الجمعة، 21 يوليو 2017

بين اللأواء والنعماء ذكريات من مشروع التخرج

بسم الله الرحمن الرحيم
*تنبيه: لا تخلو بعض الحروف المسطورة هنا من مبالغة في نقد الواقع وأهله -وأعني دكاترتي تحديدًا-، ولعلها من تداعيات أزمة مشروع التخرج؛ فقد كتبت المقال على أثرها مباشرة. والله يغفر لي ولدكاترتي جميعًا، فقد كنت مقصرًا مفرطًا مسيئًا في المقام الأول، ولم يكن ثمة عذر لتأخري وإهمالي، فلا وجه للومهم لتأخرهم ومماطلتهم. ومن هنا فإنني لا أقر جميع ما كتبته، ولكنني أتركه للذكرى وحسب*
الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علمًا، ووسعت رحمته الخلائق كلهم، وظهرت حكمته في أنواع الموجودات، وشملت مغفرته خطايا المذنبين، وأفاض بفضله ومحبته صنوف الثواب على المحسنين. 
والصلاة والسلام على نبيه المبعوث بخير الشرائع، وأفضل الرسالات، الصادق الأمين، سيد ولد آدم، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين. 
أما بعد، فهذه حروف ناجٍ من الكرب العظيم، قد انفطر فؤاده مرارًا لما ذاقه من المر والنكد، وهاجت نفسه كثيرًا بكبائر الآلام النفسية، وعظائم الخسائر المالية، والحمد لله على كل حال. 
اعلم -رفع الله عني وعنك البلايا- أنني قد شهدت أيامًا شدادًا لم أشهد نظيرًا لها [في حياتي] مع تعدد الضغوطات والمصائب التي ما انفك عنها إنسان يمشي على قدميه. 
وقد كانت عدتها شهرًا ويومين بالتمام، ابتدأت صغيرة حقيرة الشأن والأثر، وانتهت عظيمة بفوائدها شديدة بأضرارها، وإن كان انقشاع سحابتها السوداء الكالحة كفيلًا بغيث يروي قشرة القلب الجافة، ويطيب خاطرًا مجروحًا، ويحيي روحًا غابت عنها السعادة، وينعش ذهنًا مكدودًا، وفضل الله أوسع من ذلك كله. 
--
"رام نقش الشوك حينًا رجلٌ *** فاختفى عن ناظريه المحمل
لحظة يا صاحبي إن تغفل *** ألف ميل زاد بعد المنزل"
--
[1]
على بعد أيام من الرحلة الموعودة، يجلس البراء بن محمد مع رفقائه في وقت متأخر من الليل، ليتسامروا ثم ينصرف كل واحد منهم لشأنه. إنه شهر رمضان، حيث يبدو السهر عرفًا محتمًا فيه. 
يسألونه عن مشروع التخرج، الهم المشترك بين أبناء الدفعة الذين بذلوا جهودهم في دفعه وإنجاز مهامّه الثقيلة. 
أ: هل سلمت مشروعك يا براء؟
البراء: أي مشروع؟ لا أزال في الmethodology. وهو الفصل الثالث. 
يشير الرفيقان أ وب بأصابعهما الوسطى إليه، ويلقنانه درسًا في الانضباط والالتزام، حيث أن هذه أيام جمع محصول الحصاد، والتسليم نفسه قد شارف وقته الانتهاء. 
أ: سلّم أي مسودة. اكتب أي شيء، لا تقف هكذا مكتوف الأيدي، إن تجاهل الدكاترة تصحيح مشروعك، فسترسب وتحمل المادة لاحقًا. 
كانت جرعة كافية من اللوم والتقريع للبراء لينهض من تلك الجلسة ويباشر العمل، وينتهي من باقي المشروع في غضون يوم وبضع يوم. 
--
"تجرأنا على الآثام لما *** رأينا العفو من ثمر الذنوب"
--
[2]
يلتقي البراء بالexaminer، وينشر بين يديه أوراق المشروع، وتتوالى الملاحظات المتعلقة بالformat أو صياغة البحث. 
يخرج البراء وقد اعتقد أن ملاحظات الexaminer المتعلقة بالصياغة والشكليات لن تضره كثيرًا، سيعرض المشروع على الsupervisor أو المشرفة وبظنه الغالب (على الخطأ) أنه ستمضيه إمضاء من قرأ الحروف سريعًا ولم يعقل معانيها. كما فعل الexaminer أو المصحح. 
لا يزال ذهن البراء مشغولًا بطائرته التي سيخرج بها من أرض ماليزيا إلى جدة، ليعتمر هناك في آخر يوم في رمضان، ثم يعود إلى الرياض. هكذا كانت الخطة. 
يلتقي البراء بالمشرفة، ويفاجأ بمناقشته في صلب النتائج التي لم يكترث لدقتها كثيرًا. ترفض المشرفة المشروع وتقول أن نتائجه غير مقبولة، وتخبره أنها ستناقش بقية الدكاترة في القسم بشأن ذلك. ينسحب البراء وينتظر التوجيهات منها، ويلغي رحلته، ويخبرها بأنه سينتظرها بفارغ الصبر و[الكثير من التوقعات المتفائلة]. 
هكذا بدأت المعاناة، ألغيت رحلة السفر وبلا مردود مالي لأن أدنى حد زمني لإلغاء الرحلات قد فات (48 ساعة) وانتهى. 
إذن سيمكث هنا، ويمضي عيده وحيدًا بعيدًا عن أهله، جاهلًا بمصير مشروعه. 
تخبره الدكتورة بعد حين أن أمر المناقشة مشروط بفراغ الدكاترة من إجازتهم الطويلة. الجميع يريد قضاء عيد سعيد، فلم شغل النفوس وكد الأذهان بشأن طالبٍ مفرط؟ 
--
"قطعت جهيزة قول كل خطيب"
--
[3]
بعد فترة من اللعب والعبث والانتظار والتخيل، يفاجأ البراء برسالة من مشرفته. مشروعك مرفوض ونتائجه غير مقبولة لأنها غير منطقية، وقد رسبت في المادة، وليس أمامك سوى ثلاث خيارات: أن يمتد مقامك بالجامعة فصلًا إضافيًا، أو فصلين، أو تحمل المادة مجددًا في الفصل القادم. كلها مرة بلا حلاوة، قاسية بلا رحمة. ولا يمكن المفاضلة بينها إلا على سبيل اليأس التام والإحباط الشديد، وإلا فكلها مؤلمة كما تبين ذلك. وإن كان ثالثها أخف خيار فيها بالتأكيد. 
استجمع قوته ورفض الخيارات كلها وأبى إلا أن يعيد تنفيذ المشروع في إجازته التي قرر أن يقضيها بجميع دقائقها وثوانيها في سبيل الخلاص من مشروع التخرج هذا. 
قرأت الدكتورة الرسالة الطويلة، وربما أحست بروح التحدي فيها، أو روح من يحاول عبثًا اللعب في الوقت بدل الضائع، لا تهم هذه التفاصيل كثيرًا، فهي مطوية في سرائر النفوس التي لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى. 
--
"فلو كان سهمًا واحدًا لاتقيته *** ولكنه سهم وثان وثالث" 
--
[4]
التقى البراء يوم الجمعة بالمسؤولة عن المادة، وطلب منها تمديدًا لمهلة التصحيح. لقد تعهدت لنفسي أن أبذل جهدي خالصًا لتجاوز وعثاء هذه المادة ومتطلباتها الكثيرة، وليس في نفسي عزم ولا هم على العودة قبل أن أحصد ما أفتخر به. 
يجب أن تكتب خطابًا تطلب فيه التمديد، ويجب أن توقع عليه مشرفتك، وكذلك رئيس القسم (هل أوحت لك هذه التسمية بمركز الشرطة؟ لا تقلق فلنسمه department). 
كم يكفيني من الوقت لإتمام ذلك كله؟ 
كفى بك تسويفًا أن تنهيه اليوم. 
لا أقبله منك بعد الخامسة عصرًا، بل إنني قد أغادر قبل هذا الموعد، فتأهب وائتني بالخطاب موقعًا عليه من أصحاب الشأن. 
بنفسية قلقة مشحونة، يضرب أرجاء الكلية بحثًا عن رئيس القسم الذي اكتشف لاحقًا أنه قد أخطأ في اسمه ورسمه وصورته. 
يعلق الخطاب أمام مكتب مشرفته، ويمضي وقد علم أن الأمر منتهٍ. احتمال كبير ألا تقبله الدكتورة منه؟ بل لماذا تقبله وقد أمهلته يومًا فأخفق في ذلك؟ 
ولكن ثقة متوارية خلف غياهب المجهول، وتحت ركام الواقع المر، كانت تؤزه ليغدو للجامعة صبح الإثنين، فيستل ورقة الخطاب من مكتب الدكتورة، ويناولها رئيس الdepartment ليوقعها، ثم يسلمها مسؤولة المادة، وكأنها لم تحذره يوم الجمعة، وكأنها لم تؤكد له مرارًا ذلك اليوم أنه نهاية الزمان، وغاية الإمكان. ولكنه التغافل المحمود الذي يجعلنا نطرق جميع الأبواب متمثلين قول الشاعر: "أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته *** ومدمن القرع للأبواب أن يلجا". 
--
"خذ ما تراه ودع شيئًا سمعت به *** في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل" 
--
[5]
أين رئيس القسم لو سمحتم؟ 
ليس موجودًا 
إذن كيف لي أن أجده؟ 
تعامل مع سكرتيرته 
أهلًا، لدي خطاب تمديد مدة مشروع التخرج، وأود منه أن يوقع عليه
تفضل، أعطني رقمك لو سمحت، وسنبلغك حال ما نجد الرد
شكرًا
وبعد يومٍ وبضع يوم من المطل.
أين سكرتيرة رئيس القسم؟ 
ذهبت لتصلي، انتظرها
بعد دقائق
تعال، تفضل الخطاب 
وفي أسفل الخطاب، تقف الحقيقة عارية من أي ثوب وزينة، "لقد فشل الطالب، وعليه أن يحمل المادة مستقبلًا" هكذا لخص رئيس القسم قراره بحسم لا يثنيه التحدي الظاهر في الرسالة. 
ولكن البراء لم يقف عند هذا الحد رغم أنه يمثل النهاية التي ينبغي أن يخضع لها. 
طلب رقمه من زميله، وراسله مستفسرًا عن سبب الرفض، متغاضيًا عن الرفض نفسه، كما لو كان يقول للرئيس بشجاعة: ها أنا ذا برزت لك مجددًا، لأحارب بآخر حرف أنقره في كيبوردي. 
يحيلني على ذات المشرفة التي أحالتني على مسؤولة المادة التي بدورها طلبت مني جمع توقيعي الرئيس والمشرفة. فتم الدور واستغلق الأمر.
فاستدرك عليه البراء بقوله أن المشرفة قد وافقت، ثم حال بينهما الصمت. 
--
"إذا المشكلات تصدين لي *** كشفت حقائقها بالنظر"
--
[6]
وبينما يهضم البراء غذاءه صباحًا، إذ برسالة المشرفة تلفت انتباهه، وتوجه فكره نحوها، لديك 48 ساعة حتى يوم الجمعة مساءً لتسلم الرهينة، أعني مشروع التخرج. 
وانكفأ على لابتوبه ناقرًا لوحته محركًا فأرته ذات اليمين والشمال، بحثًا عن نتيجة تطمئن النفس إليها، وتنطفأ حرارة الشك والجهل بها. 
وفي يوم الجمعة المبارك، سلم البراء بحثه للدكتورة، وتناقش معها برهة من الزمان، واختطا مسارًا مختلفًا لنتائج البحث، مع بعض التعديلات على صيغته. 
راسل الexaminer الثانية وأخبرها أنك تريدها أن تصحح لك بحثك. 
حسنًا، سأفعل ذلك. 
تتفضل عليه الدكتورة لما رأت تأخره، وتمنحه مهلة ذهبية ليعدّل بحثه. 
في يوم السبت، تأخر البراء، وتأخرت الدكتورة، ثم تأخرت أكثر، فتعادلا في التأخر. 
سلمها البحث فشددت على الjustifying كانت هذه المهارة رغم ضآلتها وبساطتها غائبة عن ذهنه، بحث عن زميلٍ يساعده، فوقع على صديقه ح الذي حل مشكلته ببساطة. لم يأخذ الأمر أكثر من بضع دقائق، لتنتهي مشكلة استغرقت الكثير من المسودات. 
ثم أحاط البراء مسودته بجلد كثيف ليسلمها يوم الإثنين مضمنة توقيع الexaminers، فيوم الإثنين آخر يوم بالتأكيد. لم يكن يوم الجمعة، كما قد بدا للذهن. 
اقترب النصر، اقترب الفرج. 
إنها الeuphoria أخيرًا! 
--
"إذا تم أمرٌ بدا نقصه *** ترقب زوالًا إذا قيل تم"
--
[7]
ها قد جاءكم البراء يا أهل الكلية، بروحٍ يملؤها الحماس والثقة الكبيرة بانتهاء أزمة مشروع التخرج، والخلاص من عنق الزجاجة الذي علق في منتصفه. 
تعالي أيتها الexaminer، تعالي لنطلعك على فرائد البحوث، ونفائس العلوم، وخلاصة الأفكار والفهوم، حياك الله وتوقيعك الذي سيفتح مغلاقًا اشتد علينا كثيرًا. 
ولكنها تستغل ضيق الوقت الذي جادت به على الطالب المسكين لتقلب أوراق البحث يمنة ويسرة وفوقًا وتحتًا، وتوفق بين خطين تقاطعا ليقطعا كل بادرة أمل سبقت إلى النفس ذلك اليوم. لقد أمسكت بأطراف الكتاب فنفضته، وأسقطت ما بين سطوره من الكلمات والأرقام، وأبطلت صياغته، وقفزت بعد ذلك إلى النتيجة النهائية. يجب أن تعيد طباعة البحث مجددًا مع تلافي الأخطاء الفنية الكثيرة التي أشرت إليها بالقلم الأسود. أطل العنوان، واحش الفراغات بين الأقسام بمفيد الكلام عند النحاة حتى وإن كان لغوًا عند القارئ الكريم. 
أسقط في يدي البراء، وسقط قبلهما قلبه، وخرت نفسه من ذرى الآمال والخيالات إلى قيعان الواقع الموحشة. هبطنا من قمة المجد إلى قعر الذل والبؤس. 
لقد خسرت كل شيء. 
يتوسل إلى المسؤولة، لتخبره بأن النظام قد قضى قضاءه فلا قوة لها عليه إلا إن وافق أربابه. والدكتورة تأبى أن تمنح موافقة مبدئية يستطيع بها البراء أن يستجمع ماء وجهه وعزة نفسه مجددًا، ويصوب أخطاءه ويكفّر عنها بطبعة جديدة ترضي الدكتورة. 
ينام قليلًا في المصلى، وقد جثم الهم على صدره قبل أن يزيحه متوجهًا إلى إدارة الجامعة. 
"الحمد لله على كل حال"، "ليس لدي ما أخسره بعد الآن"، "فلأطرق هذا الباب، عله يسفر عن فرج قريب". 
توجه نحو مكتب الإدارة، وقد استحضر بعض مهارات الإقناع التي يعرفها. ولم يواجههم بغير الصراحة المباشرة. 
"أنا طالبٌ في سنتي الأخيرة [المفترض]، وأتمنى أن تمهلوني وقتًا لأنهي مشروعي. أخبرتني الدكتورة أن مفاتيح الأمر بيدكم، فهلا تفضلتم علي بفتح المغلاق؟"
"لا بأس، أخبر دكتورتك أن تتصل بنا لنفتح النظام، أمهلناك إلى الخميس، فاستغل وقتك، فلا مهلة بعد ذلك."
ينطلق وقد تحررت روحه من غل الإحباط الذي كسر إرادتها وأركسها لحزنٍ عميق وبغض لتلك الدكتورة التي لطالما تجاهلت رسائله كما لو كان متسولًا لحوحًا. 
--
"رب يوم بكيت منه فلما *** صرت في غيره بكيت عليه"
--
[8]
كان الدوام رغم عبئه وكثرة الواجبات والمحاضرات التي نفهم نصفها بنصف ذهن، ويفسد نصفها نصف الذهن الباقي، أخف وطأة وحالًا من دوام الإجازة الذي اكتنفه ضغط شديد، ووحدة في كلية موحشة إلا من بعض طلبة الماجستير هنا وهناك. وزاد الشقاء شقوة وبلاءً أن واجهت دكتورة تقطع بصمتها المريب كل سبيل للتواصل الأكاديمي الذي أحتاجه، وتجدد لي في كل مسودة أخطاء ضل عنها قلمها في المرة الماضية.
لم أكن أحسب الرينجتات (العملة الماليزية) التي تخرج من يديّ كلما هممت بالطباعة، ولكنني أتحسس أثرها لأنها مال محدود لا قِبل لي بزيادته الآن.
ومع تراكمات الضغوط والأعباء، بدت الغلطات الصغيرة أسواطًا تستفحل بها جراح النفس وتُنكأ بعد أن تجلطت.
طبعت عدة أوراق، وتهيأت لطباعة غيرها، كنت أطبع بعض الأوراق ملونة والأخرى بيضاء وسوداء توفيرًا للمال واستجابة لدواعي العقل التي لا تغرر النفس لتقدم على عملٍ لا طائل من ورائه.
كانت الصدمة كفيلة بإعادة موجات التوتر إلى النفس، لقد طبعت الأوراق الملونة بحبر أبيض وأسود، كانت حماقة صغرى يمكن تجاوزها لولا أن سياق اللحظة لم يسمح بذلك. كيف تقع في غلطة كهذه وأنت تطبع بحثك؟ ما هذه التفاهة التي شغلت ذهنك وقتها وأنت تهيئ الأوراق للطباعة؟
ولولا لطف الله وتخفيف إحداهن وقتها، لانجرف في سيل من السلبية القاتلة.
--
"أبعين مفتقرٍ إليك نظرتني *** فأهنتني ورميتني من حالقِ
لست الملومَ أنا الملومُ لأنني *** علقت آمالي بغير الخالقِ"
--
[9]
ها قد أتى يوم الخميس، "السعد وافانا"، إننا بإذن الله منتصرون.
انطلق إلى الجامعة مبكرًا في باصها والأمل يحدوه، وتدفعه ثقة بالنصر والتأييد.
يتمنى لو يصل بروحه إلى مكتبها قبل أن يحمله جسدها، إنه الحماس البالغ.
ما الذي يجري؟ لقد تأخرت الدكتورة، لا بأس. إلى مكتب الإدارة، سأستلم ورقة صديقي ح.
المكتب مغلق أيضًا، همم لا بأس. إلى معمل الكمبيوتر. إنه موصد أيضًا.
ويظل متجولًا في حلقة محكمة الإغلاق وهي كلية الهندسة.
تمر الساعة تلو الساعة، ولا دكتورة ولا إدارة، وقد بلغ توتر البراء غايته القصوى.
بدأت ثقته بالخلاص تتلاشى شيئًا فشيئًا، إنه محبطٌ من هذا الواقع الذي لا يحترم ذاته ولا يضع اعتبارًا لإنسانيته.
لست طالبًا للعلم والمعرفة هنا، بل وظيفتك هي طاعة الدكاترة في كل ما يقولونه وعدم الاعتراض عليهم وانتقادهم.
من حقهم أن يتأخروا عليك، من حقهم أن يماطلوك، من حقهم أن يعاملوك وفقًا لأمزجتهم المتقبلة، من حقهم أن يتلاعبوا بوقتك تلاعب الصبيان بالكرة، ومن حقهم قبل ذلك كله أن يرفعوا أنوفهم نحو السماء إزراء بك.
--
"هم وغمٌ حيرةٌ وتوجعٌ *** في دارنا ومصائبٌ تتدافعُ"
--
[10]
تصطدم ثقة البراء بيوم آخر ثقيل على النفس، ولكنه آخر يومٍ للتسليم. لقد كان ضغطه شديدًا لا يمكن احتماله، فهو اليوم الأخير، كما أنه لم يسبق بما يبشر بالرفض والخسارة وخيبة الأمل.
تتحطم هذه الثقة وتتناثر ككرات الثلج التي ارتطمت بصخرة قوية، وتشتد كربته لتبلغ ذروتها التي لم يتخيل إحساسها يومًا.
يزداد الضغط، يولّد الانفجار، ولكنه انفجار من نوع آخر.
لقد دمعت عيناه، لقد انكسر أخيرًا، ولكنه توجه باعوجاجه إلى السماء.
علم أن خالقه لن يضيعه ما دام ملتجئًا إليه، رفع كفيه إلى السماء التي يحجبه عنها سقف اسمنتي ولهج بالدعاء لدقائق.
ثم غسل وجهه، وانطلق ساعيًا إلى مكتب الإدارة، وأصر على أن ينهي معاملة صديقه أولًا.
--
"عسى الكرب الذي أمسيت فيه *** يكون وراءه فرج قريب
فيأمن خائف ويفك عانٍ *** ويأتي أهله النائي الغريب"
--
[11]
لقد تهللت روحه وانفرجت أسارير وجهه لما تمت معاملة صديقه على الوجه الذي يحبه ويرضاه، فأقبل على القسم يمشي مسرعًا ليدرك روح الدكتورة في مكتبها.
وقد أدركها، ومنحته توقيعها الذي استعصى عليه حتى كاد أن يستحيل ويمتنع.
حمد الله كثيرًا، وسجد لله شكرًا على نعمه الغزيرة وآلائه الجسيمة.
--
استفاد البراء كثيرًا من مر هذه التجربة القاسية، وعلم أن الله كافٍ عباده المؤمنين، وأنه لا يخلو أحدهم من بلاء يكفر به السيئات، وعرف أن إدراك طباع الدكاترة مهم قبل الإقبال عليهم.
وتعلم أن الفرص إذا ذهبت لا تعود، وأن التسويف ما أتى بخير يومًا ما.
وأدرك أنه لا ضمان في دار التقلب والشك.
وعرف قبل ذلك أن الله يفتح مئات الأبواب للناس إن سعوا في طرقها وفتحها.
وأنه أرحم بهم من أمهاتهم.
فلك الحمد يا الله على كل نعمة ورحمة.
--
البراء بن محمد
ليلة الجمعة وصبيحتها 1438/10/27هـ
2017/7/21م
 --
ملحق:
كلمات البراء بن محمد بعد زوال الكرب:
الحمد لله مفرج الكربات، ومزيل الهموم، والصلاة والسلام على نبيه الكريم الذي علمنا الالتجاء إلى الرحمن الرحيم في أوقات الشدة والبأس، وإن كانت حاجتنا إليه باقية دائمة ما تردد نفس في صدورنا، وتحرك دم في عروقنا.
الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه.
الحمد لله الذي لطف بعباده المؤمنين، وابتلاهم بالنعم ليشكروه، وبالنقم ليصبروا ويرضوا بقضائه.
الحمد لله الذي غرس اليقين والطمأنينة في قلوبنا وقت الشك والريب، وربط عليها بالعزيمة والصبر في وقت الخور والضعف، وأغناها عما سواه في وقت الحاجة والفقر.
اللهم لك الحمد على أن خلصتني من معاناة دامت شهرًا، وكان قهرها وبأسها دهرًا في طوله وانقطاع الأمل منه.
لك الحمد يا الله أن رحمتني وتقبلت دعائي، فازداد يقيني بك وبموعودك للصالحين.
اللهم اكتب لي أجر الصبر، وارزقني لذة الانتصار، وأدخلني مدخلًا كريمًا يوم لا ينفع مال ولا بنون.
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
سيظل هذا اليوم ذكرى خالدة في النفس، ويكون وقودًا للعمل الدؤوب النافع في قابل الأيام.
الخميس
1438/10/26هـ
2017/7/20م
..

الاثنين، 6 مارس 2017

نصب الدلائل على أن الزنا من أقبح الرذائل

بسم الله الرحمن الرحيم
-
قال الله تعالى: ((ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلًا)) [الإسراء/32].
وفي حكاية الثلاثة الذين انطبقت عليهم صخرة الغار كما في الحديث الصحيح: ((فلما قعدت بين رجليها قالت: يا عبدالله! اتق الله، ولا تفض الخاتم إلا بحقه)) [رواه البخاري/3465].
قال الإمام الفخر الرازي رحمه الله: "إذا انفتح باب الزنا فحينئذ لا يبقى لرجل اختصاص بامرأة ، وكل رجل يمكنه التواثب على كل امرأة شاءت وأرادت، وحينئذ لا يبقى بين نوع الإنسان وبين سائر البهائم فرق في هذا الباب"(1).
قال الإمام القفال الشاشي رحمه الله: "فلا خفاء في العقول بقبح الزنا وحسن النكاح" (2).
-
إهداءٌ إلى روح الإمام الفخر الرازي رحمه الله الذي قال في تفسيره: "الذكورة مظنة الفعل، والأنوثة مظنة الانفعال". وكانت مقولته وقودًا للكتابة، وشعلة إلهام لي، وكلمة جامعة لمطلوب الفطرة ومقتضاها في الجنس والنكاح. بل لو اكتفيت بها عن تبيان مقصدي في الفقرة الثانية من المقال، لكانت كافية وزيادة.
وقد سررت سرورًا بالغًا لما عدت إلى تفسير الإمام وحديثه عن مفاسد الزنا، فوجدت أن بعض خواطري وأفكاري قد وافقت مدلول كلماته التي لخصتها ببراعة وبلاغة ظاهرة. فرحمه الله وغفر لنا وله، وجمعنا به في جنات النعيم.
-
الحمد لله الذي تفضل على عباده بنعمة الجنس التي زاد بها نسلهم، واشتدت أواصر حبهم، وانعقدت مودتهم، وحصل التراحم والتلاحم بينهم. فكانت لذة كبرى وحاجة ضرورية لا ينفك عنها الإنسان ما دام إنسانًا. وهي من النعيم العاجل الذي يتقيد بالحلال والحرام، والثواب والآثام، والنعيم الآجل الذي لا يتلذذ به إلا المؤمن الصابر الذي يعقل نفسه عن اتباع شهواته وتقديمها على ما سواها.
أما بعد،
فهذه مقالة موجزة في البرهنة على أن قبح الزنا (3) مما يدركه العقل الصحيح المتجرد عن الهوى، والفطرة السليمة التي تقتضي معرفة الحق والعمل به. وهي تذكيرٌ لمن انطمست بصيرته فسوّى القبيح بالحسن، وخلط الحق بالباطل، وقدم المرذول على الفاضل.
وفيها ردٌ على من احتقر النكاح وقال بأنه مجرد ورقة لا قيمة لها.
فاللهم يسر وأعن.
-
وقبل الشروع في إزالة الغشاوة عن العقل والمانع عن الفطرة، فإنه يحسن أن نستبعد بعض أنواع الجنس لقبحها. وذلك لنثبت أن جنس الفاحشة في الإسلام شرٌ مستقذرٌ يتلازم قبحه بحيث لا ينفصل بعضه عن بعضٍ فينعدم أو يقل.
فقد دلنا الواقع على أن الرجل يواقع المرأة والرجل والصبي الصغير والبهيمة، كما تشتد نزوة المرأة فيواقعها الذكر أو تعاشرها المرأة جنسيًا. فإذا ثبت أن بين هذه الأنواع قدرٌ مشتركٌ من اللذة والمحبة التي تسبق الفعل أو تقارنه أو تتبعه، كان تخصيص بعضها بالذم لهذه العلة ممتنعًا عسيرًا. فلزم البحث عن علة أخرى تخصص أحدها على البقية.
والضرر محتمل الوقوع في جميع هذه الأقسام، وإن كان متفاوتًا فيما بينها، والبحث فيه ظنيٌ في الغالب. فوجب البحث عن علة أخرى.
ولما رأينا أن جماع المرأة مفضٍ -بإذن الله- إلى تولّد الجنس البشري، وتكثيره، وهي ثمرة كبرى عظيمة، صحّ أن نميزه عن غيره من النشاطات الجنسية. فشرف جماع المرأة بشرف ما تنتجه بعدها.
وكان هذا الكمال المختص بجماع النساء مرجحًا له عن غيره من أنواع الجنس التي لا تُطلب لغير اللذة والمتعة.
فثبت بطلان هذه الأقسام لعبثيتها أو لقبح بعضها في العقول السليمة (ممارسة الجنس مع الأطفال).
-
من العلم الضروري المستقر في العقول أن الجماع وتوابعه ومقدماته من الجنس فعل يكون ابتداؤه إرادة من الذكر وقبول من الإنثى، فالفاعل الذكر، والمفعول به الأنثى. كما قال الإمام الفخر الرازي رحمه الله: "الذكورة مظنة الفعل والأنوثة مظنة الانفعال" (4).
فيُنسب فعل الجنس إلى فاعله ابتداءً وهو الذكر، دون أن يقتضي ذلك عدم مشاركة المفعول به في التأثير، فهو محل قابلٌ لولاه لما أثمر الجنس وانطفئت الشهوة. فالتذاذ المرأة بالجنس لا يلغي نسبة إيقاعه إلى الذكر غالبًا. فلما كان الجنس بأفعاله وأقواله مفتتحًا بأفعال الذكور، صح أن يكون الاختصاص به منسوبًا إليهم دون الإناث. ففعل الذكر الجنسي واقعٌ إما بالقهر والغلبة أو بالمسايسة والملاطفة، وهذا خلاف الفعل الأنثوي الذي يقع غالبًا بتزيين المحل لمن يريد وقاعه، وجذبه له، وإغراؤه به. فتتزين المرأة للرجل لتعجبه، وتدعوه إلى جماعها فتواطؤ لذته -التي يوقعها بفعله- لذتها. وابتداء المرأة ببعض مقدمات الجنس كالقبلة والضم مثلًا لا يقتضي اختصاصها بالفعل الجنسي، إذ أنها أفعالٌ مرادةٌ منها لتمهيد وطء المحل برضاها ولذتها وسرورها. وقد تقرر بأن وطء المحل فعلٌ مختصٌ بالذكر. واللغة نفسها قاضيةٌ بذلك، فنحن نقول: جامع الرجل المرأة، ولا نقول: جامعت المرأة الرجل. ومن ثم، فالذكر يختص بجسد الأنثى والعكس غير صحيح. على أن الأنثى تختص بقبول فعله حصرًا دون غيره من الذكور.
فيقال اختصارًا: الجنس إما جماعٌ أو ما يؤدي إليه من أفعالٍ تشبع قدرًا من شهوة الإنسان، والجماع فعل يفعله ذكرٌ في أنثى. وما أدى إليه من فعلٍ فإما أن يقوم به ذكرٌ ليجامع أنثى، أو تقوم بها أنثى ليجامعها ذكر، ويتبادلان ذلك ليجامع الذكر الأنثى. واتحاد النتيجة التي تقع بفعل الذكر يرجح تبعية إرادة الأنثى لإرادة الذكر. فالذكر يقدّم للجماع لتوافق إرادة الأنثى إرادته فيتحقق كمال الجنس بينهما، والأنثى تقدّم للجماع لتقع إرادة الذكر على الوجه الذي تحبه وترضاه. وهو كمالٌ إضافي لا يقتضي عدمه عدم الجماع. فصح اختصاص الذكر بإيقاع اللذة (غالبًا) والجسد الذي تقع فيه.
ويتبين هذا بوجهٍ آخر أقول فيه: في الجنس تلقيحٌ ولذة، وكلاهما محتاجان لفعل الذكر، فلما صح ابتداؤهما به، صحت نسبتهما إليه واختصاصه بهما. ولو كانت الأنثى محلًا قابلًا للّذة دون التلقيح لشاركت البهيمة والذكر والطفل في ذلك دون امتياز وفضل. فلما تميزت بالتلقيح واللذة، وكان ابتداؤهما واختصاصهما عائدًا للذكور، جاز أن يقال أنهم يختصون بذلك المحل دون عكس.
وها هنا وجه أخير: قد أجمع العقلاء على قبح إكراه الرجل امرأة -لا تحل له- على الجماع. واصطلحوا على تسميته بالاغتصاب. وهو فعل الجماع بالإكراه. وفاعله إما الذكر أو الأنثى أو كلاهما معًا. والثاني ممتنع عقلًا، والثالث يقتضي عدم تجريم الاغتصاب أو لوم الفاعل والمفعول به على حد سواء. فلا يصح لوم الرجل على الاغتصاب إلا بإثبات اختصاصه وحده بفعل الجنس.
-
قد دلت العقول السليمة على قبح تصرف العاقل فيما لا يختص به، فهو ظلم وعدوان. ومن ثم فإن جسد المرأة إما أن يختص بالرجل الواحد أو لا يختص به، والثاني مقتضٍ لامتناع الجنس (حيث ينتفي اختصاص الرجل بجسد المرأة مطلقًا) أو اشتراك غيره معه في وطء المحل (حيث يكون الجسد حقًا مشاعًا لكل الرجال دون أن يختص به أحدهم بعينه). ومعلومٌ أنه يستحيل تقسيم جسد المرأة وتفصيله مع بقاء وجوده مجتمعًا كتقسيم العقار بين الشركاء، بل لو افترضنا أن أحدهم اختص بعضو دون الآخر، لما كان بعيدًا أن تستبد به شهوته فيعدو على ما يختص به غيره (5). ويشتد امتناعه في العقل بعد العلم بلازمه وهو أن تكون كل النساء مختصات بكل الرجال، فيستوي النكاح، والاغتصاب، والمداعبة، والتحرش. فيسقط الاحتمال بذلك .
فثبت وجوب اختصاص الذكر الواحد بجسد الأنثى ليصح منه الجنس على وجهٍ لا يصير به الظلم، ثم هذا الاختصاص إما أن يحصل بمجرد توافق إرادتي الذكر والأنثى أو لا يحصل به أو يحصل باجتماعه وغيره [بحصول التوافق وغيره]. والأول مفضٍ لشرعنة الخيانة الزوجية، إذ يزول اختصاص الزوج بزوجته متى ما وافقت إرادتها إرادة غيره، والعكس صحيح في الزوج. كما أنه يفضي لاشتراك الرجلين والثلاثة وما فوقهم في المحل الواحد، وهو ممنوع كما تبين سابقًا. والثاني مفضٍ لتشريع الاغتصاب والتحرش. والثالث يرفع شناعة الاحتمالين السابقين.
ويقال زيادة في التوضيح والبيان: اختصاص الرجل بجسد الأنثى إما أن يحصل بلا شرط أو بتوافق الإرادتين بلا شرط آخر أو بتوافقهما بشروط. فالاحتمال الأول يبيح الاغتصاب كما هو ظاهر. والثاني يبيح الخيانة الزوجية، ويفضي إلى تعدد المختصين بالجسد الواحد، ولا يمكن حصر التعدد إلا بإضفاء شرط على محض التوافق. وتعدد المختصين يناقض ما قررناه ضرورة من أن جسد المرأة لا يختص بغير رجل واحد. والثالث ليس فيه محذورات الاحتمالين المذكورين.
والشرط الإضافي الذي يغاير محض توافق الإرادتين ويصح به الاختصاص، هو التزامٌ برعاية الاختصاص وإدامته. فمجرد توافق الإرادتين يجعل الاختصاص مؤقتًا يزول بتوافق إحداهما مع إرادة مغايرة. ولا يدوم هذا الاختصاص ويُرعى على وجهه الصحيح إلا بحقوق وواجبات تثبت للطرفين. وتفصيل ذلك فيما يأتي.
 لما دلت دلائل الحس القاهرة على تماثل الطبع الذكوري الذي يشتهي ما يختص به من الأجساد وما لا يختص به، دلت كذلك على حصول الغيرة من الرجال ليمنعوا من لا يختص بنسائهم من أن يتصرف بأجسادهن كما يهوى.
ولما تصفحنا الواقع وجدنا أن ما بطن من الشعور كان له مقتضيات في الخارج بحسب قوته وشدته. وذلك معلومٌ بالبداهة. فلا تشتد محبة الإنسان أو بغضه أو فرحه أو حزنه دون أن يفعل ما يوافق هذه المشاعر. فلما كانت الغيرة شعورًا باطنًا قويًا، كان ظهورها أدعى لظهور مقتضياتها. وظهرت مقتضيات الغيرة في صيانة الرجال نسائهم من أن يواقعهن من لا يختص بأجسادهن. وحصلت الصيانة باستدامة الجنس والرعاية والأقوال والأفعال الدالة على المحبة. فكان من حق المرأة على الرجل أن يتعهدها بالرعاية والمحبة والنفقة وصيانتها لئلا تميل إلى غيرع فتكون محلًا قابلًا لما لا يختص بها، فيشترك -بإهماله- معها في الظلم.
وكان من حق الرجل على المرأة أن تحافظ على ما يختص بهما من فراش، ولا تدعو غيره ليشترك معهما فيه.  وكان من مقتضيات هذا الحق ألا تتبذل لغيره في الكلام أو الفعل لئلا يدعوه ذلك لوطئها. وأن تبذل وسعها في التقرب إليه، كما يبذل وسعه في التقرب إليها.
وثبوت هذه الحقوق والواجبات متوقفٌ على التزامٍ مبدئي من الرجل باعتباره الفاعل المختص، وقبول لهذا الالتزام من الأنثى باعتبارها المفعول به الذي هو محل قابل للاختصاص.
ولما كان الفعل أظهر من القول في بيان شدة الالتزام، كان على الرجل أن يبذل للمرأة مالًا(6) أو ما في حكمه، ليؤكد جديته وعزمه على الاختصاص بها. والأصل في الاختصاص أن يدوم لا على وجه التأقيت الذي يزول كما في الدعارة، ومن ثم فلا وجه للتعكير عليه بتشبيهه بالدعارة.
ولما كان الالتزام بإدامة الاختصاص خاليًا من العيب والنقص، كان إظهاره أولى من إخفائه لعدم دواعي الإخفاء من العيب والنقص. وكان علم الناس بذلك واجبًا لئلا يطمع أحدهم في الاختصاص بامرأة التزم أحدهم بالاختصاص بها ووافقته على ذلك.
ولما كان الالتزام محتاجًا إلى مرجع يحتكم بموجبه الطرفان عند التنازع والاختلاف، كان من الضروري حفظه مسطورًا في عقدٍ مشهودًا عليه من الكافة. والعقد يسري عليهما ما لم يطرأ ما يناقضه أو يتعذر قيامهما أو قيام أحدهما بحقوق الآخر مع عدم الرضا والتنازل. فيفسخه الرجل أو المرأة بتفصيل بينه الشرع الحكيم. 
والناس يسمون الاختصاص السابق بالنكاح أو الزواج. ويجوز أن يتعدد من الرجل، لأن الرجل يختص بجسد المرأة، والعكس غير صحيح. والمرأة تختص بالفراش الذي بينها وبين الرجل، فلا تنقضه بافتراش نفسها لغيره، ولا ينقضه الرجل بأن يفترش غيرها ممن لا يختص بها. وقد صح اختصاص الرجل بامرأتين فصاعدًا لأنهما محلان مختلفان، بخلاف اختصاص المرأة برجلين فصاعدًا لأنها محل واحد لا يقبل الاشتراك كما بينا سابقًا.
ثم معرفة تفاصيل النكاح راجعة إلى الشرع الذي أنزله الله متوافقًا مع فطرة الإنسان السليمة وعقله الصحيح. وإنما يختص العقل والفطرة بإدراك حسن النكاح وقبح الزنا مجملًا، وهو ما أردت بسطه وتفصيله فيما كتبته آنفًا. ويُطْمس نور الفطرة باتباع الهوى الذي شاع بين الناس فأعماهم عن الحقائق الجلية. ويحصل اتباع الهوى بموافقة الجماعة على اتباع الباطل والعمل به، وتقديم اللذة الشخصية المؤقتة على الحق عند تعارضهما.
أما وقد قال بعض العقلاء استهزاءً بالنكاح أنه مجرد ورقة لا تنفع أو تضر [كناية عن عقده]، وتبين أنهم قد وافقوا بذلك المزاج العالمي المغرق في الشهوات والرذائل، فقد وجب أن أذكرهم ببعض دلالات العقل اليقينية على بطلان الزنا وما يتعلق به، وأنه جنس شرٍ لا خير فيه حتى لو كان بالتراضي. فمن أصر على التفريق بين أنواع الزنا على أساس التراضي، فليعلم أنه سيتناقض مع نفسه حيث يجب أن يطرد في إباحة الجميع، بما في ذلك الاغتصاب والخيانة الزوجية ومقدماتهما.
-
وها أنا ذا أسرد اعتراضًا محتمل الورود على الأذهان بعد قراءة ما سطرته من الحجة والبرهان:
سلمنا جدلًا بأن الجنس فعلٌ مشترك بين الذكر والأنثى، يفتتحه الذكر بإرادته ويقع منه مغالبةً أو مسايسة فصحت نسبته إليه، واختصاصه به حصرًا دون الأنثى. ولكن ما تقولون في الحب بمراتبه المتفاوتة قدرًا وجلالة؟ أو لسنا نرى في الشاهد اشتراك الذكر والأنثى في الحب على نحوٍ يتعذر معه نسبة أصله إلى واحدٍ منهما بخلاف الجنس؟ كما أن الزواج ليس شرطًا كافيًا لديمومة المحبة والمودة بين الزوجين، بل كثيرًا ما نرى الزواجات التي يرتفع عنها الحب والمودة، لتحل محلهما الرتابة والفتور والبال المكدور والقلب المهدور. وما أكثر ما نرى أو نسمع من أحوال العشاق والمحبين الذين دام حبهم واستمر آجالًا طويلة وأزمنة مديدة دون أن ينكح أحدهما الآخر. فما ثمرة الزواج وليس فيه ما يضمن دوام الحب حقًا بين الذكر والأنثى؟
أفلا تكون علاقات الحب خارج قفص الزواج وإطاره خير بديلٍ لهذا القيد الثقيل؟
لم لا يصح في العقل والفطرة أن يحب الذكر الأنثى بعفوية وخفة روح تبتعد بها عن تسلط المجتمع وثقله على الأفراد؟
-
وهو اعتراضٌ أصله الباطل الذي لا قرار له (7) في نفوس طالبي الحق، وذلك من وجوهٌ متعددة:
1- من اعوجاج الفكر أن يصف العاقل المختلفات بما تشترك به فيجعله مميزًا لها عن بعضها. وهو ترجيحٌ بلا مرجح وتفريق بغير مفرق. ومن ذلك وصف العلاقات التي تحدث خارج إطار الزواج بأنها (علاقات حب). ذلك وأن الحب ليس مميزًا لها عن الزواج، وإنما هو قدر مشتركٌ بينهما في الحقيقة. فاستخدام اللفظ في هذا السياق مصادرةٌ لا تغتفر، إذ أنه يوهم اختصاص هذه العلاقات بحبٍ يكون أعظم من حب الزواج بحيث يصح تمييزه عن الحب الذي يقتضيه الزواج. وهي دعوى عارية عن البرهان. ومن ثم، فلا تصح المقابلة بين الزواج وغيره إلا بوصف غيره بأنه علاقةٌ خارج إطاره. وتسميتها بعلاقات الحب أو الصداقة فيه تلبيس لفظي.
2- قد شاعت أخبار المحبين بين الأمم، واستفاضت أشعارهم وأغانيهم على نحوٍ يحصل به اليقين. وكان مما اشتركت به هذه القصص التي تكررت كثيرًا دون تواطؤٍ عليها أن كانت الرغبة إلى النكاح غاية يتوق إليها المحبان، ويسعيان في تنجيزها برغم ما يكابدانه من مشاق وآلام. فلما اتُخذ الحب سبيلًا للنكاح والوصال، وانعدم طلب حبٍ خارج الزواج بعد الزواج، دل ذلك على أن النكاح غاية كبرى من غايات الحب. وكمالٌ من كمالاته. فكان سعي المحبين للنكاح على اختلاف بلدانهم وأعراقهم وأديانهم مع توافر دواعي الزنا منذ فجر البشرية دليلًا فطريًا على كمال النكاح وفضله على الزنا.
3- لا عاقل يقول بأن كل زواجٍ مفضٍ إلى تمام الحب والمودة بين الزوجين، كما لا يصح أن يقال أن كل علاقة خارج الزواج مفضية إلى تمام الحب والمودة. فالواقع مخبرٌ عن كثير من عواقبها الوخيمة التي تنوعت بين فجورٍ في الخصومة واعتداءٍ وابتزازٍ وإفساد المزاج والنفس. فإن صح ذم الزواج لأن زواجات بعضهم قد تخللها الاعتداء والظلم والعدوان، فما كان خارجه أولى بالذم لاشتراكه في نفس العلة. فثبت بذلك أن ذكر العلاقات خارج الزواج على النحو الذي تخفى به أضرارها الواقعية هو من التفكير الرغبوي المقيت. بل قد يقال أن النكاح يدعو لتقليل أضرار الاختلاف والتنازع بين الرجل والمرأة بخلاف الزنا كما في الوجه القادم.
4- في الزواج ضمانٌ لحقوق الطرفين، بإمضاء عقدٍ مشهودٍ بينهما يسري عليهما حتى يفسخه أحدهما عند قاضٍ عدل. وذلك مناقض لأي علاقة خارج الزواج، حيث تنتفي الحقوق والواجبات وتحل محلها الظنون والتوقعات. وهذا مُشاهدٌ معلومٌ لا ينكره أحد. فليس فيما يخرج عن الزواج إلزامٌ لأحد الطرفين بأداء حقٍ لآخر. ولو حدث أن ظلم أحدهما الآخر ظلمًا بينًا فيما يشذ عن نطاق قوانين المجتمع والقضاء، لما وجد من ينتصف له منه. بل لو لحقه ظلمٌ يخالف قوانين القضاء وأنظمته لما وجد فارقًا بينه وبين غريبٍ يمشي في الشارع.
نعم قد تبيح بعض شرائع الدول الزنا وتجعله علاقة معتبرة بوجه من الوجوه، ولكن هذا لا يتم إلا بقياسه على الزواج لمعرفة الحقوق والواجبات. فالزواج أصل أبدًا بخلاف الزنا.
بل لا يبعد أن يقال أن الفواحش بأشكالها المختلفة قد تؤدي إلى البغضاء والشحناء والظلم والكراهية، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "والناس إذا تعاونوا على الإثم والعدوان أبغض بعضهم بعضًا، وإن كانوا فعلوه بتراضيهم" (8).
ويقول بعد ذلك بقليل: "كالزانيين كل منهما يقول للآخر لأجل غرضك فعلت معي هذا. ولو امتنعت لم أفعل أنا هذا؛ لكن كل منهما له على الآخر مثل ما للآخر عليه؛ فتعادلا.
ولهذا إذا كان الطلب والمراودة من أحدهما أكثر كان الآخر يتظلمه ويلعنه أكثر، وإن تساويا في الطلب تقاوما" (9).
5- لا ريب أن قيد الزواج وثقله الشديد راجعٌ إلى المسؤوليات الملقاة على كاهل طرفيه. ومن ثم، فإن العقل الصحيح المتجرد عن سلطان الهوى يحكم بكمال من يحب ثم ينكح محبوبته ويفضّله على من يحب ثم يتقاعس عن النكاح ويتقهقر بغير موجبٍ لذلك. فالأول مسؤول يؤكد ثقة المرأة وأهلها به، ويضمن لهم بما بذله من جهد أنه سيرعى حرمة الميثاق الغليظ بينهما جيدًا. بخلاف الثاني الذي يتهرب عن تحمّل تبعات حبه ومودته لتصبح أقوالًا مفرغة من المعنى والبيان.
6- النكاح بيئة خصبة لنمو الحب وازدهاره بين الرجل والمرأة. وذلك لما يختص به من حدود دقيقة تفصل بين الحقوق والواجبات وتحقق معنى العدل، وتترك للعقل مساحة التفكر في الإحسان الذي يزيد عليه. بخلاف العلاقات التي تخرج عنه إذ لا تختص بمعيارٍ واضح توزن به الحقوق والواجبات على النحو الذي تنتفي به العبثية والاعتباطية والارتجال لغير معنى. وأخطاء المتناكحين لا تعود على هذا التقرير بالنقض. إذ أنها راجعة لعدم ملائمة الزوجين لبعضهما  البعض أو التقصير في الحقوق والواجبات. وهذا ينفي النقص عن ماهية النكاح؛ ليثبت [النقص] لمن يتناكحون.
7- لما ثبت أن ما خرج عن النكاح من جنسٍ وحبٍ لا يخصص جسد المرأة [الحرة] (10)، ثبت بذلك أن الغيرة المتعلقة به عبثٌ لا محصّل له بخلاف الغيرة الزوجية التي تكون في محل الحق دون الباطل. فليس لمن تعلق بامرأة ولم ينكحها أن يغار ممن يشاركه جسدها إلا بنوع قياس فاسدٍ [على النكاح] يجعل فيه محبته إياها علةً لاختصاصه بها، رغم إمكان اشتراك الناس معه فيها.  
 8- أن شهوة الجنس مرتبطة ارتباطًا شديدًا بالحب، بحيث دلنا الحس وخبر الناس على أنه لم يحب رجلٌ امرأة دون أن يشعر بلذة حسية تتعلق بجسدها وافتعال الجنس معها. وهو ظاهرٌ في كثيرٍ من أشعار الغزل وأدبه (11). فلما بطل الجنس مع من لا يختص الرجل بهم، كانت موافقة الطبع المائل إليهن وتقويته باسم الحب والغزل عبثًا ظاهرًا حقيقًا بالذم لكونه داعيًا للجنس وغيره. ومن زعم أنه يحب امرأة دون أن يشعر تجاهها بميلٍ جنسي فقد أبلغ في الكذب ومكابرة ضرورة الحس!
9- أن الحب شعور متغيرٌ شديد التفاوت يزيد تارة وينقص تارة أخرى، فلا يصح أن يكون معيارًا منضبطًا للاختصاص الجنسي بجسد المرأة، إلا لو قيل بأن الاختصاص يتفاوت بتفاوت الحب. وفي ذلك تجويزٌ ظاهرٌ للخيانة الزوجية.
10- أن النكاح مظنة تكريم المرأة واحترامها وتوقيرها. فالزوجة تزيد درجاتٍ ومراتب عن العاهرة والزانية بتحمل مسؤوليات المنزل، وإعانة الزوج، وإنجاب الأطفال، ورعايتهم، وتربيتهم، وإدامة الحب والمودة. فإن قيل بأن بعض الزانيات يشاركنها في بعض ذلك أو غالبه، قيل بأن العبرة بحقائق الأوصاف والمعاني لا محض تشابه الظواهر. فالزواج من حيث هو يقتضي كل ذلك، والزنا من حيث هو لا يقتضي كل ذلك. فالزنا فيه تأكيد على أن المرأة أداة جنسية لإشباع غريزة الرجل. وهو لفظٌ يشمل الدعارة والاغتصاب والجماع الذي يكون بالتراضي. وهو متعلقٌ بصلاحية المرأة للتمتع الجنسي وشيءٍ من التمتع العاطفي وحسب. والزنا مظنة الإجهاض أو إلقاء الأطفال إلى الشوارع المجهولة وحرمانهم حنان الأمومة والأبوة.
وللإمام الفخر الرازي رحمه الله نص نفيس في تقرير هذا الوجه، أنقله كما هو. يقول الإمام: "أنه ليس المقصود من المرأة مجرد قضاء الشهوة بل أن تصير شريكة للرجل في ترتيب المنزل وإعداد مهماته من المطعوم والمشروب والملبوس، وأن تكون ربة البيت وحافظة للباب وأن تكون قائمة بأمور الأولاد والعبيد، وهذه المهمات لا تتم إلا إذا كانت مقصورة الهمة على هذا الرجل الواحد منقطعة الطمع عن سائر الرجال، وذلك لا يحصل إلا بتحريم الزنا وسد هذا الباب بالكلية" اهـ (12).  
11- أن الزنا (الذي هو جنسٌ وحبٌ خارج الزواج) فيه إفسادٌ لطبع الحياء الذي تمتدح المرأة به خاصة دون الرجال. والمرأة بفطرتها تدرك أنه ليس كل أحدٍ مستحقًا لجسدها مهما بذل لها رخيص الكلام والود. وهي وإن كانت تتبذل في لباسها وتتبرج على نحوٍ يخالف هذه الفطرة، إلا أنها تضبط قولها وفعلها فلا تحرص على أن يكون فيه إشارة لأحدهم أنها محل جاهز لتفريغ شهوته. وإن كان الرجل مذمومًا ابتداءً بتصرفه فيما لا يختص به من أجساد النساء، فإن المرأة مذمومة أيضًا لتبذلها وتبرجها له. والدعوة إلى الزنا من خلال تسويغه بعلاقات (الحب) تعني ابتذال المرأة لغيرها من الرجال. فإن جاز للمرأة أن تسترخص نفسها لواحدٍ لا يختص بها، جاز أن تسترخص نفسها لجميع الرجال الذين لا يختصون بها ضرورة اشتراكهم في عدم الاختصاص بها. أي أن هذه العلاقات التي يزعمون براءتها وعفويتها ونقاوتها مظنة العهر حقيقة، والعاهرة مذمومة خسيسة لا خير فيها ما لم تتب إلى الله وتنقطع عن إفساد المجتمع وإغوائه، وهو مما قد بينته في مقالٍ سابق (13).
12- أنه لو كان محض الحب واللذة الجنسية كافيًا في تسويغ مواقعة المرأة بغير اختصاص (14)، لجاز أن يواقع الرجلُ البهائم والصبيان دون البلوغ. ولكن الفطر التي شوّهت بكثرة موانع الهوى التي تحجزها عن اتباع كثيرٍ من الحق لا تزال تجرّم مواقعة البهائم والصبيان، لاستقذارها الفعل الأول، وشعورها بضرر الفعل الثاني وما فيه من الأذى. وهذا كافٍ بفضل الله للدلالة على أن محض الشهوة والمحبة لا يسوغ فعلًا إراديًا فضلًا عن أن يكون جنسيًا. والمعترض قد اعترض بمجرد الطبع والمحبة لا أكثر، فيلزمه الاطراد في استدلاله، أو النكوص عنه.
13- الزنا ينقض نظام الأسرة وأساسه، ومعلومٌ أن الأسرة هي أساس التربية والمحبة (15). وذلك ظاهرٌ جليٌ في أن الزنا لا حقوق فيه ولا واجبات، وهو نقيض النكاح الذي يرتبط الزوجان فيه، ليكونا أبوين لأطفالٍ يجب عليهم الاعتناء بهم وحفظ حياتهم وأخلاقهم ودينهم، ويجب على أطفالهم أن يبروا بهم ويتقربوا إليهم. أما الزنا، فعواقبه إما إجهاض الأطفال وقتلهم في الأرحام، أو رميهم إلى الشوارع ومحاضن اللقطاء، أو الاعتناء بهم على غير نظام الأسرة الصارم الملزم. وكلها سلبٌ لحق الإنسان الأصيل في أن يعيش مع والديه يعتنيان به. فبالنكاح تُحفظ الأنساب والحقوق، وبالزنا يضيع كل ذلك. فإن احتج محتجٌ بأن معرفة نسبة الولد إلى أبيه أضحت ممكنة بمعرفة الDNA. قيل بأن هذا الشريط لا يحفظ حقًا ولا يؤدي واجبًا. فهل سيُلزِمُ أباه حقًا أن يعتني به ويعتبره ابنًا له؟ ما الذي سيلزمه بذلك وهو قد دفق منيه في فرج امرأةٍ ليس بينهما اتصالٌ تحفظ به الحقوق وتؤدى به الواجبات؟
14- الزنا يفسد أخلاق النساء ويجعلهن في منزلة وضيعة في المجتمع، وفي ذلك يقول أبو الأعلى المودودي رحمه الله: "ومما تستلزمه إباحة الزنى أن تجري في المجتمع حرفة البغاء. وذلك أن من يقول بأن لرجل شاب حقًا في أن يمتع نفسه بلذات الشباب فكأنه يقول مع ذلك بأن تكون في المجتمع لهذا الغرض طبقة من الإناث تكون في أسفل الذل والمهانة بكل اعتبار. ولكن من أين تأتي أولئك النساء؟ أفلا يخرجن من هذا المجتمع الذي يعيش فيه؟ أو لا يكنَّ من بناته هو وأخواته؟ بلى، لا بد أن تنفر من أولئك النساء اللائي تجدر كل واحدة منهن بأن تكون ربة بيت ومؤسِّسَة عائلة ومربية أولاد، طائفة إلى حي البغايا، ليكنَّ كمراحيض البلدية موضع قضاء الوطر لكل خليع داعر ويتجردن من جميع الخصائص النسوية الشريفة، ويتدربن على التكسب بالغنج والدلال، ويسفلن إلى أن يبعن محبتهن وقلوبهن وأجسامهن، ومحاسنهنّ ومفاتنهن، لكل زائرٍ جديد في كل ساعة، ويبقين مدة أعمارهن أداة لقضاء شهوات غيرهن، بدل أن يقمن بخدمة نافعة مثمرة للمجتمع." (16).
-
فهذه أربعة عشر وجهًا في بيان أن المحبة والعشق لا يجمّلان الزنا أو يزيلان قبحه. بل إن قبح الجنس مع من لا يختص به دالٌ على قبح أفعال الحب الإرادية التي تقترن به أو تسبقه. وليس لعاقلٍ أن ينفي ارتباط أو اقتران الجنس بمحبة المرأة.
وملخص المقال هو أن الجنس إما أن يكون بحرية مطلقة أو مقيدة، والأول يقتضي جواز الاغتصاب والتحرش، فوجب الثاني. والحرية المقيدة لا تكون بغير قيامٍ بالحقوق واختصاصٍ بالواجبات، فبطل بذك الزنا واللواط والسحاق ووطء الصبيان والبهائم، ووجب أن يتصف النكاح بأنه جنس أخلاقي لأن فيه كمال الحقوق والواجبات التي تنعدم في غيره.
-
نصوص متفرقة:
الفخر الرازي: "الزنا شهوة قبيحة خالية عن المصلحة التي لأجلها خلقت" (17).
الراغب الأصفهاني: "وسمى ذلك سفاحًا من حيث أن المجتمعين عليه لا غرض لهما سوى سفح الماء للشهوة، كمن ضيّع مالًا في غير حرثه" (18). 
-
اللهم أعتقنا من سلطان الهوى، وأعنا على قوة الشهوة، وكيد الشيطان، واهدنا في زمن الفتن والأهوال، واغفر لنا ما اقترفناه من خطايا القصد والقول والعمل.
والحمد لله رب العالمين.
كتبه البراء بن محمد
قبيل فجر الإثنين 1438/6/7هـ
2017/3/6م
وأعاد تحريره وتنقيحه مغرب الثلاثاء 1438/6/8هـ
2017/3/7م
وأضاف إليه وجدد في بنيته فجر الخميس 1438/6/10هـ
2017/3/9م
وأعاد تحريره وصياغته صباح الأحد 1438/6/13هـ
2017/3/12م
وأعاد نشره بعد إخفائه مع تحريرات مهمة مساء الثلاثاء 1439/8/29هـ
2018/5/15م
-
على الهامش:
(1): (مفاتيح الغيب، فخر الدين محمد بن عمر، دار الفكر، الطبعة الأولى 1401هـ-1981م، الجزء العشرون، ص199). وقد قال الإمام الغزالي رحمه الله من قبل: "فقد خلق الغذاء سبباً للحياة ، وخلق الإناث محلاً للحراثة ، إلا إنه ليس يختص المأكول والمنكوح ببعض الآكلين بحكم الفطرة ، ولو ترك الأمر فيه مهملاً من غير تعريف قانون في الاختصاصات لتهاونوا وتقاتلوا"
(جواهر القرآن، أبو حامد [محمد بن محمد] الغزالي، تحقيق: محمد رشيد رضا القباني، دار إحياء العلوم، ط2 1406هـ-1986م، ص33).
(2): (محاسن الشريعة في فروع الشافعية، أبو بكر محمد بن علي بن إسماعيل بن الشاشي القفال الكبير، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 2007م، ص262)
(3): الأصل أن الزنا يشمل ما حصل بالتراضي أو الإكراه من جنس خارج الزواج، إلا أن الاغتصاب مجرّمٌ عند المخالف الذي يعتقد حسن الزنا بالتراضي. فنصف ما يستحسنه بالزنا دون أن نجعله في سلة واحدة مع الاغتصاب وذلك في مقام المحاججة لا أكثر. فالأصل عند ورود لفظة الزنا في هذه المقالة أن يشار بها إلى ما وقع من الجنس بالتراضي. 
(4): (مفاتيح الغيب، فخر الدين محمد بن عمر الرازي، دار الفكر، الجزء الرابع عشر، ص176).
(5): قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فإن الفروج لا تحتمل الاشتراك"
((مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، المجلد الثاني والثلاثون، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1425هـ-2004م، ص117).
قال الإمام ولي الله الدهلوي رحمه الله: "وفي مزاحمة الناس على موطوءة تغيير الجبلة الإنسانية، وهي مظنة المقاتلات والمحاربات بينهم" (حجة الله البالغة، ولي الله أحمد [بن عبدالرحيم] الدهلوي، تحقيق: السيد سابق دار الجيل، الجزء الثاني، الطبعة الأولى 1426هـ-2005م، ص242).
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: "لو أبيح للمرأة أن تكون عند زوجين فأكثر، لفسد العالم، وضاعت الأنساب، وقتل الأزواج بعضهم بعضاً، وعظمت البلية، واشتدت الفتنة، وقامت سوق الحرب على ساق. وكيف يستقيم حال امرأة فيها شركاء متشاكسون؟ وكيف يستقيم حال الشركاء فيها؟"
(إعلام الموقعين عن رب العالمين، محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية، دار ابن الجوزي، ط1 1423هـ، المجلد الثالث، ص325).
(6): قال الإمام الدهلوي رحمه الله: "فلا يظهر الاهتمام بالنكاح إلا بمال يكون عِوضَ البُضع، فإن الناس لما تشاحوا بالأموال شحًا لم يشحوا به في غيرها كان الاهتمام لا يتم إلا ببذلها، وبالاهتمام تقر أعين الأولياء حين يتملك هو فلذة أكبادهم، وبه يتحقق التمييز بين النكاح والسفاح" (حجة الله البالغة، الجزء الثاني، ص199).
(7): قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فالمبطل ليس قوله ثابتًا في قلبه، ولا هو ثابت فيه ولا يستقر، كما قال تعالى في المثل الآخر: ((فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض)). فإنه وإن اعتقده مدة فإنه عند الحقيقة يخونه" (مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، المجلد الثالث عشر، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1425هـ-2004م، ص159).
(8): (مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المجلد الخامس عشر، 1425هـ-2004م، ص128).
(9): (مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المجلد الخامس عشر، 1425هـ-2004م، ص129).
(10): وهو ضابطٌ مهم تخرج الأمة به عن محل البحث جملة وتفصيلًا.
(11): وعدمه عند بعضهم ليس دليلًا على انعدامه حقيقةً، فعدم الدليل ليس دليلًا على العدم كما هو معلوم. وطبع الذكور الجنسي متماثلٌ في الغالب.
(12): (مفاتيح الغيب، دار الفكر، فخر الدين محمد بن عمر الرازي، الطبعة الأولى 1401هـ-1981م، الجزء العشرون، ص199).
(13): وقد أخفيته لعدم الحاجة إليه ولأسباب أخرى.
(14): قال الإمام الفخر الرازي رحمه الله: "الاشتغال بمحض الشهوة تشبه بالبهيمة، وإذا كان الاشتغال بالشهوة يفيد فائدة أخرى سوى قضاء الشهوة، فليكن قضاء الشهوة من المرأة يفيد فائدة أخرى سوى قضاء الشهوة، وهو حصول الولد وإبقاء النوع الإنساني الذي هو أشرف الأنواع . فأما قضاء الشهوة من الذكر فإنه لا يفيد إلا مجرد قضاء الشهوة، فكان ذلك تشبهًا بالبهائم، وخروجًا عن الغريزة الإنسانية، فكان في غاية القبح" (مفاتيح الغيب، فخر الدين محمد بن عمر،  دار الفكر، الطبعة الأولى 1401هـ-1981م، الجزء الرابع عشر، ص176-177).
(15): قال الشيخ عبدالله البسام رحمه الله في سياق ذكره لمنافع النكاح: "ومنها: حفظ الأنساب التي يحصل بها التعارف والتآلف والتعاون والتناصر، فلولا عقد النكاح وحفظ الفروج به، لضاعت الأنساب والأصول، ولأصبحت الحياة فوضى لا وراثة، ولا حقوق، ولا أصول، ولا فروع. ومنها: ما يحصل بالزواج من الألفة والمودة، والرحمة بين الزوجين، فإن الإنسان لا بد له من شريك في حياته، يشاطره همومه وغمومه، ويشاركه في أفراحه وسروره، وفي عقد الزواج سر رباني عظيم، تتم عند عقده إذا قدر الله الألفة، فيحصل بين الزوجين من معاني الود والرحمة ما لا يحصل بين الصديقين أو القريبين إلا بعد الخلطة الطويلة" (توضيح الأحكام من بلوغ المرام، عبدالله بن عبدالرحمن البسام، مكتبة الأسدي، الطبعة الخامسة 1423هـ-2003م، الجزء الخامس، ص210).
(16): (الحجاب، أبو الأعلى المودودي، تعريب: محمد كاظم السباق، دار الفكر، ط2 1384هـ-1964م، ص165).
(17): (مفاتيح الغيب، فخر الدين محمد بن عمر الرازي، دار الفكر، ط1 1401هـ-1981م، الجزء الخامس والعشرون، ص59).
(18): (الذريعة إلى مكارم الشريعة، أبو القاسم بن الحسين بن محمد بن المفضل الراغب الأصفهاني، دار الكتب العلمية، ط1 1400هـ-1980م، ص210).

الخميس، 16 فبراير 2017

Attacking Faulty Reasoning Summary

In the name of Allah, , the Most Gracious, the Most Merciful.
Here, I present my summary of "Attacking Faulty Reasoning" written by T. Edward Damer. I read this book half year ago and it was fascinating and informative. It began with a comprehensive introduction about the arguments and how they are distinguished from mere opinions. Damer explained very well the criteria to be met with for the argument to be acceptable.
As I completed the book, I made a personal summary of the book to review it since I do not possess the original book. Unfortunately, I couldn't complete that summary because I was in rush for travelling. After almost 6 months of leaving an uncompleted summary, I took the advantage of the holiday to complete the summary and publish it to be available to everyone. I have spent my very effort to do the task perfectly. Thanks to Allah, I succeeded. And here I present my outcome.
It's important to notice that the 2nd edition of the book, which I summarized, are not available on the Internet. However, I found that the 6th edition is available on the Internet albeit not legal.
To get straight to the point, here are the summary and the 6th edition as well.

The summary

The 6th edition

Albara Ibn Mohamed
First uncompleted draft 19/9/1437H 24/6/2016
Second completed draft 9/5/1438H 5/2/2017
Final edited ad published version 20/5/1438H 16/2/2017




السبت، 21 يناير 2017

حجاب منزوع القيمة!

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد،
-
قال الله تعالى: ((زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المئاب)) [آل عمران]
قال رسول الله صلى عليه وسلم: ((إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون. فاتقوا الدنيا واتقوا النساء. فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)) [رواه مسلم]
-
مقدمة:
فإنه لا يكاد عاقل مطلعٌ على أحوال المجتمعات الإسلامية أن ينكر الظهور القوي لحملات تدعو نساء المسلمين إلى خلع الحجاب والتمرد عليه بعيدًا عن القمع السلطوي الذي فشل في ترسيخ فكرة التبرج والانعتاق من الحجاب.
تختلف هذه الحملات في منطلقاتها التي تصدّر بها خطابها العدائي للحجاب، فهي تارة تنكر فرضية الحجاب في الدين أصلًا وتجعله اختراعًا لرجال الدين من الفقهاء والمحدثين (وهو منطلق مشترك بين منكري السنة وبعض العلمانيين)، وتارة أخرى تذمه باعتباره قيدًا ثقيلًا على المرأة ومميزًا لها بغير حقٍ عن الرجال، وكابتًا لحريتها، ومحقِّرًا من جسدها، ووسيلة ذكورية للتسلط، وطامسًا لجمالها وهويتها (وهو منطلق لكثيرٍ من النسويات اللاتي يؤمن بتساوي الرجال والنساء في الحقوق والواجبات مع منع التمييز بينهم على أساس ديني أو مجتمعي). وهناك من يهوِّن من شأن الحجاب باعتباره لا يمثل الدين كله، وأنه مجرد قماش لا يمثل أخلاق المرأة، وأن الأهم هو "حجاب القلب" كما يقولون، وأن الأولى هو الاهتمام بشأن الأخلاق العليا كالصدق وحسن التعامل والواجبات الشرعية الأخرى كالصلاة وقراءة القرآن. صحيح أن هؤلاء لا يدعون بصراحة إلى خلع الحجاب كالعلمانيين والنسويات، ولكنهم يرددون قولهم هذا في معرض الدفاع عن المتبرجات، كما أنهم يدرجونه في سياق الحديث عن التحرش الجنسي بما يوحي إلى اعتقادهم أن خلع الحجاب خطيئة ولكنها صغيرة جدًا.
قد يقال أن كثيرًا من العلمانيين أيضًا لا يدعون صراحة إلى خلع الحجاب، ولكن هذا ظاهر قولهم مجردًا عن أي سياق.  وإلا فهم يدافعون عن حجاب المرأة باعتباره حرية شخصية لا أكثر كما يدافعون أيضًا عن أشد الملابس إظهارًا لعورة الجسد ومفاتنه. كما أنهم يحاربون الإلزام به من ناحية قانونية ودينية. وهم كثيرًا ما يربطون الحجاب بالتخلف والفشل والنزعة الذكورية والتسلط بما يوحي إلى أنهم يسعون جاهدين إلى توفير المناخ الذي تخلع فيه المرأة حجابها.
وقبل أن أسير إلى منتصف المقال، ينبغي أن أنبه إلى أنني لن أناقش قول من يزعم أن فرض الحجاب (بالقدر المتفق عليه وهو ما دون الوجه والكفين) ليس من الدين أو أنه بدعة من بدع الفقهاء لأنه كفر بالله من حيث أنه إنكار للمعلوم من الدين بالضرورة كالخمر والزنا، كما أن مناقشته تستلزم مناقشة الأصول الكبرى كالتسليم للنص الشرعي ووجوب طاعة النبي صلى الله عليه وسلم وما إلى ذلك.
خرج بعض من يتصدى لحملات التهوين من الحجاب والتشجيع على خلعه، فحاولوا تقويض اعتراضاتهم مع انتقاد الخطاب الإسلامي (التقليدي) كما يقال. فهم في توسطٍ بينهما، يرفضون بعض مضامين الخطاب الإسلامي ويرفضون بعض مضامين الخطاب التهويني من الحجاب ونتائجه. فهل نجحوا في ذلك؟ 
ينبغي أن ننبه قبل البدء في مناقشة أصحاب هذا الخطاب الجديد أننا لن نحتكم إلى النتائج المجردة، فليس المؤثر الحقيقي في صحة خطابهم هو عدد الفتيات اللواتي تمسكن بحجابهن أو عدن إليه (وإن كانت نتيجة هامة وعظيمة)، ولكن المؤثر حقًا هو صحة المضامين التي يؤصل لها هذا الخطاب ولوازمها.
وفي سبيل انتقاد الأقوال كما هي بدون محاكمتهم إلى اللوازم وحسب، فإنني سأشير إلى نموذجين ظاهرين لهذا الخطاب استنادًا لبحثي المتواضع وهما: 1- الباحثة أماني سنوار في مقاليها: (خلعت حجابها فانكشفت أخطاؤنا)(1) و(الحجاب عبادة أم مسؤولية مجتمعية)(2) و2- المدونة آلاء حمدان في مقالها (لماذا الحجاب؟ لستِ لؤلؤة مكنونة)(3).
-
استعراض موجز للمقالات:
تتفق آلاء حمدان وأماني سنوار على فرض الحجاب وأنه عبادة عظيمة فيها جهاد عظيمٌ مع النفس، ويتفقان كذلك على عِظَم التحديات التي تواجه المحجبات في هذا العصر.
ورغم الاتفاق السابق، فإن آلاء تقول بوضوح: "بل أريد للحجاب أن يكشف عن خُلقي وهويّتي". في حين أن أماني تخالفها حين تقول بوضوح أكبر في مقالها: "والحقيقة أن الحجاب عبادة كغيره من العبادات، لا يترتب عليه سوى كون المرأة أرادت الالتزام بأوامر الله عز وجل واحترام تعاليم دينها، ولا يعني وضعُه أنها تريد عكس هوية دينية أو سياسية أو اجتماعية.. والمبالغة في تحميل الحجاب معانٍ أكثر مما يحتمل، لا يعني سوى مزيد من التصنيف والتمييز تجاه المحجبات" (الحجاب عبادة). فهي تختلف عن آلاء بنفيها لبعد الهوية في الحجاب إذ تقول صراحةً: "لكن الخطاب الدعوي يقع في لبس رهيب حين يغذّي المرأة بمقولات تدعم كون الحجاب هوية تميز المسلمة وتعكس معتقداتها" (الحجاب عبادة).
وليس هذا الاختلاف جذريًا كما قد يبدو، إذ أن الكاتبتان متفقتان على تهميش دور الحجاب في حماية المرأة من استعار شهوة الرجال وما يتبع ذلك من آثارٍ كتحرش واغتصاب. تقول آلاء: "أخي، أنا ألبس الحجاب لا لأنّك لا تستطيع كبت جماح شهوتك والتي ليست من شأني، بل لأنني أراه كالصّلاة والصّوم، هو عبادة. فلا تُلقِ بإثم أهوائك على ملابسي"، بل تقرر أماني بصرامة أن الحجاب يسبب الأذى لصاحبته فتقول: "ويُخفق الخطاب الدعوي في تفكيك الأسئلة الكبرى.. ففي حين يجعل الحجاب مسؤولية تجاه المجتمع؛ يتجاهل أن هذه الحجة تُسقط الحجاب ولا تدعمه في المجتمعات المنحلة أخلاقيا.. وحين يجعل حكمة الحجاب هي حماية المرأة من الأذى؛ لا يجيب عن آلاف الحالات يكون فيها الحجاب هو سبب الأذى" (الحجاب عبادة).
وتقول أيضًا: "وعندما تصبح المرأة متعلمة ومثقفة، وتثبت نفسها في مجتمعات حرة، وتفرض احترامها كإنسان ذو فردانية وشخصية مستقلة، تكتشف أنه لا "ذئاب بشرية" في هذا العالم من الممكن أن تهددها، ولا معنى لأن تكون تلك الحلوى المغلفة في زاوية الصندوق" (خلعت حجابها).
تنتقد أماني تدخل المجتمع في الحجاب وتعتبرها مسألة فردية فتقول: "باختصار.. لم يبقَ الحجاب في الخطاب الإسلامي كغيره من العبادات.. فلم يُقدّم كالتزام تؤديه المرأة تجاه الله عز وجل بهدف تحقيق كمال العبودية لله؛ بل تمّ إيراد عشرات التفسيرات والأسباب البشرية لهذه الفريضة. وبذلك تم تحويل مسألة الحجاب من كونها فردية تخصّ صاحبتها إلى كونها مسألة اجتماعية، يحق للمجتمع التدخل فيها، وفرض وصايته عليها ما دامت شأناً عاماً.. وساهمت طبيعة الحجاب بكونه مظهراً يستحيل إخفاؤه بتعزيز تحويله إلى قضية عامة" (الحجاب عبادة). بل تصل إلى ما هو أبعد من ذلك فتنتقد دور الخطاب الوعظي في توجيه الذكور للتدخل بشأن الحجاب فتقول: "ويوجّه الدعاة خطابهم للذكور أكثر مما يخاطبون الإناث في سرديات الحجاب، ويقدّمون روايات أقرب إلى إشعال الحميّة والغيرة الذكورية للتحفيز عليه من قبيل "هل ترضى لزوجتك أو أختك أن يتأمّلها الرجال"، وهل ترضى "أن تنهشها الذئاب البشرية"؟!" (خلعت حجابها).
تنتقد أماني تقرير فرضية الحجاب من خلال حكمٍ تخوّل المجتمع الحق في التدخل في حجاب المرأة فتقول: "إذ بقي الدُعاة على مرّ العصور يسوقون الحكم المُفترضة لإقناع المرأة بارتدائه، أو تفويض المجتمع وولي الأمر بفرضه.. فمَرّة هو وسيلة لحماية المرأة من المضايقات والحفاظ عليها من "الذئاب البشرية"، ومرّة هو مسؤولية تؤديها تجاه المجتمع لصيانته من الفتنة والانحلال الأخلاقي، بينما ذهب البعض إلى اعتباره هوية تتميز بها المرأة الخلوقة عن غيرها" (الحجاب عبادة). ساقت هذا الكلام في سياق حكايتها لتناقض الخطاب الدعوي -كما ترى- حيث يحث الناس على الصوم والحج دون محاولة لسبر حِكمهما في حين يقدم حكمًا "مفترضة" لتقتنع المرأة بها فترتدي الحجاب.
وبناءً على التأصيل السابق قررت أماني أن الحجاب عبادة فردية لا يتدخل فيها المجتمع.
-
النقد:
لو لخصنا مجموع أفكار أماني وآلاء معًا فسنجد أنها تتمحور حول النقاط التالية:
1- الحجاب عبادة شخصية ومسؤولية فردية كالصيام والصلاة.
2- ليس للحجاب دور في تقليل التحرش أو تخفيف شهوة الرجال.
3- ليس الحجاب هوية دينية للمرأة وليس فيه بعد أخلاقي.

نقد النقطة الأولى:
قياس الحجاب بالصلاة والصيام فيه نظر كبير إذ أن الحجاب عبادة فيها ممارسة اجتماعية ظاهرة، فالمرأة تحتجب أمام الرجال الأجانب. بعكس الصيام والصلاة التي يمكن أن يختفي صاحبها أو يتركهما مع عدم علم الناس بذلك. بعكس الحجاب الذي يميزه كل ذي عينين.
ظهور التبرج يذكرنا قطعًا بضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان))(4). وانتشار المعاصي مؤذنٌ بالفساد والخراب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه فتدعونه فلا يستجيب لكم))(5). فثبت بذلك أنه مسؤولية مجتمعية كما أنه ليس عبادة شخصية كما زعمت أماني.

نقد النقطة الثانية:
إن من المعلوم بالفطرة والحس أن الرجل يشتهي المرأة جنسيًا، ويشمل ذلك جسدها وصوتها وكتابتها أحيانًا!
وعلى ذلك جرت طبيعة الرجال والنساء، فالرجل يطلب المرأة لينكحها، والمرأة تزيّن له وتوقعه في شراكها.
وفي ذلك يقول الإمام الفخر الرازي رحمه الله: "والوجه الثاني: وهو أن الذكورة مظنة الفعل، والأنوثة مظنة الانفعال، فإذا صار الذكر منفعلًا، والأنثى فاعلًا، كان ذلك على خلاف مقتضى الطبيعة، وعلى عكس الحكمة الإلهية"(6).
وفي معنى مقاربٍ يقول الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه: "إن طبيعة الرجل هي الإرادة، وطبيعة المرأة هي القبول"(7).
بل إن في منصوص القرآن ما يدل على أن الحجاب وقايةٌ للمرأة من الفساق والمتهتكين، يقول الله تعالى: ((يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورًا رحيمًا))(8).
يقول الإمام الطبري رحمه الله: "لا يتشبهن بالإماء في لباسهن إذا هن خرجن من بيوتهن لحاجتهن، فكشفن شعورهن ووجوههن  ولكن ليدنين عليهن من جلابيبهن; لئلا يعرض لهن فاسق، إذا علم أنهن حرائر ، بأذى من قول"(9).
ويفسر الإمام ابن حيان رحمه الله قول الله تعالى: ((ذلك أدنى أن يعرفن)) بقوله: "لتسترهن بالعفة، فلا يتعرض لهن، ولا يلقين بما يكرهن; لأن المرأة إذا كانت في غاية التستر والانضمام لم يقدم عليها بخلاف المتبرجة، فإنها مطموع فيها"(10).
فالصحيح كما تبين أن الحجاب يخفف من شهوة الرجال، ويحثهم على الحياء. ووجود الفسّاق المجرمين الذي يعيثون في الأرض فسادًا وينتهكون أعراض المسلمات لا ينقض ما قررناه هنا.
ويقال اختصارًا أن تبرج المرأة وتبذلها سببٌ في جذب الفساق والسفلة إليها، إلا أنه ليس السبب الوحيد في ظاهرة التحرش. فالمتبرجة مساهمة في الضرر الذي يحصل لها من تبرجها من غير أن يكون ذلك مسوغًا لجريمة التحرش. كما أن إهمال المال والسيارات والمنازل مفضٍ إلى سرقتها ومسهلٌ لذلك دون أن تكون السرقة نفسها حلالًا.
ورغم أن حقيقة جذب المرأة للرجال بجسدها قد ضربت لها عشرات الأمثلة الموضحة (كمثال الحلوى المغلفة)، فإنها ظلت محل سخرية وازدراء لامعقول. ظل بعضهم يسخر من مثال الحلوى المغلفة باعتباره مهينًا للمرأة وعازلًا إياها عن المجتمع، ولا أدري من أين استلوا كل هذه المعاني حقيقةً؟ ولكن المثال مبينٌ لحقيقة أن المرأة بجسدها وزينتها محل شهوة الرجل الجنسية. هذه حقيقة غريزية شئنا أم أبينا، وليست حيوانية ولا بهيمية. فالجنس نعمة من الله سبحانه وتعالى تعكس عمق المحبة والاتصال الجسدي والعاطفي. والموفق السعيد هو من وضعها في الحلال، والشقي الخائب هو من وضعها في الحرام.
وليت شعري كيف للمرأة أن تدرك بفطرتها الفرق بين الألفاظ التي تخاطب بها الرجال على اختلاف علاقتها بهم، فتنتقي لهذا ما يسعده ويقرّبه منها، وتتعامل مع ذاك برسمية شديدة؛ ثم تستنكف عن الاعتراف بأن جسدها مثيرٌ لشهوة الرجال؟! أي انتكاسٍ للمفاهيم هذا الذي به تصير الكلمة المحرك الوحيد لشهوة الرجل بينما يغدو جسد المرأة ممتنعًا عن إثارة الشهوة كاسمنت الحائط وخشب الشجرة؟

نقد النقطة الثالثة:
لا أدري كيف يقال بعد العلم بالوحي الإلهي أن الحجاب ليس هوية إسلامية؟ كيف تُجردُ الهوية من قطعة قماش اكتسبت قيمتها بتغطيتها للعورة؟ وإن لم تكن الهوية هي انعكاس المعتقد في الظاهر، وكان الحجاب انعكاسًا للإيمان والإسلام، فكيف يغدو الحجاب مجردًا من وصفه هوية؟ الحجاب شعيرةٌ ظاهرة كظهور الصلاة والحج. بها جميعًا يعرف المسلمون. فمن فرّطت في حجابها فقد فرّطت في هويتها وأضاعت قدرًا من إيمانها. والله يغفر لنا وللمقصرين والمقصرات جميعًا.
كيف يقال أن نزع الحجاب ليس بفعل عارٍ عن الأخلاق وفيه كشف للعورة التي أوجب الله سترها ونقصٌ عن الحياء الواجب وشرخٌ لبناء العفة والفضيلة؟!
نازعة الحجاب مرتكبة لخطيئة كبيرة. يجب أن نستحضر هذه الحقيقة دومًا ونعينها على العودة إلى طريق الله الغفور الرحيم بدلًا من تشجيعها على الرذيلة والتعري. يجب أن تعلم الفتاة أنها بخلعها للحجاب تتمرد على الله أولًا قبل مجتمعها وأسرتها. يجب أن تعلم أنها أحق بالإثم والسيئات من أهلها الذين تحاول الضغط عليهم بنزع لباسها.
كل حملة نزع حجاب يصاحبها فخرٌ وانتصارٌ وهمي هي ضلالٌ وابتعاد عن سبيل الله.
وكم عجبت لأماني عندما قالت: "ويكمن الخطر في تحويل الحجاب من "عبادة" إلى "قضية اجتماعية" في تحويل دافع المرأة نحو الحجاب من مجاهدة النفس من أجل طاعة الله، إلى مجاهدة المجتمع. والواقع أن السمة الغالبة من الناس تتورع عن تحدي أوامر الله حتى عندما تخرج عن طاعته، لكنها لا تجد الحرج ذاته في تحدي المجتمع وتقاليده.. ومن هنا نجد أن غالبية حالات خلع الحجاب التي صرنا نطالعها اكتسبت صفة التحدي والتمرد، واعتمدت مبدأ الاشهار وأحياناً التبشير بالفكرة، لأن البعض نجح بجعل الحجاب معركة اجتماعية بامتياز".
ونحن لا ننكر أن للتدين الخاطئ والإجبار دون الإقناع دورٌ في دفع الفتيات لأهوائهم، إلا أن تفهم هذه الأسباب لا يعني أنها تعفيهم من مسؤولية تمردهم على أوامر الله حتى وإن استتروا بهذه الأعذار الواهية.
هل تنتظر الكاتبة أن تقول لها فتاةٌ ما: "أنا أعلم يقينًا أن الله أمرني بالحجاب، ومع ذلك فإنني أعلن تمردي عليه وعلى أمره" حتى تصفها بأنها تمردت على أوامر الله؟ وهل غاب عنها أن من الناس من يخالف الحق مع علمه به وذلك لغرقه في الشهوات والملذات واتباعه الهوى؟
وقد قال الأستاذ أحمد عبداللطيف بشأن هذه الحملات: "يعني المجتمع زفت والأهل قطران وكل اللي انتم عاوزينه ... فين ربنا في المعادلة ؟
ربنا عايز إيه؟ وليه؟ وازاي؟
الحاجات دي صعب تلاقيها في بوستات قلع الحجاب، قلع الحجاب بقى عبارة عن رد فهل [كذا في الأصل والصحيح: فعل] عكسي مضاد ... ويا ريته بيسعى للأحسن ... لأ ... ده بيسعى للمضاد وخلاص" (11).
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين))(12).

الخاتمة:
يؤول قول هذا الخطاب إلى التهوين من شأن الحجاب حقيقةً بنزع قيمته الأخلاقية المتمثلة في الحياء والعفة، وإسقاط المسؤولية الاجتماعية فيه بجعله شأنًا شخصيًا لا يؤثر في المجتمع. كما أنه يجعله مجرد قطعة قماش لا تمثل هوية للمسلمة ولا فخرًا بدينها أو اعتزازًا به.
وهي نفس النتيجة التي يطمح إليها الليبراليون والنسويات حيث يهونون من شأن الحجاب لا من حيث أنه فرض إلهي (وإن كان بعضهم يطعن في ذلك فعلًا) ولكن من حيث أنه قطعة قماش لا يحق وصفها بقداسة ولا ربطها بحياء وعفة. فالحجاب يستوي ولباس البحر (البكيني) إن ارتدتهما المرأة بحريتها المحضة بعيدًا عن قيود الدين والمجتمع!
اللهم اغفر لنا خطأنا وتقصيرنا، وارحمنا برحمتك وتب علينا. واهد جميع المسلمين والمسلمات إلى صراطك المستقيم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
البراء بن محمد
ماليزيا
السبت 1438/4/23هـ
الموافق 2017/1/21م
-
الهامش:
(1):
(2):
http://blogs.aljazeera.net/blogs/2017/1/17/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%AC%D8%A7%D8%A8-%D8%B9%D8%A8%D8%A7%D8%AF%D8%A9-%D8%A3%D9%85-%D9%85%D8%B3%D8%A4%D9%88%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9%D9%8A%D8%A9
(3):
http://www.huffpostarabi.com/ala-hamdan/-_3928_b_9140210.html
(4): رواه مسلم (73).
(5): رواه الترمذي (2169) وحسنه.
(6): (مفاتيح الغيب، محمد بن عمر الرازي، دار الفكر، الجزء الرابع عشر، ص176).
(7): (العلم الجذل، فريدريك نيتشه، ترجمة سعاد حرب، دار المنتخب العربي للدراسات والنشر والتوزيع، ص76).
(8): سورة الأحزاب آية59.
(9): (جامع البيان عن تأويل آي القرآن، محمد بن جرير الطبري، دار هجر، الجزء التاسع عشر، ص181).
(10): (تفسير البحر المحيط، محمد بن يوسف الأندلسي، دار الكتب العلمية، الجزء السابع، ص240-241).
(11): https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=10154061855228773&id=737223772
(12): رواه البخاري (6069).

الثلاثاء، 10 يناير 2017

لا إسلام بلا مسلمين ولا مسلمين بلا إسلام


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبيه الأمين وآله وصحبه أجمعين،
أما بعد.
"إسلام بلا مسلمين ومسلمون بلا إسلام"
كتبت عن هذه العبارة الشهيرة مقالًا صغيرًا (البحث المتين في إبطال عبارة إسلام بلا مسلمين) [1] منذ ما يربو على ثلاث سنين، وأتبعته بحاشية للتوضيح والبيان [2]، ولكن استجدت لي بعض المعلومات التي ستُحكِم -بإذن الله- نقدي وتجعله متينًا حقًا وعصيًا على النقض.
-
تقوم عبارة "إسلام بلا مسلمين" على مقدمتين مضمرتين فيها، وهما:
1-     عمارة الأرض غاية كبرى دعا إليها الإسلام.
2-     حقق الغربيون عمارة الأرض وكانوا متخلقين بأخلاق الإسلام فحققوا بذلك غاية كبرى من غايات الإسلام.
النتيجة = أقام الغربيون الإسلام برغم كفرهم به.
والعبارة تعني أن الإسلام ظاهر أو قائمٌ في بلاد الغربيين (الأوروبيين-الأمريكان-اليابانيين) رغم كفرهم بالله.

-
نقد المقدمة الأولى:
"خُلقنا/وجدنا لنعمر الأرض"
هذه العبارة ونظائرها لا تختلف كثيرًا عن الاعتقاد بأن كمال الإنسان وشرفه يكمن في أكله وشربه ونكاحه. لأن عمارة الأرض والعلو فيها وامتلاك مادتها إنما هي وسائل يستخدمها الناس ليعيشوا برفاهية ورخاء ويشبعوا غرائزهم الطبيعية التي يشتركون فيها مع الحيوانات والحشرات.
فليس الغريب -إذن- أن يقولها علماني متهافت على دنياه الزائلة أو ملحد عديم العقل (والفروق بينهما تكاد تنعدم حقيقةً)، فهذا اتساق منهم مع مبادئهم ومعتقداتهم. وإنما الغريب والعجيب أن يرددها ويلوكها مسلمٌ موحد يعلم أن الله عز وجل قال في كتابه: ((وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)) [الذاريات/56].

ثم إن الأمم السابقة كعاد وثمود قد حققوا هذه الغاية التي هي عمارة الأرض بشهادة القرآن نفسه، فقد قال الله عز وجل: ((أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون)) [الروم/9] وقال تعالى: ((ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين*وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين*وكانوا ينحتون من الجبال بيوتًا آمنين)) [الحجر/80-82]. والآيات في ذلك كثيرة.
والشاهد هنا أن الله أرسل الرسل إليهم بالكتب وأيدهم بالمعجزات ليؤمنوا بالله وحده ويذروا شركهم وكفرهم، ولو كانت عمارة الأرض مقصودة بذاتها لنبه الله إليها في القرآن. وهل وردت عمارة الأمم السابقة في القرآن إلا في سياق الذم والقدح؟
ماذا عن أحاديث الزهد في الدنيا؟ ماذا عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل"؟ وماذا عن قوله عليه الصلاة والسلام: "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر"؟ هل يتسق كل هذا مع القول بأن الإنسان مطالبٌ بأن يعمر الأرض ويبنيها؟
قد يقولون بأنها ضرورة للعيش، وعلى التسليم بذلك فإن الأكل والشراب والنكاح ضرورات حياتية لا غنى للإنسان عنهم، ومع ذلك فلا يقول عاقل فضلًا عن مسلم موحد أنها غايات وجود الإنسان. فما الفارق المؤثر بينها وبين (عمارة الأرض)؟
فتبيّن بذلك أن عمارة الأرض ليست غاية إسلامية فضلًا عن أن تكون معيارًا لتمسك المرء بالإسلام. وقصارى ما يقال عنها -كما يقول الشيخ كمال المرزوقي [3]- أنها مباحة لم يدع إليها الإسلام ولم ينه عنها.
-
نقد المقدمة الثانية:
لما تبين أن عمارة الأرض ليست مقياسًا لإسلام المرء وتقواه، وأنها لا تخرج الغربيين وأضرابهم من الذم الذي لحق بالأمم السابقة لكفرهم بالله وتكذيبهم بالنبوة، قال بعض من يصحح عبارة "إسلام بلا مسلمين" أن المقصود هو الأخلاق الإسلامية الرفيعة كالعدل والأمانة والصدق وما أشبه ذلك.
فلما ظهر لنا أن الغربيين يقيمون هذه الأخلاق، قلنا بإقامتهم للإسلام حتى وإن لم يكونوا مسلمين.
والحق أن هذا استدلال باطلٌ ركيك كسابقه ويتبين بما يلي:
1-     من قال أن الأمم السابقة وجاهلية العرب -على وجه التحديد- كانت خالية من الأخلاق الحميدة؟ ألم يتصف عرب الجاهلية بإكرام الضيف والغيرة والشجاعة وسقاية الحجيج؟
فهل أغنى ذلك عنهم من الله شيئًا؟ هل كان ذلك كافيًا لرفع وصفهم القرآني والنبوي بالجاهلية؟
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ((وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب)) [رواه مسلم]، وفي ذلك يقول الإمام النووي رحمه الله: "والمراد بهذا المقت والنظر ما قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد ببقايا أهل الكتاب الباقون على التمسك بدينهم الحق من غير تبديل" [4].
وقد قالت عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: ((يا رسول الله، إن ابنَ جدعان كان في الجاهلية: يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذاك نافعُه؟ قال: لا ينفعه إنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين)) [رواه مسلم]
وقد قال الله تعالى: ((أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين)) [التوبة/19].
2-     أعمال الكافرين مهما صلحت وحسنت فإنها لا تساوي -عند الله- ذرة من أعمال المسلمين، لأن العمل الصالح المقبول في الإسلام هو ما كان صاحبه مخلصًا لله تعالى متابعًا للنبي صلى الله عليه وسلم متحريًا بذلك عبادة الله على الوجه الذي يرضيه، فهل توصف أعمال الغربيين الكافرين الذين ما قصدوا الله سبحانه وتعالى بعبادة أو عمل ولم يتابعوا النبي صلى الله عليه وسلم بل ازدروا سنته ودينه بأنها إسلام؟ هم أنفسهم لم يريدوا موافقة الإسلام، فكيف يصح لعاقل أن ينسب أفعالهم إلى الإسلام لمجرد اتفاقهما في بعض النتائج؟ وهل هذا إلا عين الترقيع الأجوف؟
3-     الحكم بأن بعض أفعال الكافرين إسلام بناءً على اشتراكها الكلي مع الإسلام يؤول إلى التناقض الظاهر. فالحض على بر الوالدين -مثلًا- قيمة يشترك فيها الإسلام والنصرانية، فهل يصح أن نحكم على البار بوالديه بأن فيه إسلامًا ونصرانية لمجرد بره بهما؟ وهل هذا إلا تناقض فاحش؟!
4-     معنى الإسلام واضحٌ كما في الحديث الذي رواه مسلم: ((الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً‏))، فلا يصح حمله على مجرد الأخلاق التي تتفق مع الإسلام. إذ أن بطلان أصل الإسلام وهو توحيد الله سبحانه وتعالى يقضي على الفرع بالبطلان. والإسلام بهذا الاستخدام الاعتباطي للفظه ينتقل من كونه دينًا أنزله الله على الناس إلى مجرد أخلاقيات شكلية يشترك فيها مع غيره ولا يتميز بها عما سواه.
5-     أن يقال وصفكم لأفعال الغربيين بأنها إسلام لا يخلو إما أن تكون كل الإسلام أو بعضه، أي -بعبارة أخرى- إما أن يكون الغربيون قد أقاموا الدين كله بحذافيره أو بعضه. والأول ممتنع بطبيعة الحال لأن الغربيين كافرون بالله ونبيه صلى الله عليه وسلم ولا يؤمنون بالبعث والنشور كما في القرآن والسنة ولا يقيمون الصلاة...إلى آخر ذلك. فتبيّن بذلك أنهم مقيمون لبعض الإسلام. فيقال لكم: من أين لكم أن هذا القدر من أفعالهم كافٍ ليوصف بأنه إقامة للإسلام؟ ولم لا تكون إقامة الدين حقًا قدرًا أكبر مما فعله الغربيون؟ ومن هنا فإما أن يضعوا حدًا معقولًا له دليل من القرآن والسنة، أو يجعلوا نسبة العمل الواحد للإسلام كنسبة الأعمال الكثيرة. والأول اعتباطي لا حقيقة له والثاني ممتنع.
6-     يتفق أصحاب "إسلام بلا مسلمين" أنه ليست كل أفعال الغربيين موافقة للإسلام، فمنها كبائر عظمى كشرب الخمر والزنا، ومنها ما يناقض الإسلام حتمًا كاستحلال الحكم بغير ما أنزل الله والتكذيب بالقرآن. فيقال أن بعض أفعالهم توافق ما يدعو إليه الإسلام كالصدق والعدل، وهذا يختلف تمامًا عن القول بأن أفعالهم إسلام أو أنها تقتضي قيام الدين في بلادهم.

-
فتبين بعد هذا البسط المجمل أن عبارة "إسلام بلا مسلمين" جوفاء لا قيمة لها، بل معناها باطل وفاسد حتمًا لما فيه من وضع الشيء (الإسلام) في غير موضعه (الكافرين) وهذا عين الظلم والبغي.
فالغربيون جاهليون كمشركي العرب، ظالمون لغيرهم كقوم شعيب، ومتبعون لشهواتهم كقوم لوط.
والحمد لله رب العالمين.


-
البراء بن محمد
ماليزيا
الثلاثاء 1438/4/12هـ
الموافق 2017/1/11م

الأربعاء، 4 يناير 2017

كناشة الآجرومية

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد، فهذه كناشة لفوائد مستنبطة من بعض شروح متن الآجرومية الذي درسته شهرًا كاملًا، واستفدت كثيرًا من ذلك ولله الحمد.
ثم إنني قد طورت هذه الكناشة ونقلتها لبرنامج الـword، فاتسعت فوائد الكناشة، وأضفت إليها بعض الجداول والمشجرات لتسهيل حفظها.
يجدر بي التنبيه إلى أن هذه الكناشة ليست مقصودة لشرح المتن نفسه، وإنما لجمع أهم الفوائد من الشروح التي درستها. فهي تصلح مذكرة إضافية لدراسة متن الآجرومية أو مراجعته أو حفظه.
أسأل الله أن يتقبلها مني هدية لطلاب العلم وأن ينفعهم بها.

رابط الكناشة:
http://www.mediafire.com/file/k09c07bckg4gvcf/%C3%99%C2%83%C3%99%C2%86%C3%98%C2%A7%C3%98%C2%B4%C3%98%C2%A9_%C3%98%C2%A7%C3%99%C2%84%C3%98%C2%A2%C3%98%C2%AC%C3%98%C2%B1%C3%99%C2%88%C3%99%C2%85%C3%99%C2%8A%C3%98%C2%A900.pdf

ولا تنسوني من دعائكم.

والحمد لله رب العالمين.
1438/4/6هـ
2017/1/14م