الاثنين، 4 نوفمبر 2019

بواعث العقوق

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه سيد الخلق أجمعين، وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد، 

-

قال تعالى: ((وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا)) [الإسراء/23].

-

إن المواعظ المتعلقة ببر الوالدين تؤثر فينا، وتنفذ إلى أعماق قلوبنا بقدر ما تتصل بكلام الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وقصص البررة والعققة. لكن انغماسنا في الغفلة عن أحوالنا الظاهرة والباطنة يحول بيننا وبين الانتفاع بتلك المواعظ الجليلة، فتعبر من أذن وتخرج من أخرى دون أن ترد على القلب أو الفكر. 

ومن هنا، فإنني لن أعظ القارئ الكريم بتلك المواعظ المباشرة التي اعتاد سماعها وقرائتها، بل سأعمد لتحليل سلوكياتنا القبيحة، والنظر في بواعثها التي تعززها في أنفسنا.

-

ينبغي -في البدء- أن نقر بأن علة عقوق الوالدين غير منحصرة في البغض والحقد، إذ أن جملة من مظاهر العقوق -كالتأفف والتضجر- لا تلوح فيها علامات البغضاء بحال.

-

"ومن البر ما يكون عقوقًا" 

إن التقصير في حقوق الوالدين لازم لنا بطبيعتنا البشرية المشوبة بالأهواء والعواطف. إذ يكفي أننا لن نفيهما حقوقهما ما حيينا.

ومع ذلك، فإن للتقصير دركات، كما أن للإحسان درجات، فليس التأفف كشتم الوالدين أو ضربهما -عياذًا بالله-.

-

بواعث العقوق:

الاستغراق في لحظة الحاضر وفصلها عن سياقها 
اختزال التاريخ ((لو أحسنت إلى أحدهن الدهر كله...))
الإيغال في التفكير الذاتي
فوضى الوقت
الاستقلال عن الوالدين
ظلم الوالدين
سوء الفهم
الندية (أي أن يكون أحد الوالدين ندًا)
التجرد من المسؤولية

-

لو مثلنا للعقوق بفعل التأفف المناقض لقبول أمر الوالدين أو نهيهما، ثم أمعنّا النظر فيه؛ فإننا سندرك أن اتصاله بهذه البواعث وثيق للغاية، وأنه لا ينفك عنها بحال.

إن هذا المتأفف من أمر والده ينظر إلى هذا الأمر بوصفه انتهاكًا لحريته الشخصية في فعل ما يشاء، وأن والده يريد أن يتسلط عليه، وأنه مستقل عنهما بعلمه وقوته وماله، وأنه ليس مسؤولًا عنهما، وأن أولوياته ومصالحه مقدمة مطلقًا على مصالح والديه، وأن والديه أنداد له؛ ومن ثم فليس معنيًا بالاعتناء بهما برحمة وشفقة.

قد لا يستحضر المتأفف كل هذه المشاعر والأحاسيس، لكن تأففه المتكرر يوطنه عليها، ويزيد من تقبله إياها في المستقبل.

-

"لقد ظلمني والدي كثيرًا، لا أنسي أنه فعل كذا وكذا"، "عقتني صغيرة، فسأعقها كبيرة".
كم عاقًا سمعناه يردد مثل هذه الأقاويل؟

لا شك أن الظلم يجر الظلم، ويشجعه على الظهور والاستفحال. والعاق ليس استثناء من هذه القاعدة، فهو يستجيب الظلم بظلم مماثل لأنه يبالغ في تصويره، ويتخذ والديه أندادًا له، ويتجرد من كل مسؤولية تجاههما، ويجتزئ تاريخهما لينتقم منهما بكل قسوة.

-

إن استبداد العاق بمزيد عقل ومال وقوة يوهمه أنه مستقل عن والديه استقلالًا يوجب تباعده عنهما. وهو يتخزل بذلك تاريخًا طويلًا ضاربة جذوره في الماضي متضمنًا محاسن لا يستطيع أن يوصلها إلى نفسها لولا -الله- ثم وجود والديه وعنايتهما به.

والحق أن العاق امتداد والديه شاء ذلك أم أباه، هو نبتة زرعها والداه، واعتنيا بها (ولو لبعض الوقت)، فنمت وترعرعت.

بالإضافة إلى أن إثبات التفوق على الوالدين لا طائل منه في الغالب، وهو فعل يفتقر إلى أي تبرير أخلاقي وعقلي متسق.

-

المسؤولية تقتضي أن يحمل العاقل كلام والديه وأفعالهم على أحسن المحامل ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، أو التجاوز عنها إن كانت حقيرة بما يكفي لعدم النظر فيها، أو تقويمها برفق وحكمة دون استفزاز واعتداء.

لكن العاق خالٍ -كليًا أو جزئيًا- من المسؤولية، فهو -إذن- عرضة لسوء الفهم وفهم السوء، وهو ميالٌ إلى سوء الظن ما استطاع إلى ذلك سبيلًا. ولأن والديه أنداد له، فإنه لن يتجاوز عن زلة وإن دقت، أو يقوم الغلطة بما يزيلها حقًا دون تشنيع وإساءة.

-

ولأن العاق موغلٌ في النظر في مصالحه دومًا بلا اعتبار لمصالح والديه، فإن فوضويته في الوقت تؤثر بجلاء في تعامله مع والديه. إنه يستثقل بعض الدقائق التي يسامر فيها والدته ويؤنس وحشتها، ولا يستثقل أغلب الساعات التي يضيعها مع رفاقه في لغو الحديث ومنكره.

وحتى مع انتظام العاق في وقت عمله وحياته الخاصة، فإن انتظامه فوضى باعتبار خلوه من السعي لإرضاء والديه ورد شيء من الجميل الذي يستحقانه.

-

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئًا، قالت: ما رأيت منك خيرًا قط)) [البخاري]
وهذا الخلق الذميم تجاه الزوج منعكسٌ في سلوك العاق تجاه والديه. فكثير من العاقين ينظرون في زلات والديهم، ويعظمونها، ولا يزنونها إزاء المحاسن أبدًا. بل إنهم يشيعون هذه المساوئ ليكافئوا بها مساوئهم تجاه والديهم. رغم أن كثيرًا من هذه الزلات يمكن اغتفارها بخلاف العقوق المنطوي على سوء القصد والظن.

لا غرابة إذن أن نسمع عن عاق أفنى والداه أعمارهما في رعايته والعناية به، ثم لما ارتسمت اللحية على وجهه، قلب لهما ظهر المجن، وتنكر لمعروفهما، وجازهما جزاء "مجير أم عامر"!

-

وحتى لا تخلو المقالة من فائدة؛ فهذا جماع ما يفسد هذه البواعث ويبطل عملها في النفس:

فدواء الاستغراق في الحاضر وقطعه عن سياقه؛ هو النظر إلى المستقبل القادم الذي سيحمل في طياته عواقب الشر الوخيمة ما لم يتدارك العاقل نفسه. ودواؤه النظر -أيضًا- في الماضي المنصرم، للاعتبار به، والازدجار عن فعل ما يورد النفس الهلكة.
وهو كذلك دواءٌ شافٍ لمشكلة اختزال التاريخ.

وعلاج الإيغال في التفكير الذاتي هو توسيع النظر فيه ليشمل المصالح الحاصلة بالتقرب إلى الله عز وجل عن طريق خدمة الوالدين ومن في حكمهما، وأن مآل بر الوالدين هو صلاح الذات نفسها قبل كل شيء.

وتدارك فوضى الوقت هو بإدارته جيدًا، وترتيب الأولويات بحسب منظار الشرع والعقل.

وقطع باعث الاستقلال عن الوالدين هو أن يضع المرء نفسه في مكانهما، ويستشعر حاجتهما إلى رفيق معين، خاصة مع تقدم السن ووهن الجسد. بالإضافة إلى استحضار ماضٍ مكلل بالضعف والوهن، واستذكار مستقبلٍ واعدٍ بانحلال القوى، وانفصال الروح عن الجسد.

أما ظلم الوالدين، فالله عز وجل يتكفل به، والعدل يطفئ نار الظلم، والعفو عند المقدرة يكسر شهوات النفس ويريحها من الغل والحقد.

وحل سوء الفهم هو الحوار الفعال، والإنصات بغرض الفهم لا الاتهام.

وقطع واردات الندية يكون باستحضار أن الولد يظل ابنًا لوالده وإن بلغ عنان السماء، وأن الله كلفه ببره وطاعته -فيما لا يخالف الشرع الحنيف- وأن الحقائق لا تتبدل أو تزول تبعًا لأهواء النفوس.

ولا يكون التحلي بالمسؤولية بغير الانخلاع من ضدها وهو ترك اللامبالاة بالعظيم من الأمور مع الاهتمام بسفاسفها.

-

وفي الختام: فإن الوعي بالذات مهمٌ لتقويم السلوك المنحرف، وهو -وحده- غير كافٍ ما لم يقترن بالعزم الجازم على التغيير.

-

جعلنا الله وإياكم من أهل البر والإحسان، وجنبنا سبيل أهل العقوق والطغيان.

-

البراء بن محمد
الرياض
1441/3/7هـ
2019/4/11م