقتبس بضع كلمات من الفاضل المبارك مصطفى محسن الذي تعلمت منه الكثير. وهو ممن طرح الله عز وجل البركة في كلامهم، فلا يوافق القلب إلا ويؤثر فيه. أحسبه كذلك والله حسيبنا وحسيبه.

"مقتضى القرآن والسنة أن الانتحار من علامات سوء الخاتمة بلا أدنى ريب. نسأل الله لنا وللمسلمين العافية
وعندما تشيع المعصية في المسلمين وتتفشى ويهون ذِكرها في قلوبهم وتتجرأ القلوب على اقترافها ويتكرر الوقوع فيها .. يجب حينئذ الزجر والتخويف والكف عن كل ما يهون من شأنها في قلوب الناس، وتخويف الناس من غضب الله والتحذير من انتقامه، لا تمكين الإرجاء من قلوبهم بنشر أحاديث الرجاء والمغفرة والترحم على الفساق ومن ماتوا على معصية شاعت بين الناس"

رابط المنشور:
https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=10204965308551474&id=1204129369&utm_source=thearchive.me

"أتعرفون معنى أن ينتحر إنسان؟ معناه أن ينهي حياته، ويترك وراءه أسرة في صدمة وحزن لا ينقطعان، كلما تذكروا كيف انتهت حياته، بل كيف أنهاها، كلما تجدد تلقائيا۔ الكرب
أتعرفون معنى أن ينتحر إنسان؟ معناه أنه مات على كبيرة من أكبر الكبائر، وهي خاتمة سوء -والعياذ بالله- يدخل بسببها في النار، أي أنه يمكث فيها طويلا طويلا إلى أن يشاء الله
أتعرفون معنى أن ينتحر إنسان؟ معناه أنه فز من عذاب في الدنيا ليقع في عذاب أعظم منه بما لا يحصى في القبر، ثم في الآخرة، كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم
هذا معنى أن ينتحر إنسان! معنی شدید جدأ، ترتعد منه النفس حتی لإنها تحاول الفرار من مجرد تخيل الفكرة، أليس كذلك؟
والآن، في زمن الشبكات الاجتماعية تنتشر الأخبار والمقالات انتشار النار في الهشيم، خصوصا ما داعب العاطفة بشكل أو بآخر، ومن هذا منشورات "المنتحرين"، وهي كارثة في ذاتها! ربما لم تزدد معدلات الانتحار شيئا ذا قيمة إحصائية، لكن انتشار الأخبار يوهم بزيادة شيوع الأمر. أتدرون ما الكارثة في هذا؟ أن كلما شعر المرء بانتشار مصيبة كلما هانت على نفسه! لهذا ليس من نهج المصلحين نشر أخبار الأخطاء ولا المعاصي ولا الكوارث، لما فيه من تهوين للوقوع فيها، وهذا معروف عند المتخصصين في علم الاجتماع وعلم النفس وربما تكلمت عنه تفصيلا لاحقا
طيب هنا الكارثة: تخيل عندما تجتمع إلى مشكلة نشر أخبار المنتحرين تهميش حقيقة الانتحار ووضعه في إطار أنه "ضعف إنساني"، وأنه "مريض اكتئاب ليس بيده شيء" إلى آخره، ماذا سيحدث؟؟ الذي سيحدث أنه سيسقط حاجز آخر أمام الوقوع في هذه الكارثة، قتل النفس!"

رابط المنشور:
https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=2197619303897844&id=100009493880541&ref=content_filter
---
اللهم أحسن خواتيمنا، وأرضنا بك وبقضائك، وأحيينا بالإيمان، واجعلنا من أهل السعادة.
البراء بن محمد
الرياض
ليلة الخميس قبيل فجر الجمعة
1441/2/12هـ
2019/10/3م

-
الهامش:
(1) (النظرات، مصطفى لطفي المنفلوطي، مؤسسة هنداوي، ط 2015م، ص322).
(2) (شهقة اليائسين: الانتحار في العالم العربي، ياسر ثابت، دار التنوير، ط1 2012م، ص27).
(3) (شهقة اليائسين: الانتحار في العالم العربي، ياسر ثابت، دار التنوير، ط1 2012م، ص147).
(4) (شهقة اليائسين: الانتحار في العالم العربي، ياسر ثابت، دار التنوير، ط1 2012م، ص27).

السبت، 5 أكتوبر 2019

من أجمع ما قيل في وصف الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين
أما بعد،

فمن أفضل من وصف محاسن الكتاب هو الجاحظ في كتابه المحاسن والأضداد حيث يقول:
"الكتاب نعم الذخر والعقدة، والجليس والعمدة، ونعم النشرة ونعم النزهة، ونعم المشتغل والحرفة، ونعم الأنيس ساعة الوحدة، ونعم المعرفة ببلاد الغربة، ونعم القرين والدخيل والزميل، ونعم الوزير والنزيل. والكتاب وعاء مليء علما، وظرف حشي ظرفا، وإناء شحن مزاحا، إن شئت كان أعيا من باقل، وإن شئت كان أبلغ من سحبان وائل، وإن شئت سرتك نوادره، وشجتك مواعظه، ومن لك بواعظ مله، وبناسك فاتك، وناطق أخرس؛ ومن لك بطبيب أعرابي، ورومي هندي، وفارسي يوناني، ونديم مولد، ونجيب ممتع؛ ومن لك بشيء يجمع الأول والآخر، والناقص والوافر، والشاهد والغائب، والرفيع والوضيع، والغص والسمين، والشكل وخلافه، والجنس وضده؛ وبعد فما رأيت بستانا يحمل في ردن، وروضة تنقل في حجر، ينطق عن الموتى ويترجم عن الأحياء، ومن لك بمؤنس لا ينام إلا بنومك ولا ينطق إلا بما تهوى، آمن من الأرض وأكتم للسر من صاحب السر، وأحفظ للوديعة من أرباب الوديعة؛ ولا أعلم جارا آمن، ولا خليطا أنصف، ولا رفيقا أطوع، ولا معلما أخضع، ولا صاحبا أظهر كفاية وعناية، ولا أقل املالا ولا إبراما، ولا أبعد من مراء، ولا أترك لشغب، ولا أزهد في جدال، ولا أكف في قتال من كتاب، ولا أعم بيانا، ولا أحسن مؤاتاة، ولا اعجل مكافأة، ولا شجرة أطول عمرا، ولا أطيب ثمرا، ولا أقرب مجتنى، ولا أسرع إدراكا، ولا أوجد في كل إبان من كتاب. ولا اأعلم نتاجا في حداثة سنه، وقرب ميلاده، ورخص ثمنه وإمكان وجوده، يجمع من السير العجيبة، والعلوم الغريبة، وآثار العقول الصحيحة ومحمود الأذهان اللطيفة، ومن الحكم الرفيعة، والمذاهب القديمة، والتجارب الحكيمة والأخبار عن القرون الماضية، والبلاد النازحة، والأمثال السائرة والأمم البائدة ما يجمعه كتاب.

ومن لك بزائر إن شئت كانت زيارته غبا وورده خمسا، وإن شئت لزمك لزوم ظلك، وكان منك كبعضك. والكتاب هو الجليس الذي لا يطريك، والصديق الذي لا يقليك، والرفيق الذي لا يملك، والمستمع الذي لا يستزيدك، والجار الذي لا يستبطئك، والصاحب الذي لا يريد استخراج ما عندك بالملق، ولا يعاملك بالمكر، ولا يخدعك بالنفاق.

والكتاب هو الذي إن نظرت فيه أطال إمتاعك، وشحذ طباعك، وبسط لسانك، وجود بيانك، وفخم ألفاظك وبجح نفسك، وعمر صدرك، ومنحك تعظيم العوام وصداقة الملوك، يطيعك بالليل طاعته بالنهار، وفي السفر طاعته في الحضر، وهو المعلم إن افتقرت إليه لا يحقرك، وإن قطعت عنه المادة لم يقطع عنك الفائدة، وإن عزلت لم يدع طاعتتك، وإن هبت ريح أعدائك لم ينقلب عليك، ومتى كنت متعلقا منه بأدنى حبل لم تضطرك معه وحشة الوحدة إلى جليس السوء، وإن أمثل ما يقطع به الفراغ نهارهم وأصحاب الكفايات ساعات ليلهم، نظر في كتاب لا يزال لهم فيه ازياد في تجربة، وعقل ومروءة وصون عرض وإصلاح دين، وتثمير مال، ورب صنيعة، وابتداء إنعام. ولو لم يكن من فضله عليك، وإحسانه إليك، إلا منعه لك من الجلوس على بابك، والنظر إلى المارة بك مع ما في ذلك من التعرض للحقوق التي تلزم، ومن فضول النظر وملابسة صغار الناس، ومن حضور ألفاظهم الساقطة، ومعانيهم الفاسدة، وأخلاقهم الردية، وجهالتهم المذمومة، لكان في ذلك السلامة والغنيمة، واحراز الأصل مع استفادة الفرع؛ ولو لم يكن في ذلك إلا أنه يشغلك عن سخف المنى، واعتياد الراحة، وعن اللعب، وكل ما تشتهيه، لقد كان له في ذلك على صاحبه اسبغ النعم، وأعظم المنة"
(المحاسن والأضداد، أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، مطبعة السعادة، ط1 1324هـ، ص4-6). 

ولا مزيد على ما قاله أبو عثمان نفعنا الله بكتبه وكتب سائر العلماء المحققين الأفذاذ. 

السبت 1441/2/7هـ
2019/10/5م 

الخميس، 8 أغسطس 2019

جني الفائدة لجمع ما تشابه من آي المائدة

بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله الذي أنزل كتابه هدى للمتقين، وأرسل رسوله بالحق ليظهر الدين ولو كره المشركون.
أما بعد، فقد وقفت على بعض المواضع التي تشابهت فيها آيات سورة المائدة، بعد أن وفقني الله عز وجل لحفظها ومراجعتها بين حين وآخر.
فرأيت أن أجمع هذه المواضع مستعينًا بالله عز وجل، وأنشرها في مجموع لطيف، لعل حافظًا يستعين به على تثبيت حفظه، أو متدبرًا يطالعه ليمعن في التدبر والتفكر.
هذا وإنني أعلم أن جهدي جهد المقل، وأن ما كتبته مجرد تكرار لجهود السابقين الذين بارك الله فيهم، ولكنني أحسب أنه عمل صالح يقرب إلى الله عز وجل وذخر باقٍ بعد الموت. 

رابط الرسالة:
https://archive.org/details/Obtaining_the_insight

البراء بن محمد
الرياض
مساء الخميس
1440/12/7هـ
2019/7/8م 

الاثنين، 25 فبراير 2019

كلمات شاب لم يمت بعد

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، اللهم صل وسلم على محمد وآله وأصحابه أجمعين. 
أما بعد، 
فإن عنوان المقال كاشف عن حاله، إذ أنها كلمات شاب ما زال ينمو ويكبر، وهو برغم ذلك يدرك أنه يقترب من الموت لحظة بعد لحظة. فيحاول أن يوقع كلماته موقع الصدق الذي يرجو من الله أن يفيضه عليه.
أرجو من الله أن تكون هذه الكلمات موعظة لي في حاضري ومستقبلي، ونافعة لغيري من الناس.
قال تعالى: ((يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء)) [إبراهيم/27]
اللهم اجعلنا من هؤلاء الموفقين المباركين!

مغفرة الله عز وجل
لست أطلب كثيرًا في هذه الحياة، هذا ما أشعر به الآن على الأقل. فقدت كثيرًا ورجوت كثيرًا، ولكن علمي بأن الله غفور رحيم هوّن علي بعض ما فقدته وزهدني في بعض ما ملكته. لقد تفضل الله تعالى علي بإبصار حقيقة خطيرة الشأن وهي أن ما فاتني من الدنيا يهون أمام مغفرة الله تعالى ورحمته، وأن ما اكتسبته منها لا يغني عني شيئًا إن لم يتغمدني الله برحمته ومغفرته وعفوه.
ولذلك فإنني أسأل الله أن يديم علي ستره ومغفرته، وأن يجعل الاستغفار سلواني وعزائي عند المصائب والبلايا.
قال تعالى: ((قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا إنه هو الغفور الرحيم)) [الزمر/53] 

بهجة قتلها الكسل 
"أن تصل متأخرًا خير من أن لا تصل" وأن يوفقك الله لتصل مبكرًا خيرٌ منهما! 
ضرر الكسل ظاهر، وهو قتل الهمة، وإماتة الروح، وإعجاز تحقيق الإنجاز. هذه المشاهد القبيحة تتمثل للعاقل فتنفض عنه كل وسن يعتريه عند السير، وتحمله على احتقار الصوارف التي تعيقه عن إدراك غايته التي يرنو إليها. 
لكن للكسل مرارة أخرى لا تقل عن مرارة عواقبه السيئة. ألا وهي الكدر الذي يعتري المرء عند وصوله أخيرًا لما كان يصبو إليه. إنها غصة التأخر عمن سبقه من أقرانه الذين جدوا واجتهدوا. وهي دين ثقيل يبقى في ذمة الكسلان فيتأخر قضاؤه إلى لحظة النهاية. 
وقد عشت مرارة الكسل حين ألفت كتابي ثم نشرته بعد أربعة أعوام منذ التخطيط لذلك. وعشتها مرة أخرى عندما تخرجت من الجامعة بعد أقراني بعامين إلا قليلًا. 

عزلة عن الدنيا واتصال بالآخرة 
أكل وشراب، سمر وأصحاب، مال ومناصب، أحدث التقنيات والسيارات، والعديد من الملذات التي تحجب الإنسان عن رؤية حقيقته وإبصار حقيقة الدنيا التي يلعب فيها كثيرًا قبل أن تتخطفه يد المنية. 
ماذا لو انفصلنا قليلًا عن هذه الواقع المضطرب وحاولنا أن ندرك بعض الحقائق التي غبنا عنها؟ ماذا لو أتبع الواحد منا سؤال "ثم ماذا؟" بعد كل حلم دنيوي يرجو تحقيقه؟
فلنحاول فعل ذلك، لعلنا ندرك ضعفنا وعجزنا عن الصمود والخلود. هل كان ذلك المال الذي لهثنا خلفه غاية الغايات؟ ((وهل لك، يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت)) [رواه مسلم].
سنموت قطعًا، وننضم إلى ركب الهالكين. وليست تلك الحفرة التي ستؤوي عظامنا آخر محطة في حياتنا القصيرة. بل -هي على خلاف ذلك- بدايةٌ لفصل جديد نُسأل فيه عن كل شيء ثم الخلود في رحمة الله أو عذابه الشديد.
ربما ندرك حينها أن انتشال أنفسنا من مستنقع الدنيا يتطلب يسيرًا من الوقت الذي يستحق أن يصرف في الاشتغال بعمارة آخرتنا.
قال تعالى: ((كلا بل تحبون العاجلة * وتذرون الآخرة)) [القيامة/20-21]
قال تعالى: ((بل تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خير وأبقى)) [الأعلى/16-17]

ليتني سكتُّ! 
"وفي اللسان آفتان عظيمتان، إن خلص من إحداهما لم يخلص من الأخرى: آفة الكلام، وآفة السكوت. وقد يكون كل منهما أعظم إثمًا من الأخرى في وقتها"
ابن القيم
ما من مزيد يقال بعد قول ابن القيم رحمه الله، وقد قرأته أول مرة فشعرت بحسرة كبيرة، لأن أكثر ما جنى علي هو لساني الذي أطلقت عنانه بلا رقيب!

كن مظلومًا ولا تكن ظالمًا
قد يعن لأحدنا أن يظلم غيره عندما يدرك تفوقه عليه في مال وسلطان وعلم، يرى قوته وقدرته فيتوهم دوامهما، وبقاء سلطته على الآخرين. ولو اختلى بنفسه قليلًا لأدرك أنه كان خلوًا من وسائل القوة يومًا، ثم اكتسبها بفضل الله لا بجده واجتهاده، وأنها منزوعة منه لا محالة، إما بصيرورته إلى الذل والمسكنة، أو بهلاكه وانقطاع شره.
"وما من يد إلا يد الله فوقها *** ولا ظالم إلا سيبلى بظالم"
قد أظلم غيري من الناس بتأويل باطل وأتوهم أن ذلك كافٍ لرفع تهمة الظلم عني. ولكن ذكرى الآخرة، والاعتبار بمصائر الظلمة الذين فاقوني في قوتهم وجبروتهم؛ يكسر غرور النفس وطغيانها. فإن نظرت في حالي وجدت أنني مخلوق مسكين عاجز. وكيف للعاجز أن يتكبر؟ وكيف للمسكين أن يطغى؟ ولكنه داء الغرور الذي يمرض الروح فيعميها عن إبصار الحقائق الجلية.
تعددت المواقف التي ظلمت فيها الناس بتسرعي، ولكن سرعان ما غشتني ظلمة الظلم، فكانت ثقيلة على قلبي ووجداني. كلما جئت أحدهم معتذرًا عن ظلمي وخطئي استشعرت الذل الذي سببته لنفسي. وتمنيت أن أكون مظلومًا لا ظالمًا، لعلي أنال شيئًا من ثواب الله عز وجل لمن يعفو ويصفح! 
إن ما يعتري المظلوم من حرقة وألم بسبب ظلمه لهو أهون بكثير من نشوة الظالم التي سرعان ما تزول بمجرد تحقق نهايته القبيحة.
قال تعالى: ((وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون)) [الشعراء/227]

ليست إرادة الإنسان كل شيء
لطالما حدثت نفسي أن عجز الإنسان عن تحقيق غايات الكمال راجع إلى ضعف إرادته وخسة همته، وهذا النقص سابق على تلك العوائق التي تعترض الطريق. فأهل النفاق تاركو الجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا في ريب وشك بالله وموعوده فجزعوا وعجزوا عن الصبر على مشقات البذل لله تعالى والتي هي  أحقر من أن تقارن بثواب الله سبحانه وأجره الجزيل.
ولكنني غفلت عن ملمح مهم، وهو أنه لا أثر للإنسان بغير اجتماع إرادته وقدرته معًا، فالإرادة وحدها لا تكفي بالغرض، والقدرة وحدها لا تفي بالمأمول. وما الإنسان سوى مخلوق ضعيف يستمد قوته وهمته من الله عز وجل؛ فلا توفيق له إلا بما يفيضه الرب سبحانه عليه. فإن وكله الله إلى نفسه وجدت الخذلان العظيم والذل الكبير.
بل حتى هذه الإرادة القوية -التي نتوهمها فينا- يعتورها الضعف والخور أحيانًا، فتجد الواحد منا نشيطًا مقتدرًا على فعل أمر ما في بداياته، ثم يصيبه الملل والكلل والخمول والكسل فيعجز عن فعل أقل القليل الذي يشعره بالإنجاز والفخر. ورضي الله عن علي بن أبي طالب حيث قال -فيما ينسب إليه-: "عرفت الله سبحانه، بفسخ العزائم، وحل العقود، ونقض الهمم".
قال تعالى: ((وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين)) [التكوير/29]

ضريبة العيش مع الآخرين 
الإنسان مدني بطبعه كما قيل، وعلاقاتنا بالناس تبلي احتياجات عظيمة تواجهنا كل يوم. وهذه العلاقات فيها الغنم والغرم، والمكسب والخسارة، "فيومٌ علينا ويومٌ لنا *** ويومٌ نُساء ويومٌ نُسر"
ولذا فإن أخطر ما يقتل هذه العلاقات هو الأنانية والرغبة في التفرد بكل المنافع مع الانكفاف التام عن البذل والتضحية. إذ أن المصالح فيها مشتركة، فلا تنال هذه المصالح إلا بمغالبة وقهر (وقد يتضمن ذلك الظلم والطغيان وله عواقب وخيمة) أو بمسامحة وفضل أو مناصفة وعدل.
(الرحم والقرابة - النكاح - الصداقة) كل هذه الدوائر الاجتماعية تتطلب منا تضحية كبيرة للفوز بلذاذاتها والتمتع بها.
وترددنا لخوض هذه العلاقات أو تعميقها راجع لضعف إدراكنا للحقيقة السابقة. يريد الواحد منا أن ينال كل شيء بلا شيء تقريبًا!
وإنني أعزو بعض ضعفي الاجتماعي لعدم العمل بهذه المعرفة المهمة.

خصيم مبين 
ما أسهل أن يطلب الواحد لنفسه منزلة الفضل أو العدل عندما تكون في مصلحته، وما أسهل أن ينتقل إلى دركة الظلم والطغيان عندما يرى أن مصلحته القريبة تتحقق بذلك.
وفّني حقي من الميزان، وسأبخسك حقك منه وأبالغ في تطففيه! هذا هو لسان حالنا في أكثر الأحيان.
عندما كتبت عن مشروع التخرج للمرة الأولى؛ كتبته بروح مكروب انتصر في معركة طويلة الأمد. وقد كنت محقًا في بعض ذلك. إلا أنني لما رجعت لما كتبته بعد برهة من الزمان، أدركت أنني قد بالغت في ذم بعض الدكاترة لأنهم شددوا علي ولم يعاملوني كما أتوقع منهم ذلك. ولو أردت أن أنصفهم وأنصف نفسي معهم، لرأيت أن ما حدث لي منهم كان معاكسًا لتأخري وتهاوني في أداء واجبي. لقد أهملت مشروع التخرج حتى اللحظات الأخيرة ثم عدت أستجديهم ليقبلوه. فالأمر إذن في أحسن الأحوال متكافئ وقريب. وقد اعتذرت عما كتبته بعد حين من الزمان واستغفرت لي ولهم.
إدراك المرء لأخطائه وتقصيره مع ربه تعالى ونفسه والناس يدفعه للنظر في علاقاته مع الناس بزاوية أخرى. عسى أن يعدل معهم، ويرتقي قليلًا فيعاملهم بالحسنى، ويتجاوز عن أخطائهم، ويرفق بهم، وينصفهم في خصومته.

عجول بائس
لا أستطيع الجزم بأنني أصدق الناس سريرة، لأن نزوات الخسة والدناءة تهيمن علي أحيانًا كما يحصل لكثير من الناس، فتقودني لما لا تحمد عقباه.
ولكنني أعرف من نفسي بعض الصدق والخير الذي يفسده التسرع في الحكم على الناس والأفكار. نعم، لقد ارتكبت سخيف الأخطاء التي يحجم عنها العقلاء بأدنى تفكير. وما ذاك إلا تسرعي وعجلتي.
أرى أثر عجلتي في تناقضاتي ومواقفي المخزية، فأشك بعقلي وحكمتي. ليس أقبح من إدراك التناقض إلا شعور الغباء العارم الذي يتبعه. لقد كنت مقتدرًا على حجز نفسي عن موارد الردى، فما الذي حدث؟
قال تعالى: ((وكان الإنسان عجولًا)) [الإسراء/11]

هل هو التغلي أم التخلي؟ 
يتعذر اختزال العلاقات البشرية في سؤال حاصر كهذا. إلا أنه مرح بما يكفي لطرحه والتفكير فيه. 
ما الذي يدفع فلانًا من الناس للصد عن الرد؟ هل تعاظمت قيمته في نفسه حتى يستهين بمجالستنا والحديث إلينا؟ أم أنه ظن علاقتنا معه من سقط المتاع الذي لا يكترث لسقوطه منه أو وجوده معه؟  
ولأن حسن الظن واجب بالمسلمين، فقد يكون الجواب خارجًا عن حد السؤال أصلًا. فلعله التولي عن الشر والتحلي بالخير. ولعله التسلي بما يشغل الذهن عن عبء الصداقة والمودة.
"أتراها تناست اسمي لما *** كثرت في غرامها الأسماء"
"غابت عن عيوني وفي عيوني سؤال *** اللي حصل منها جفا ولا دلال"
 
أزفت الحقيقة! 
"يمثل ذو اللب في نفسه *** مصائبه قبل أن تنزلا"
تركض بنا الأيام عجلى فتقربنا إلى حقائق لم نحسب لها حسابًا، ولم نعمل لاتقاء شرها شيئًا. 
والعاقل وافر العقل هو من يستبق الزمان، فيستعد لآخرته بالعمل الصالح، ويتقي شرور الدنيا بأخذ الحيطة وترك المغامرة فيما لا طائل خلفه، ويحفظ ما بقي من وقته وجهده وماله لمدلهمات الزمان. 
إنني أعرف أن موعد الاختبار بعد شهر أو شهرين، لكن هذه المعرفة لا تستفز نفسي للعمل والتحرك، لا يستفزها إلا الأسبوع الأخير، الليلة التي تسبق الاختبار، الساعات التي ينتهك العقل الكسول فيها بلا رحمة. 
ورغم أن استباق الأحداث بالعمل والتخطيط يخفف من وقعها علينا، ويكون يسيرًا، إلا أننا نتكاسل عنه لفرط ثقتنا بثبات إرادتنا وقدرتنا على مقاومة الظروف السيئة.
كنت أعرف أنني سأغادر الأراضي الماليزية قريبًا بعد أن أمضيت خمس عمري فيها. ولكن معرفتي هذه قد امتزجت بالشوق والتردد، والتقدير والامتنان لكل لحظات الماضي عندما أزف موعد الرحيل. 
وبهذه المناسبة، فإنني أرجو من الله أن يوفقني للاستعداد للموت، والإقبال إليه بطمأنينة. أرجو أن أستشعر قربه دون أن أجزع أو أخاف. إنني -برغم تقصيري وتفريطي في جنب الله- على أمل أن ألقى الله سبحانه وتعالى بعمل صالح وخاتمة حسنة. 

البراء بن محمد
الاثنين
1440/6/20هـ
2019/2/25م