الاثنين، 25 فبراير 2019

كلمات شاب لم يمت بعد

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، اللهم صل وسلم على محمد وآله وأصحابه أجمعين. 
أما بعد، 
فإن عنوان المقال كاشف عن حاله، إذ أنها كلمات شاب ما زال ينمو ويكبر، وهو برغم ذلك يدرك أنه يقترب من الموت لحظة بعد لحظة. فيحاول أن يوقع كلماته موقع الصدق الذي يرجو من الله أن يفيضه عليه.
أرجو من الله أن تكون هذه الكلمات موعظة لي في حاضري ومستقبلي، ونافعة لغيري من الناس.
قال تعالى: ((يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء)) [إبراهيم/27]
اللهم اجعلنا من هؤلاء الموفقين المباركين!

مغفرة الله عز وجل
لست أطلب كثيرًا في هذه الحياة، هذا ما أشعر به الآن على الأقل. فقدت كثيرًا ورجوت كثيرًا، ولكن علمي بأن الله غفور رحيم هوّن علي بعض ما فقدته وزهدني في بعض ما ملكته. لقد تفضل الله تعالى علي بإبصار حقيقة خطيرة الشأن وهي أن ما فاتني من الدنيا يهون أمام مغفرة الله تعالى ورحمته، وأن ما اكتسبته منها لا يغني عني شيئًا إن لم يتغمدني الله برحمته ومغفرته وعفوه.
ولذلك فإنني أسأل الله أن يديم علي ستره ومغفرته، وأن يجعل الاستغفار سلواني وعزائي عند المصائب والبلايا.
قال تعالى: ((قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا إنه هو الغفور الرحيم)) [الزمر/53] 

بهجة قتلها الكسل 
"أن تصل متأخرًا خير من أن لا تصل" وأن يوفقك الله لتصل مبكرًا خيرٌ منهما! 
ضرر الكسل ظاهر، وهو قتل الهمة، وإماتة الروح، وإعجاز تحقيق الإنجاز. هذه المشاهد القبيحة تتمثل للعاقل فتنفض عنه كل وسن يعتريه عند السير، وتحمله على احتقار الصوارف التي تعيقه عن إدراك غايته التي يرنو إليها. 
لكن للكسل مرارة أخرى لا تقل عن مرارة عواقبه السيئة. ألا وهي الكدر الذي يعتري المرء عند وصوله أخيرًا لما كان يصبو إليه. إنها غصة التأخر عمن سبقه من أقرانه الذين جدوا واجتهدوا. وهي دين ثقيل يبقى في ذمة الكسلان فيتأخر قضاؤه إلى لحظة النهاية. 
وقد عشت مرارة الكسل حين ألفت كتابي ثم نشرته بعد أربعة أعوام منذ التخطيط لذلك. وعشتها مرة أخرى عندما تخرجت من الجامعة بعد أقراني بعامين إلا قليلًا. 

عزلة عن الدنيا واتصال بالآخرة 
أكل وشراب، سمر وأصحاب، مال ومناصب، أحدث التقنيات والسيارات، والعديد من الملذات التي تحجب الإنسان عن رؤية حقيقته وإبصار حقيقة الدنيا التي يلعب فيها كثيرًا قبل أن تتخطفه يد المنية. 
ماذا لو انفصلنا قليلًا عن هذه الواقع المضطرب وحاولنا أن ندرك بعض الحقائق التي غبنا عنها؟ ماذا لو أتبع الواحد منا سؤال "ثم ماذا؟" بعد كل حلم دنيوي يرجو تحقيقه؟
فلنحاول فعل ذلك، لعلنا ندرك ضعفنا وعجزنا عن الصمود والخلود. هل كان ذلك المال الذي لهثنا خلفه غاية الغايات؟ ((وهل لك، يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت)) [رواه مسلم].
سنموت قطعًا، وننضم إلى ركب الهالكين. وليست تلك الحفرة التي ستؤوي عظامنا آخر محطة في حياتنا القصيرة. بل -هي على خلاف ذلك- بدايةٌ لفصل جديد نُسأل فيه عن كل شيء ثم الخلود في رحمة الله أو عذابه الشديد.
ربما ندرك حينها أن انتشال أنفسنا من مستنقع الدنيا يتطلب يسيرًا من الوقت الذي يستحق أن يصرف في الاشتغال بعمارة آخرتنا.
قال تعالى: ((كلا بل تحبون العاجلة * وتذرون الآخرة)) [القيامة/20-21]
قال تعالى: ((بل تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خير وأبقى)) [الأعلى/16-17]

ليتني سكتُّ! 
"وفي اللسان آفتان عظيمتان، إن خلص من إحداهما لم يخلص من الأخرى: آفة الكلام، وآفة السكوت. وقد يكون كل منهما أعظم إثمًا من الأخرى في وقتها"
ابن القيم
ما من مزيد يقال بعد قول ابن القيم رحمه الله، وقد قرأته أول مرة فشعرت بحسرة كبيرة، لأن أكثر ما جنى علي هو لساني الذي أطلقت عنانه بلا رقيب!

كن مظلومًا ولا تكن ظالمًا
قد يعن لأحدنا أن يظلم غيره عندما يدرك تفوقه عليه في مال وسلطان وعلم، يرى قوته وقدرته فيتوهم دوامهما، وبقاء سلطته على الآخرين. ولو اختلى بنفسه قليلًا لأدرك أنه كان خلوًا من وسائل القوة يومًا، ثم اكتسبها بفضل الله لا بجده واجتهاده، وأنها منزوعة منه لا محالة، إما بصيرورته إلى الذل والمسكنة، أو بهلاكه وانقطاع شره.
"وما من يد إلا يد الله فوقها *** ولا ظالم إلا سيبلى بظالم"
قد أظلم غيري من الناس بتأويل باطل وأتوهم أن ذلك كافٍ لرفع تهمة الظلم عني. ولكن ذكرى الآخرة، والاعتبار بمصائر الظلمة الذين فاقوني في قوتهم وجبروتهم؛ يكسر غرور النفس وطغيانها. فإن نظرت في حالي وجدت أنني مخلوق مسكين عاجز. وكيف للعاجز أن يتكبر؟ وكيف للمسكين أن يطغى؟ ولكنه داء الغرور الذي يمرض الروح فيعميها عن إبصار الحقائق الجلية.
تعددت المواقف التي ظلمت فيها الناس بتسرعي، ولكن سرعان ما غشتني ظلمة الظلم، فكانت ثقيلة على قلبي ووجداني. كلما جئت أحدهم معتذرًا عن ظلمي وخطئي استشعرت الذل الذي سببته لنفسي. وتمنيت أن أكون مظلومًا لا ظالمًا، لعلي أنال شيئًا من ثواب الله عز وجل لمن يعفو ويصفح! 
إن ما يعتري المظلوم من حرقة وألم بسبب ظلمه لهو أهون بكثير من نشوة الظالم التي سرعان ما تزول بمجرد تحقق نهايته القبيحة.
قال تعالى: ((وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون)) [الشعراء/227]

ليست إرادة الإنسان كل شيء
لطالما حدثت نفسي أن عجز الإنسان عن تحقيق غايات الكمال راجع إلى ضعف إرادته وخسة همته، وهذا النقص سابق على تلك العوائق التي تعترض الطريق. فأهل النفاق تاركو الجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا في ريب وشك بالله وموعوده فجزعوا وعجزوا عن الصبر على مشقات البذل لله تعالى والتي هي  أحقر من أن تقارن بثواب الله سبحانه وأجره الجزيل.
ولكنني غفلت عن ملمح مهم، وهو أنه لا أثر للإنسان بغير اجتماع إرادته وقدرته معًا، فالإرادة وحدها لا تكفي بالغرض، والقدرة وحدها لا تفي بالمأمول. وما الإنسان سوى مخلوق ضعيف يستمد قوته وهمته من الله عز وجل؛ فلا توفيق له إلا بما يفيضه الرب سبحانه عليه. فإن وكله الله إلى نفسه وجدت الخذلان العظيم والذل الكبير.
بل حتى هذه الإرادة القوية -التي نتوهمها فينا- يعتورها الضعف والخور أحيانًا، فتجد الواحد منا نشيطًا مقتدرًا على فعل أمر ما في بداياته، ثم يصيبه الملل والكلل والخمول والكسل فيعجز عن فعل أقل القليل الذي يشعره بالإنجاز والفخر. ورضي الله عن علي بن أبي طالب حيث قال -فيما ينسب إليه-: "عرفت الله سبحانه، بفسخ العزائم، وحل العقود، ونقض الهمم".
قال تعالى: ((وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين)) [التكوير/29]

ضريبة العيش مع الآخرين 
الإنسان مدني بطبعه كما قيل، وعلاقاتنا بالناس تبلي احتياجات عظيمة تواجهنا كل يوم. وهذه العلاقات فيها الغنم والغرم، والمكسب والخسارة، "فيومٌ علينا ويومٌ لنا *** ويومٌ نُساء ويومٌ نُسر"
ولذا فإن أخطر ما يقتل هذه العلاقات هو الأنانية والرغبة في التفرد بكل المنافع مع الانكفاف التام عن البذل والتضحية. إذ أن المصالح فيها مشتركة، فلا تنال هذه المصالح إلا بمغالبة وقهر (وقد يتضمن ذلك الظلم والطغيان وله عواقب وخيمة) أو بمسامحة وفضل أو مناصفة وعدل.
(الرحم والقرابة - النكاح - الصداقة) كل هذه الدوائر الاجتماعية تتطلب منا تضحية كبيرة للفوز بلذاذاتها والتمتع بها.
وترددنا لخوض هذه العلاقات أو تعميقها راجع لضعف إدراكنا للحقيقة السابقة. يريد الواحد منا أن ينال كل شيء بلا شيء تقريبًا!
وإنني أعزو بعض ضعفي الاجتماعي لعدم العمل بهذه المعرفة المهمة.

خصيم مبين 
ما أسهل أن يطلب الواحد لنفسه منزلة الفضل أو العدل عندما تكون في مصلحته، وما أسهل أن ينتقل إلى دركة الظلم والطغيان عندما يرى أن مصلحته القريبة تتحقق بذلك.
وفّني حقي من الميزان، وسأبخسك حقك منه وأبالغ في تطففيه! هذا هو لسان حالنا في أكثر الأحيان.
عندما كتبت عن مشروع التخرج للمرة الأولى؛ كتبته بروح مكروب انتصر في معركة طويلة الأمد. وقد كنت محقًا في بعض ذلك. إلا أنني لما رجعت لما كتبته بعد برهة من الزمان، أدركت أنني قد بالغت في ذم بعض الدكاترة لأنهم شددوا علي ولم يعاملوني كما أتوقع منهم ذلك. ولو أردت أن أنصفهم وأنصف نفسي معهم، لرأيت أن ما حدث لي منهم كان معاكسًا لتأخري وتهاوني في أداء واجبي. لقد أهملت مشروع التخرج حتى اللحظات الأخيرة ثم عدت أستجديهم ليقبلوه. فالأمر إذن في أحسن الأحوال متكافئ وقريب. وقد اعتذرت عما كتبته بعد حين من الزمان واستغفرت لي ولهم.
إدراك المرء لأخطائه وتقصيره مع ربه تعالى ونفسه والناس يدفعه للنظر في علاقاته مع الناس بزاوية أخرى. عسى أن يعدل معهم، ويرتقي قليلًا فيعاملهم بالحسنى، ويتجاوز عن أخطائهم، ويرفق بهم، وينصفهم في خصومته.

عجول بائس
لا أستطيع الجزم بأنني أصدق الناس سريرة، لأن نزوات الخسة والدناءة تهيمن علي أحيانًا كما يحصل لكثير من الناس، فتقودني لما لا تحمد عقباه.
ولكنني أعرف من نفسي بعض الصدق والخير الذي يفسده التسرع في الحكم على الناس والأفكار. نعم، لقد ارتكبت سخيف الأخطاء التي يحجم عنها العقلاء بأدنى تفكير. وما ذاك إلا تسرعي وعجلتي.
أرى أثر عجلتي في تناقضاتي ومواقفي المخزية، فأشك بعقلي وحكمتي. ليس أقبح من إدراك التناقض إلا شعور الغباء العارم الذي يتبعه. لقد كنت مقتدرًا على حجز نفسي عن موارد الردى، فما الذي حدث؟
قال تعالى: ((وكان الإنسان عجولًا)) [الإسراء/11]

هل هو التغلي أم التخلي؟ 
يتعذر اختزال العلاقات البشرية في سؤال حاصر كهذا. إلا أنه مرح بما يكفي لطرحه والتفكير فيه. 
ما الذي يدفع فلانًا من الناس للصد عن الرد؟ هل تعاظمت قيمته في نفسه حتى يستهين بمجالستنا والحديث إلينا؟ أم أنه ظن علاقتنا معه من سقط المتاع الذي لا يكترث لسقوطه منه أو وجوده معه؟  
ولأن حسن الظن واجب بالمسلمين، فقد يكون الجواب خارجًا عن حد السؤال أصلًا. فلعله التولي عن الشر والتحلي بالخير. ولعله التسلي بما يشغل الذهن عن عبء الصداقة والمودة.
"أتراها تناست اسمي لما *** كثرت في غرامها الأسماء"
"غابت عن عيوني وفي عيوني سؤال *** اللي حصل منها جفا ولا دلال"
 
أزفت الحقيقة! 
"يمثل ذو اللب في نفسه *** مصائبه قبل أن تنزلا"
تركض بنا الأيام عجلى فتقربنا إلى حقائق لم نحسب لها حسابًا، ولم نعمل لاتقاء شرها شيئًا. 
والعاقل وافر العقل هو من يستبق الزمان، فيستعد لآخرته بالعمل الصالح، ويتقي شرور الدنيا بأخذ الحيطة وترك المغامرة فيما لا طائل خلفه، ويحفظ ما بقي من وقته وجهده وماله لمدلهمات الزمان. 
إنني أعرف أن موعد الاختبار بعد شهر أو شهرين، لكن هذه المعرفة لا تستفز نفسي للعمل والتحرك، لا يستفزها إلا الأسبوع الأخير، الليلة التي تسبق الاختبار، الساعات التي ينتهك العقل الكسول فيها بلا رحمة. 
ورغم أن استباق الأحداث بالعمل والتخطيط يخفف من وقعها علينا، ويكون يسيرًا، إلا أننا نتكاسل عنه لفرط ثقتنا بثبات إرادتنا وقدرتنا على مقاومة الظروف السيئة.
كنت أعرف أنني سأغادر الأراضي الماليزية قريبًا بعد أن أمضيت خمس عمري فيها. ولكن معرفتي هذه قد امتزجت بالشوق والتردد، والتقدير والامتنان لكل لحظات الماضي عندما أزف موعد الرحيل. 
وبهذه المناسبة، فإنني أرجو من الله أن يوفقني للاستعداد للموت، والإقبال إليه بطمأنينة. أرجو أن أستشعر قربه دون أن أجزع أو أخاف. إنني -برغم تقصيري وتفريطي في جنب الله- على أمل أن ألقى الله سبحانه وتعالى بعمل صالح وخاتمة حسنة. 

البراء بن محمد
الاثنين
1440/6/20هـ
2019/2/25م