السبت، 21 يناير 2017

حجاب منزوع القيمة!

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد،
-
قال الله تعالى: ((زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المئاب)) [آل عمران]
قال رسول الله صلى عليه وسلم: ((إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون. فاتقوا الدنيا واتقوا النساء. فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)) [رواه مسلم]
-
مقدمة:
فإنه لا يكاد عاقل مطلعٌ على أحوال المجتمعات الإسلامية أن ينكر الظهور القوي لحملات تدعو نساء المسلمين إلى خلع الحجاب والتمرد عليه بعيدًا عن القمع السلطوي الذي فشل في ترسيخ فكرة التبرج والانعتاق من الحجاب.
تختلف هذه الحملات في منطلقاتها التي تصدّر بها خطابها العدائي للحجاب، فهي تارة تنكر فرضية الحجاب في الدين أصلًا وتجعله اختراعًا لرجال الدين من الفقهاء والمحدثين (وهو منطلق مشترك بين منكري السنة وبعض العلمانيين)، وتارة أخرى تذمه باعتباره قيدًا ثقيلًا على المرأة ومميزًا لها بغير حقٍ عن الرجال، وكابتًا لحريتها، ومحقِّرًا من جسدها، ووسيلة ذكورية للتسلط، وطامسًا لجمالها وهويتها (وهو منطلق لكثيرٍ من النسويات اللاتي يؤمن بتساوي الرجال والنساء في الحقوق والواجبات مع منع التمييز بينهم على أساس ديني أو مجتمعي). وهناك من يهوِّن من شأن الحجاب باعتباره لا يمثل الدين كله، وأنه مجرد قماش لا يمثل أخلاق المرأة، وأن الأهم هو "حجاب القلب" كما يقولون، وأن الأولى هو الاهتمام بشأن الأخلاق العليا كالصدق وحسن التعامل والواجبات الشرعية الأخرى كالصلاة وقراءة القرآن. صحيح أن هؤلاء لا يدعون بصراحة إلى خلع الحجاب كالعلمانيين والنسويات، ولكنهم يرددون قولهم هذا في معرض الدفاع عن المتبرجات، كما أنهم يدرجونه في سياق الحديث عن التحرش الجنسي بما يوحي إلى اعتقادهم أن خلع الحجاب خطيئة ولكنها صغيرة جدًا.
قد يقال أن كثيرًا من العلمانيين أيضًا لا يدعون صراحة إلى خلع الحجاب، ولكن هذا ظاهر قولهم مجردًا عن أي سياق.  وإلا فهم يدافعون عن حجاب المرأة باعتباره حرية شخصية لا أكثر كما يدافعون أيضًا عن أشد الملابس إظهارًا لعورة الجسد ومفاتنه. كما أنهم يحاربون الإلزام به من ناحية قانونية ودينية. وهم كثيرًا ما يربطون الحجاب بالتخلف والفشل والنزعة الذكورية والتسلط بما يوحي إلى أنهم يسعون جاهدين إلى توفير المناخ الذي تخلع فيه المرأة حجابها.
وقبل أن أسير إلى منتصف المقال، ينبغي أن أنبه إلى أنني لن أناقش قول من يزعم أن فرض الحجاب (بالقدر المتفق عليه وهو ما دون الوجه والكفين) ليس من الدين أو أنه بدعة من بدع الفقهاء لأنه كفر بالله من حيث أنه إنكار للمعلوم من الدين بالضرورة كالخمر والزنا، كما أن مناقشته تستلزم مناقشة الأصول الكبرى كالتسليم للنص الشرعي ووجوب طاعة النبي صلى الله عليه وسلم وما إلى ذلك.
خرج بعض من يتصدى لحملات التهوين من الحجاب والتشجيع على خلعه، فحاولوا تقويض اعتراضاتهم مع انتقاد الخطاب الإسلامي (التقليدي) كما يقال. فهم في توسطٍ بينهما، يرفضون بعض مضامين الخطاب الإسلامي ويرفضون بعض مضامين الخطاب التهويني من الحجاب ونتائجه. فهل نجحوا في ذلك؟ 
ينبغي أن ننبه قبل البدء في مناقشة أصحاب هذا الخطاب الجديد أننا لن نحتكم إلى النتائج المجردة، فليس المؤثر الحقيقي في صحة خطابهم هو عدد الفتيات اللواتي تمسكن بحجابهن أو عدن إليه (وإن كانت نتيجة هامة وعظيمة)، ولكن المؤثر حقًا هو صحة المضامين التي يؤصل لها هذا الخطاب ولوازمها.
وفي سبيل انتقاد الأقوال كما هي بدون محاكمتهم إلى اللوازم وحسب، فإنني سأشير إلى نموذجين ظاهرين لهذا الخطاب استنادًا لبحثي المتواضع وهما: 1- الباحثة أماني سنوار في مقاليها: (خلعت حجابها فانكشفت أخطاؤنا)(1) و(الحجاب عبادة أم مسؤولية مجتمعية)(2) و2- المدونة آلاء حمدان في مقالها (لماذا الحجاب؟ لستِ لؤلؤة مكنونة)(3).
-
استعراض موجز للمقالات:
تتفق آلاء حمدان وأماني سنوار على فرض الحجاب وأنه عبادة عظيمة فيها جهاد عظيمٌ مع النفس، ويتفقان كذلك على عِظَم التحديات التي تواجه المحجبات في هذا العصر.
ورغم الاتفاق السابق، فإن آلاء تقول بوضوح: "بل أريد للحجاب أن يكشف عن خُلقي وهويّتي". في حين أن أماني تخالفها حين تقول بوضوح أكبر في مقالها: "والحقيقة أن الحجاب عبادة كغيره من العبادات، لا يترتب عليه سوى كون المرأة أرادت الالتزام بأوامر الله عز وجل واحترام تعاليم دينها، ولا يعني وضعُه أنها تريد عكس هوية دينية أو سياسية أو اجتماعية.. والمبالغة في تحميل الحجاب معانٍ أكثر مما يحتمل، لا يعني سوى مزيد من التصنيف والتمييز تجاه المحجبات" (الحجاب عبادة). فهي تختلف عن آلاء بنفيها لبعد الهوية في الحجاب إذ تقول صراحةً: "لكن الخطاب الدعوي يقع في لبس رهيب حين يغذّي المرأة بمقولات تدعم كون الحجاب هوية تميز المسلمة وتعكس معتقداتها" (الحجاب عبادة).
وليس هذا الاختلاف جذريًا كما قد يبدو، إذ أن الكاتبتان متفقتان على تهميش دور الحجاب في حماية المرأة من استعار شهوة الرجال وما يتبع ذلك من آثارٍ كتحرش واغتصاب. تقول آلاء: "أخي، أنا ألبس الحجاب لا لأنّك لا تستطيع كبت جماح شهوتك والتي ليست من شأني، بل لأنني أراه كالصّلاة والصّوم، هو عبادة. فلا تُلقِ بإثم أهوائك على ملابسي"، بل تقرر أماني بصرامة أن الحجاب يسبب الأذى لصاحبته فتقول: "ويُخفق الخطاب الدعوي في تفكيك الأسئلة الكبرى.. ففي حين يجعل الحجاب مسؤولية تجاه المجتمع؛ يتجاهل أن هذه الحجة تُسقط الحجاب ولا تدعمه في المجتمعات المنحلة أخلاقيا.. وحين يجعل حكمة الحجاب هي حماية المرأة من الأذى؛ لا يجيب عن آلاف الحالات يكون فيها الحجاب هو سبب الأذى" (الحجاب عبادة).
وتقول أيضًا: "وعندما تصبح المرأة متعلمة ومثقفة، وتثبت نفسها في مجتمعات حرة، وتفرض احترامها كإنسان ذو فردانية وشخصية مستقلة، تكتشف أنه لا "ذئاب بشرية" في هذا العالم من الممكن أن تهددها، ولا معنى لأن تكون تلك الحلوى المغلفة في زاوية الصندوق" (خلعت حجابها).
تنتقد أماني تدخل المجتمع في الحجاب وتعتبرها مسألة فردية فتقول: "باختصار.. لم يبقَ الحجاب في الخطاب الإسلامي كغيره من العبادات.. فلم يُقدّم كالتزام تؤديه المرأة تجاه الله عز وجل بهدف تحقيق كمال العبودية لله؛ بل تمّ إيراد عشرات التفسيرات والأسباب البشرية لهذه الفريضة. وبذلك تم تحويل مسألة الحجاب من كونها فردية تخصّ صاحبتها إلى كونها مسألة اجتماعية، يحق للمجتمع التدخل فيها، وفرض وصايته عليها ما دامت شأناً عاماً.. وساهمت طبيعة الحجاب بكونه مظهراً يستحيل إخفاؤه بتعزيز تحويله إلى قضية عامة" (الحجاب عبادة). بل تصل إلى ما هو أبعد من ذلك فتنتقد دور الخطاب الوعظي في توجيه الذكور للتدخل بشأن الحجاب فتقول: "ويوجّه الدعاة خطابهم للذكور أكثر مما يخاطبون الإناث في سرديات الحجاب، ويقدّمون روايات أقرب إلى إشعال الحميّة والغيرة الذكورية للتحفيز عليه من قبيل "هل ترضى لزوجتك أو أختك أن يتأمّلها الرجال"، وهل ترضى "أن تنهشها الذئاب البشرية"؟!" (خلعت حجابها).
تنتقد أماني تقرير فرضية الحجاب من خلال حكمٍ تخوّل المجتمع الحق في التدخل في حجاب المرأة فتقول: "إذ بقي الدُعاة على مرّ العصور يسوقون الحكم المُفترضة لإقناع المرأة بارتدائه، أو تفويض المجتمع وولي الأمر بفرضه.. فمَرّة هو وسيلة لحماية المرأة من المضايقات والحفاظ عليها من "الذئاب البشرية"، ومرّة هو مسؤولية تؤديها تجاه المجتمع لصيانته من الفتنة والانحلال الأخلاقي، بينما ذهب البعض إلى اعتباره هوية تتميز بها المرأة الخلوقة عن غيرها" (الحجاب عبادة). ساقت هذا الكلام في سياق حكايتها لتناقض الخطاب الدعوي -كما ترى- حيث يحث الناس على الصوم والحج دون محاولة لسبر حِكمهما في حين يقدم حكمًا "مفترضة" لتقتنع المرأة بها فترتدي الحجاب.
وبناءً على التأصيل السابق قررت أماني أن الحجاب عبادة فردية لا يتدخل فيها المجتمع.
-
النقد:
لو لخصنا مجموع أفكار أماني وآلاء معًا فسنجد أنها تتمحور حول النقاط التالية:
1- الحجاب عبادة شخصية ومسؤولية فردية كالصيام والصلاة.
2- ليس للحجاب دور في تقليل التحرش أو تخفيف شهوة الرجال.
3- ليس الحجاب هوية دينية للمرأة وليس فيه بعد أخلاقي.

نقد النقطة الأولى:
قياس الحجاب بالصلاة والصيام فيه نظر كبير إذ أن الحجاب عبادة فيها ممارسة اجتماعية ظاهرة، فالمرأة تحتجب أمام الرجال الأجانب. بعكس الصيام والصلاة التي يمكن أن يختفي صاحبها أو يتركهما مع عدم علم الناس بذلك. بعكس الحجاب الذي يميزه كل ذي عينين.
ظهور التبرج يذكرنا قطعًا بضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان))(4). وانتشار المعاصي مؤذنٌ بالفساد والخراب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه فتدعونه فلا يستجيب لكم))(5). فثبت بذلك أنه مسؤولية مجتمعية كما أنه ليس عبادة شخصية كما زعمت أماني.

نقد النقطة الثانية:
إن من المعلوم بالفطرة والحس أن الرجل يشتهي المرأة جنسيًا، ويشمل ذلك جسدها وصوتها وكتابتها أحيانًا!
وعلى ذلك جرت طبيعة الرجال والنساء، فالرجل يطلب المرأة لينكحها، والمرأة تزيّن له وتوقعه في شراكها.
وفي ذلك يقول الإمام الفخر الرازي رحمه الله: "والوجه الثاني: وهو أن الذكورة مظنة الفعل، والأنوثة مظنة الانفعال، فإذا صار الذكر منفعلًا، والأنثى فاعلًا، كان ذلك على خلاف مقتضى الطبيعة، وعلى عكس الحكمة الإلهية"(6).
وفي معنى مقاربٍ يقول الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه: "إن طبيعة الرجل هي الإرادة، وطبيعة المرأة هي القبول"(7).
بل إن في منصوص القرآن ما يدل على أن الحجاب وقايةٌ للمرأة من الفساق والمتهتكين، يقول الله تعالى: ((يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورًا رحيمًا))(8).
يقول الإمام الطبري رحمه الله: "لا يتشبهن بالإماء في لباسهن إذا هن خرجن من بيوتهن لحاجتهن، فكشفن شعورهن ووجوههن  ولكن ليدنين عليهن من جلابيبهن; لئلا يعرض لهن فاسق، إذا علم أنهن حرائر ، بأذى من قول"(9).
ويفسر الإمام ابن حيان رحمه الله قول الله تعالى: ((ذلك أدنى أن يعرفن)) بقوله: "لتسترهن بالعفة، فلا يتعرض لهن، ولا يلقين بما يكرهن; لأن المرأة إذا كانت في غاية التستر والانضمام لم يقدم عليها بخلاف المتبرجة، فإنها مطموع فيها"(10).
فالصحيح كما تبين أن الحجاب يخفف من شهوة الرجال، ويحثهم على الحياء. ووجود الفسّاق المجرمين الذي يعيثون في الأرض فسادًا وينتهكون أعراض المسلمات لا ينقض ما قررناه هنا.
ويقال اختصارًا أن تبرج المرأة وتبذلها سببٌ في جذب الفساق والسفلة إليها، إلا أنه ليس السبب الوحيد في ظاهرة التحرش. فالمتبرجة مساهمة في الضرر الذي يحصل لها من تبرجها من غير أن يكون ذلك مسوغًا لجريمة التحرش. كما أن إهمال المال والسيارات والمنازل مفضٍ إلى سرقتها ومسهلٌ لذلك دون أن تكون السرقة نفسها حلالًا.
ورغم أن حقيقة جذب المرأة للرجال بجسدها قد ضربت لها عشرات الأمثلة الموضحة (كمثال الحلوى المغلفة)، فإنها ظلت محل سخرية وازدراء لامعقول. ظل بعضهم يسخر من مثال الحلوى المغلفة باعتباره مهينًا للمرأة وعازلًا إياها عن المجتمع، ولا أدري من أين استلوا كل هذه المعاني حقيقةً؟ ولكن المثال مبينٌ لحقيقة أن المرأة بجسدها وزينتها محل شهوة الرجل الجنسية. هذه حقيقة غريزية شئنا أم أبينا، وليست حيوانية ولا بهيمية. فالجنس نعمة من الله سبحانه وتعالى تعكس عمق المحبة والاتصال الجسدي والعاطفي. والموفق السعيد هو من وضعها في الحلال، والشقي الخائب هو من وضعها في الحرام.
وليت شعري كيف للمرأة أن تدرك بفطرتها الفرق بين الألفاظ التي تخاطب بها الرجال على اختلاف علاقتها بهم، فتنتقي لهذا ما يسعده ويقرّبه منها، وتتعامل مع ذاك برسمية شديدة؛ ثم تستنكف عن الاعتراف بأن جسدها مثيرٌ لشهوة الرجال؟! أي انتكاسٍ للمفاهيم هذا الذي به تصير الكلمة المحرك الوحيد لشهوة الرجل بينما يغدو جسد المرأة ممتنعًا عن إثارة الشهوة كاسمنت الحائط وخشب الشجرة؟

نقد النقطة الثالثة:
لا أدري كيف يقال بعد العلم بالوحي الإلهي أن الحجاب ليس هوية إسلامية؟ كيف تُجردُ الهوية من قطعة قماش اكتسبت قيمتها بتغطيتها للعورة؟ وإن لم تكن الهوية هي انعكاس المعتقد في الظاهر، وكان الحجاب انعكاسًا للإيمان والإسلام، فكيف يغدو الحجاب مجردًا من وصفه هوية؟ الحجاب شعيرةٌ ظاهرة كظهور الصلاة والحج. بها جميعًا يعرف المسلمون. فمن فرّطت في حجابها فقد فرّطت في هويتها وأضاعت قدرًا من إيمانها. والله يغفر لنا وللمقصرين والمقصرات جميعًا.
كيف يقال أن نزع الحجاب ليس بفعل عارٍ عن الأخلاق وفيه كشف للعورة التي أوجب الله سترها ونقصٌ عن الحياء الواجب وشرخٌ لبناء العفة والفضيلة؟!
نازعة الحجاب مرتكبة لخطيئة كبيرة. يجب أن نستحضر هذه الحقيقة دومًا ونعينها على العودة إلى طريق الله الغفور الرحيم بدلًا من تشجيعها على الرذيلة والتعري. يجب أن تعلم الفتاة أنها بخلعها للحجاب تتمرد على الله أولًا قبل مجتمعها وأسرتها. يجب أن تعلم أنها أحق بالإثم والسيئات من أهلها الذين تحاول الضغط عليهم بنزع لباسها.
كل حملة نزع حجاب يصاحبها فخرٌ وانتصارٌ وهمي هي ضلالٌ وابتعاد عن سبيل الله.
وكم عجبت لأماني عندما قالت: "ويكمن الخطر في تحويل الحجاب من "عبادة" إلى "قضية اجتماعية" في تحويل دافع المرأة نحو الحجاب من مجاهدة النفس من أجل طاعة الله، إلى مجاهدة المجتمع. والواقع أن السمة الغالبة من الناس تتورع عن تحدي أوامر الله حتى عندما تخرج عن طاعته، لكنها لا تجد الحرج ذاته في تحدي المجتمع وتقاليده.. ومن هنا نجد أن غالبية حالات خلع الحجاب التي صرنا نطالعها اكتسبت صفة التحدي والتمرد، واعتمدت مبدأ الاشهار وأحياناً التبشير بالفكرة، لأن البعض نجح بجعل الحجاب معركة اجتماعية بامتياز".
ونحن لا ننكر أن للتدين الخاطئ والإجبار دون الإقناع دورٌ في دفع الفتيات لأهوائهم، إلا أن تفهم هذه الأسباب لا يعني أنها تعفيهم من مسؤولية تمردهم على أوامر الله حتى وإن استتروا بهذه الأعذار الواهية.
هل تنتظر الكاتبة أن تقول لها فتاةٌ ما: "أنا أعلم يقينًا أن الله أمرني بالحجاب، ومع ذلك فإنني أعلن تمردي عليه وعلى أمره" حتى تصفها بأنها تمردت على أوامر الله؟ وهل غاب عنها أن من الناس من يخالف الحق مع علمه به وذلك لغرقه في الشهوات والملذات واتباعه الهوى؟
وقد قال الأستاذ أحمد عبداللطيف بشأن هذه الحملات: "يعني المجتمع زفت والأهل قطران وكل اللي انتم عاوزينه ... فين ربنا في المعادلة ؟
ربنا عايز إيه؟ وليه؟ وازاي؟
الحاجات دي صعب تلاقيها في بوستات قلع الحجاب، قلع الحجاب بقى عبارة عن رد فهل [كذا في الأصل والصحيح: فعل] عكسي مضاد ... ويا ريته بيسعى للأحسن ... لأ ... ده بيسعى للمضاد وخلاص" (11).
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين))(12).

الخاتمة:
يؤول قول هذا الخطاب إلى التهوين من شأن الحجاب حقيقةً بنزع قيمته الأخلاقية المتمثلة في الحياء والعفة، وإسقاط المسؤولية الاجتماعية فيه بجعله شأنًا شخصيًا لا يؤثر في المجتمع. كما أنه يجعله مجرد قطعة قماش لا تمثل هوية للمسلمة ولا فخرًا بدينها أو اعتزازًا به.
وهي نفس النتيجة التي يطمح إليها الليبراليون والنسويات حيث يهونون من شأن الحجاب لا من حيث أنه فرض إلهي (وإن كان بعضهم يطعن في ذلك فعلًا) ولكن من حيث أنه قطعة قماش لا يحق وصفها بقداسة ولا ربطها بحياء وعفة. فالحجاب يستوي ولباس البحر (البكيني) إن ارتدتهما المرأة بحريتها المحضة بعيدًا عن قيود الدين والمجتمع!
اللهم اغفر لنا خطأنا وتقصيرنا، وارحمنا برحمتك وتب علينا. واهد جميع المسلمين والمسلمات إلى صراطك المستقيم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
البراء بن محمد
ماليزيا
السبت 1438/4/23هـ
الموافق 2017/1/21م
-
الهامش:
(1):
(2):
http://blogs.aljazeera.net/blogs/2017/1/17/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%AC%D8%A7%D8%A8-%D8%B9%D8%A8%D8%A7%D8%AF%D8%A9-%D8%A3%D9%85-%D9%85%D8%B3%D8%A4%D9%88%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9%D9%8A%D8%A9
(3):
http://www.huffpostarabi.com/ala-hamdan/-_3928_b_9140210.html
(4): رواه مسلم (73).
(5): رواه الترمذي (2169) وحسنه.
(6): (مفاتيح الغيب، محمد بن عمر الرازي، دار الفكر، الجزء الرابع عشر، ص176).
(7): (العلم الجذل، فريدريك نيتشه، ترجمة سعاد حرب، دار المنتخب العربي للدراسات والنشر والتوزيع، ص76).
(8): سورة الأحزاب آية59.
(9): (جامع البيان عن تأويل آي القرآن، محمد بن جرير الطبري، دار هجر، الجزء التاسع عشر، ص181).
(10): (تفسير البحر المحيط، محمد بن يوسف الأندلسي، دار الكتب العلمية، الجزء السابع، ص240-241).
(11): https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=10154061855228773&id=737223772
(12): رواه البخاري (6069).

الثلاثاء، 10 يناير 2017

لا إسلام بلا مسلمين ولا مسلمين بلا إسلام


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبيه الأمين وآله وصحبه أجمعين،
أما بعد.
"إسلام بلا مسلمين ومسلمون بلا إسلام"
كتبت عن هذه العبارة الشهيرة مقالًا صغيرًا (البحث المتين في إبطال عبارة إسلام بلا مسلمين) [1] منذ ما يربو على ثلاث سنين، وأتبعته بحاشية للتوضيح والبيان [2]، ولكن استجدت لي بعض المعلومات التي ستُحكِم -بإذن الله- نقدي وتجعله متينًا حقًا وعصيًا على النقض.
-
تقوم عبارة "إسلام بلا مسلمين" على مقدمتين مضمرتين فيها، وهما:
1-     عمارة الأرض غاية كبرى دعا إليها الإسلام.
2-     حقق الغربيون عمارة الأرض وكانوا متخلقين بأخلاق الإسلام فحققوا بذلك غاية كبرى من غايات الإسلام.
النتيجة = أقام الغربيون الإسلام برغم كفرهم به.
والعبارة تعني أن الإسلام ظاهر أو قائمٌ في بلاد الغربيين (الأوروبيين-الأمريكان-اليابانيين) رغم كفرهم بالله.

-
نقد المقدمة الأولى:
"خُلقنا/وجدنا لنعمر الأرض"
هذه العبارة ونظائرها لا تختلف كثيرًا عن الاعتقاد بأن كمال الإنسان وشرفه يكمن في أكله وشربه ونكاحه. لأن عمارة الأرض والعلو فيها وامتلاك مادتها إنما هي وسائل يستخدمها الناس ليعيشوا برفاهية ورخاء ويشبعوا غرائزهم الطبيعية التي يشتركون فيها مع الحيوانات والحشرات.
فليس الغريب -إذن- أن يقولها علماني متهافت على دنياه الزائلة أو ملحد عديم العقل (والفروق بينهما تكاد تنعدم حقيقةً)، فهذا اتساق منهم مع مبادئهم ومعتقداتهم. وإنما الغريب والعجيب أن يرددها ويلوكها مسلمٌ موحد يعلم أن الله عز وجل قال في كتابه: ((وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)) [الذاريات/56].

ثم إن الأمم السابقة كعاد وثمود قد حققوا هذه الغاية التي هي عمارة الأرض بشهادة القرآن نفسه، فقد قال الله عز وجل: ((أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون)) [الروم/9] وقال تعالى: ((ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين*وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين*وكانوا ينحتون من الجبال بيوتًا آمنين)) [الحجر/80-82]. والآيات في ذلك كثيرة.
والشاهد هنا أن الله أرسل الرسل إليهم بالكتب وأيدهم بالمعجزات ليؤمنوا بالله وحده ويذروا شركهم وكفرهم، ولو كانت عمارة الأرض مقصودة بذاتها لنبه الله إليها في القرآن. وهل وردت عمارة الأمم السابقة في القرآن إلا في سياق الذم والقدح؟
ماذا عن أحاديث الزهد في الدنيا؟ ماذا عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل"؟ وماذا عن قوله عليه الصلاة والسلام: "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر"؟ هل يتسق كل هذا مع القول بأن الإنسان مطالبٌ بأن يعمر الأرض ويبنيها؟
قد يقولون بأنها ضرورة للعيش، وعلى التسليم بذلك فإن الأكل والشراب والنكاح ضرورات حياتية لا غنى للإنسان عنهم، ومع ذلك فلا يقول عاقل فضلًا عن مسلم موحد أنها غايات وجود الإنسان. فما الفارق المؤثر بينها وبين (عمارة الأرض)؟
فتبيّن بذلك أن عمارة الأرض ليست غاية إسلامية فضلًا عن أن تكون معيارًا لتمسك المرء بالإسلام. وقصارى ما يقال عنها -كما يقول الشيخ كمال المرزوقي [3]- أنها مباحة لم يدع إليها الإسلام ولم ينه عنها.
-
نقد المقدمة الثانية:
لما تبين أن عمارة الأرض ليست مقياسًا لإسلام المرء وتقواه، وأنها لا تخرج الغربيين وأضرابهم من الذم الذي لحق بالأمم السابقة لكفرهم بالله وتكذيبهم بالنبوة، قال بعض من يصحح عبارة "إسلام بلا مسلمين" أن المقصود هو الأخلاق الإسلامية الرفيعة كالعدل والأمانة والصدق وما أشبه ذلك.
فلما ظهر لنا أن الغربيين يقيمون هذه الأخلاق، قلنا بإقامتهم للإسلام حتى وإن لم يكونوا مسلمين.
والحق أن هذا استدلال باطلٌ ركيك كسابقه ويتبين بما يلي:
1-     من قال أن الأمم السابقة وجاهلية العرب -على وجه التحديد- كانت خالية من الأخلاق الحميدة؟ ألم يتصف عرب الجاهلية بإكرام الضيف والغيرة والشجاعة وسقاية الحجيج؟
فهل أغنى ذلك عنهم من الله شيئًا؟ هل كان ذلك كافيًا لرفع وصفهم القرآني والنبوي بالجاهلية؟
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ((وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب)) [رواه مسلم]، وفي ذلك يقول الإمام النووي رحمه الله: "والمراد بهذا المقت والنظر ما قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد ببقايا أهل الكتاب الباقون على التمسك بدينهم الحق من غير تبديل" [4].
وقد قالت عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: ((يا رسول الله، إن ابنَ جدعان كان في الجاهلية: يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذاك نافعُه؟ قال: لا ينفعه إنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين)) [رواه مسلم]
وقد قال الله تعالى: ((أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين)) [التوبة/19].
2-     أعمال الكافرين مهما صلحت وحسنت فإنها لا تساوي -عند الله- ذرة من أعمال المسلمين، لأن العمل الصالح المقبول في الإسلام هو ما كان صاحبه مخلصًا لله تعالى متابعًا للنبي صلى الله عليه وسلم متحريًا بذلك عبادة الله على الوجه الذي يرضيه، فهل توصف أعمال الغربيين الكافرين الذين ما قصدوا الله سبحانه وتعالى بعبادة أو عمل ولم يتابعوا النبي صلى الله عليه وسلم بل ازدروا سنته ودينه بأنها إسلام؟ هم أنفسهم لم يريدوا موافقة الإسلام، فكيف يصح لعاقل أن ينسب أفعالهم إلى الإسلام لمجرد اتفاقهما في بعض النتائج؟ وهل هذا إلا عين الترقيع الأجوف؟
3-     الحكم بأن بعض أفعال الكافرين إسلام بناءً على اشتراكها الكلي مع الإسلام يؤول إلى التناقض الظاهر. فالحض على بر الوالدين -مثلًا- قيمة يشترك فيها الإسلام والنصرانية، فهل يصح أن نحكم على البار بوالديه بأن فيه إسلامًا ونصرانية لمجرد بره بهما؟ وهل هذا إلا تناقض فاحش؟!
4-     معنى الإسلام واضحٌ كما في الحديث الذي رواه مسلم: ((الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً‏))، فلا يصح حمله على مجرد الأخلاق التي تتفق مع الإسلام. إذ أن بطلان أصل الإسلام وهو توحيد الله سبحانه وتعالى يقضي على الفرع بالبطلان. والإسلام بهذا الاستخدام الاعتباطي للفظه ينتقل من كونه دينًا أنزله الله على الناس إلى مجرد أخلاقيات شكلية يشترك فيها مع غيره ولا يتميز بها عما سواه.
5-     أن يقال وصفكم لأفعال الغربيين بأنها إسلام لا يخلو إما أن تكون كل الإسلام أو بعضه، أي -بعبارة أخرى- إما أن يكون الغربيون قد أقاموا الدين كله بحذافيره أو بعضه. والأول ممتنع بطبيعة الحال لأن الغربيين كافرون بالله ونبيه صلى الله عليه وسلم ولا يؤمنون بالبعث والنشور كما في القرآن والسنة ولا يقيمون الصلاة...إلى آخر ذلك. فتبيّن بذلك أنهم مقيمون لبعض الإسلام. فيقال لكم: من أين لكم أن هذا القدر من أفعالهم كافٍ ليوصف بأنه إقامة للإسلام؟ ولم لا تكون إقامة الدين حقًا قدرًا أكبر مما فعله الغربيون؟ ومن هنا فإما أن يضعوا حدًا معقولًا له دليل من القرآن والسنة، أو يجعلوا نسبة العمل الواحد للإسلام كنسبة الأعمال الكثيرة. والأول اعتباطي لا حقيقة له والثاني ممتنع.
6-     يتفق أصحاب "إسلام بلا مسلمين" أنه ليست كل أفعال الغربيين موافقة للإسلام، فمنها كبائر عظمى كشرب الخمر والزنا، ومنها ما يناقض الإسلام حتمًا كاستحلال الحكم بغير ما أنزل الله والتكذيب بالقرآن. فيقال أن بعض أفعالهم توافق ما يدعو إليه الإسلام كالصدق والعدل، وهذا يختلف تمامًا عن القول بأن أفعالهم إسلام أو أنها تقتضي قيام الدين في بلادهم.

-
فتبين بعد هذا البسط المجمل أن عبارة "إسلام بلا مسلمين" جوفاء لا قيمة لها، بل معناها باطل وفاسد حتمًا لما فيه من وضع الشيء (الإسلام) في غير موضعه (الكافرين) وهذا عين الظلم والبغي.
فالغربيون جاهليون كمشركي العرب، ظالمون لغيرهم كقوم شعيب، ومتبعون لشهواتهم كقوم لوط.
والحمد لله رب العالمين.


-
البراء بن محمد
ماليزيا
الثلاثاء 1438/4/12هـ
الموافق 2017/1/11م

الأربعاء، 4 يناير 2017

كناشة الآجرومية

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد، فهذه كناشة لفوائد مستنبطة من بعض شروح متن الآجرومية الذي درسته شهرًا كاملًا، واستفدت كثيرًا من ذلك ولله الحمد.
ثم إنني قد طورت هذه الكناشة ونقلتها لبرنامج الـword، فاتسعت فوائد الكناشة، وأضفت إليها بعض الجداول والمشجرات لتسهيل حفظها.
يجدر بي التنبيه إلى أن هذه الكناشة ليست مقصودة لشرح المتن نفسه، وإنما لجمع أهم الفوائد من الشروح التي درستها. فهي تصلح مذكرة إضافية لدراسة متن الآجرومية أو مراجعته أو حفظه.
أسأل الله أن يتقبلها مني هدية لطلاب العلم وأن ينفعهم بها.

رابط الكناشة:
http://www.mediafire.com/file/k09c07bckg4gvcf/%C3%99%C2%83%C3%99%C2%86%C3%98%C2%A7%C3%98%C2%B4%C3%98%C2%A9_%C3%98%C2%A7%C3%99%C2%84%C3%98%C2%A2%C3%98%C2%AC%C3%98%C2%B1%C3%99%C2%88%C3%99%C2%85%C3%99%C2%8A%C3%98%C2%A900.pdf

ولا تنسوني من دعائكم.

والحمد لله رب العالمين.
1438/4/6هـ
2017/1/14م

السبت، 29 أكتوبر 2016

عقل في زجاجة!

بسم الله الرحمن الرحيم
(ما الدليل على أن عقولنا ليست محبوسة في قنينة زجاجية ويتحكم بها كمبيوتر يبعث إليها صورًا وتخيلات مخالفة لواقعها؟ ماذا لو كانت حياتنا حلمًا طويلًا ووهمًا كبيرًا؟)

كتبت قبل أربعة أشهرٍ(1) مقالًا في نقض الاعتقاد بأن عالمنا وهمٌ لا حقيقة له وأننا نسكن مصفوفة مغلقة يتحكم بها أحدهم.
تذكرت مؤخرًا أن باعث هذه الفكرة كان فيديو في اليوتيوب (2) عن المذهب الشكي skepticism وشكهم في واقعية عالمنا، فأعدت مشاهدة الفيديو وأضفت إليه اثنين من مقاطع الفيديو التي فيها محاولات فلسفية لإثبات أن عالمنا واقعي وأن عقولنا ليست حبيسة قنينة زجاجية.
لم تخل هذه المحاولات من الثغرات والأخطاء التي يمكن النفاذ منها وتقوية "شك" الشكاكين حول واقعية عالمنا.
أود تسجيل ملاحظة شخصية مختصرة بهذا الصدد:
خطأ الفلاسفة الذين حاولوا نقض فكرة أن عقولنا حبيسة قنينة زجاجية هي أنهم تعاملوا مع الفكرة كما لو أنها كانت شبهة فلسفية معتمدة على دليل حسي أو عقلي.
وحقيقة هذه الفكرة هي أنها معتمدة على مجرد الإمكان الذهني. أي: أنها ممكنة الوقوع عقلًا، فلا يترتب على ذلك أي استحالة عقلية كالجمع بين النقيضين مثلًا.
وهذا الجزء من الفكرة صحيحٌ لا غبار عليه لكنه ليس كافيًا ليكون دليلًا صحيحًا على دعوى تفتقر إلى الدليل.
وجود التنين ممكن عقلًا ولكنه مستحيل واقعًا، لا تجد عقولنا أي مشكلة في تخيل عالمنا بوجود تنانين، ولكن ليس لدى عقولنا أي دليلٍ يدعم إمكانية وجود هذه التنانين فعلًا خارج أذهاننا. هذا كل ما في الأمر.
من الممكن عقلًا أن تكون قد جئت إلى الأرض من كوكب مغايرٍ إلا أن والديك قد اتفقا على تضليلك بالقول بأنك ابنهما الذي خرج حصادًا للبذرة التي زرعاها وأشرفا على نموها. ومن الممكن كذلك أن يكونا قد اتفقا مع الكثير من الناس على الكذب عليك وإتقان هذه الكذبة جيدًا بحيث لا يخطر ببالك شكٌ أو جزء من الشك حول مبتدأ وجودك في الأرض.
كل هذا ممكن عقلًا إلا أنه مستحيل واقعًا. وما لم يطرأ أي شك قوي للغاية حول صحة نسبتك إلى والديك، فلا داعي لتجشم عناء فحص عينات الـDNA الخاصة بك ووالديك لتثبت أنك منتسب إليهما فعلًا. لن يصدر هذا الفعل غالبًا سوى من مجنون أو من غلبه الوهم أو عابثٍ شديد العبث.
نعود لفكرة العقل المحبوس في الزجاجة أو المصفوفة المغلقة.
لاحظ أن الفكرة كلها تعتمد ابتداءً على سؤالٍ افتراضي: (ماذا لو ...؟)، ثم يسترسل صاحب الفكرة في تشييد الفروض المنطقية التي يمكن أن تترتب على هذا الافتراض (العاري عن الدليل والبرهان). فيُذهل المستمع أو القارئ بقوة هذه اللوازم أو النتائج ويراها أنها ممكنة التحقق جدًا دون أن يلتفت إلى الأصل الواهي الذي تهدمه مروحة كهربائية بقوة الزر رقم 1.
وما يفعلونه يذكرني بما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فمن استدل على إمكان الشيء ووجوده في الأعيان، بإمكان تصوره في الأذهان، كان في هذا المقام أضل من بهيم الحيوان" [درء تعارض العقل والنقل 134/5]
الخلاصة: لا تبالغ النظر في النتائج دون أصلها الذي نشأت منه.
--
الهامش:
(1)
كتبت أصل المقال قبل أربعة أشهر، ثم عدلته ونقحته بعد ذلك ونشرته في قناتي بالتلغرام، قبل نشره مؤخرًا في المدونة.
(2)

الثلاثاء 1437/8/10هـ
2016/5/17م

بطلان الاعتقاد بأننا داخل مصفوفة أو حلم ووهم وخيال

بسم الله الرحمن الرحيم
يدعي بعض الناس أنه من الممكن أن تكون حياتنا وعقولنا حبيسة مصفوفةٍ ما matrix أو أن ما نشاهده ونعاينه ونحسه ونجسه من العالم الخارجي إنما هو حلمٌ ووهمٌ نعيشه، وليس له حقيقة ثبوتية.

وهذا الاعتقاد باطلٌ لا حقيقة له، وتلفيق لا أصالة له، بل هو كذب وتناقضٌ فج، وذلك لاشتماله على ما يخالف بدائه العقول السليمة.
ونبطل هذا الاعتقاد بما يلي:
1-هذا المعتقد مفتقر إلى الدليل، وحيث أن معرفته واستيعاب مفهوميته ليست مبدأً عقليًا قبليًا، ولا ضرورة عقلية يكتفى بالتمثيل بها لمعرفتها، بل هي معتقد مكتسب، فهي إذن مفتقرة إلى الدليل والنظر حتى تصح وتثبت. وأصحاب أو القائلون بهذا المعتقد لا يستندون في إثباتهم إياه على دليل، فهو معتقد مبنيٍ على عدم الدليل. وصحيحٌ أن عدم الدليل ليس دليلًا على العدم، ولكن عدم الدليل ليس بالتأكيد دليلًا على الثبوت والصحة (إلا إن كان وجود الدليل لازمًا عن وجود مدلوله).
2-يعتمد أصحاب هذا المعتقد على مجرد الإمكان الذهني، فيقولون: أليس من الممكن أن تكون عقولنا محدودة بمصفوفة ومُتحكمًا فيها من قِبَل موجودٍ خارجي؟ أليس من الممكن أن يكون دماغك موضوعًا في إناء زجاجي، وليس ثمة جسدٌ ولا واقعٌ وإنما هي إشارات وصور ذهنية نتعامل معها؟
وهذا ممكنٌ عقلًا، وليس ممتنعًا في ذاته، العقل يستطيع تخيل كل ذلك وتصوره، وليس هذا موضع النزاع قطعًا، إذ أن النزاع والخلاف بيننا وبينهم هو في ثبوت كل ذلك وتحقق وجوده. وهذا التحقق والثبوت ليس بحاصلٍ بالإمكان الذهني المجرد وحده، فحقيقة الإمكان الذهني هي عدم الامتناع، وليست هي ثبوت الأمر نفسه ووجوده. وبناءً على ذلك، فقد يكون هناك الكثير من الممكنات الذهنية التي يمتنع تحققها في أرض الواقع، لأن إمكانها الذهني يقتضي أن العقل يمكنه أن يتصور وجودها، لا أن وجودها حاصلٌ ومتحقق بالفعل خارج العقل.
3-تنقلب الحجة على أصحابها بقولنا لهم: سلمنا لكم بأننا نعيش داخل مصفوفة يتحكم بها موجود منفصل عنا، فكيف حكمتم بأن هذه المصفوفة حقيقية؟ والحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره، فكيف تصورتم المصفوفة وأنتم لم تخرجوا عنها ولم تعاينوا آثارها وحدودها؟
والحق أننا لم نميز الحلم من الواقع إلا بعد أن رأينا أن الحلم قصير الزمان وإن بدا طويلًا، ممكنٌ الخروج منه، ويحصل فيه ما لا يحصل في الواقع. فإن ظننت أنك حبيس حلم طويل يدور في ذهنك، فيجب عليك أن تثبت إمكانية الخروج منه، وكذلك مخالفته للواقع الذي يعيشه عقلك. ولن تستطيع إلى ذلك سبيلًا.
وهناك مشكلٌ معضلٌ في الاستدلال بآثار المصفوفة على وجود المصفوفة نفسها، إذ لو قيل بأن (س) أثرٌ للمصفوفة التي تحكمنا، فما الدليل على أنها أثرٌ لها؟ بل ما الدليل على وجود المصفوفة أصلًا؟
وهنا تتجلى المصادرة على المطلوب في أجلى صورها وأوضحها. إذ أن المطلوب إثباته هو وجود المصفوفة، وإثبات وجودها يتوقف على صحة نسبة هذه الآثار للمصفوفة مع استبعاد الاحتمالات الأخرى. والمستدل بالآثار هنا يصادر على المطلوب إذ يدعي صحة نسبة هذه الآثار إلى المصفوفة ولا دليل له سوى الدعوى المجردة عن الدليل.
4-أنتم تؤمنون بأننا داخل حلمٌ أو مصفوفة إما قطعًا ويقينًا وإما باحتمالٍ راجحٍ بدرجة كبيرة على نقيضه، فبم رجحتم هذا اليقين أو الظن؟ إذ أن معتقدكم هذا لو كان مساويًا في صحته لما يناقضه، لما صح لكم اعتناقه. فإن كان مرجوحًا على ما يناقضه، فما مرجحكم؟ حسنًا. لن نطالبكم بدليلٍ ثبوتي لتصحيح دعواكم، فهل عندكم من دليل نفي لنقيض دعواكم؟ أوليس رفع أحد النقيضين كافيًا في إثبات الآخر؟ إذن، فأثبتوا دعواكم بنفي ما يناقضها.
فتبين بهذه الوجوه أن هذا المعتقد وهم وباطل.
والحمد لله أولًا وآخرًا
الاثنين 1437/8/9هـ
2016/5/16م

الخميس، 30 يونيو 2016

اللحظة المناسبة بين الحقيقة والوهم

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبيه الكريم وبعد.
نستخدم مصطلح (اللحظة المناسبة) للتعبير عن الزمن الذي تبتدئ فيه مشروعاتنا الكبرى التي تتطلب بذل قدرٍ عالٍ من الجهد والوقت والتضحيات. وهذه الدلالة تؤكدها كلمة (المناسبة) التي تصف لحظة البدء تلك، فمناسبة اللحظة للعمل تقتضي بأن ابتداءه قبلها أو بعدها يفضي لفساده بالضرورة، وذلك لعدم مناسبة ذلك الزمن لهذا العمل.
عندما نقول: (اللحظة المناسبة) فإننا لا نقصد رقمًا مجردًا يعبر عن وقت معين كالعاشرة مساءً أو السادس من مايو، وإنما نقصد زمانًا تتهيأ فيه شروط حصول العمل وابتدائه وتنتفي وتختفي الموانع التي تعيق سيره وتجهضه قبل أن يبدأ. ومن هنا تحديدًا تنبع المشكلة التي سأشير إليها قريبًا في وسط المقال.
تؤكد تجاربنا وتجارب من نعرفهم أن كلمة (اللحظة المناسبة) أضحت مصداقًا قاطعًا لمفهوم التأجيل والمماطلة، فنحن نجد في أنفسنا تكاسلًا بيّنًا عن الأعمال التي نعلق ابتدائنا لها باللحظة المناسبة، وللأسف الشديد فإن دقة هذه الكلمة لا تعبر تمامًا عن دقتنا في تقييد أعمالنا بـ(الوقت المناسب).
أصبحت كلمة (اللحظة المناسبة) مطية لقاع الفشل والخسارة بدلًا من أن تكون جسرًا للنجاح والتفوق. 
فما السبب الذي يحيل تعبيرًا دقيقًا كهذا إلى تعبير مطاطي شديد المرونة والانسيابية؟ 
أحد هذه الأسباب هو أن اللفظ في حقيقته لا يحمل تلك الدقة المتناهية التي نتوقعها، فدقته -في حقيقة الأمر- هي أدنى بكثير من دقة التعبير عن زمن معروف وواضح كدقائق الساعة وأيام الأسبوع وشهور السنة. وذلك لأن تهيؤ الشروط وانتفاء الموانع يتعلق بزمان مبهمٍ غير معروف، والشروط والموانع لازمان من لوازم اللحظة المناسبة.  
هذه الملاحظة الدقيقة لا تنفي أن بعض السياقات تمنح دقة كبيرة لمصطلح (اللحظة المناسبة). فالتسجيل في مدرسة أو جامعة -معروفٌ وقت بدء التسجيل فيها- يرتبط باللحظة المناسبة التي لا تنفك عن هذا الوقت المعروف. أعني وقت التسجيل. باختصار، لن نستطيع أن ننفي أن الزمان الذي يعقب فترة التسجيل أو يسبقها لن يكون (لحظة مناسبة) للتسجيل. ومن ثم فلو قال أحدهم أنه يتحين (اللحظة المناسبة) ليسجل في هذه المدرسة أو الجامعة فتعبيره دقيق بالغ الدقة.
لكن ماذا عن المشروعات الفردية التي لا ترتبط بلحظة مناسبة معينة؟
ماذا عن التوبة؟ المذاكرة؟ ممارسة الرياضة؟ الزواج؟ ... إلخ
تُسأل عن سبب تأخرك في واحد من هذه الأعمال فتجيب قائلًا: أنتظر اللحظة المناسبة.
جميل أن تنتظر اللحظة المناسبة ولكن متى تحين هذه اللحظة المناسبة؟
ستفكر قليلًا وتنظر كثيرًا وتقلب رأسك يمنة ويسرة، ولكن قبل أن تخبرني بصعوبة تحديد هذه اللحظة، دعني أذكرك بمفهوم اللحظة المناسبة وهي اللحظة التي تتهيأ أو توجد فيها شروط العمل وتنتفي موانعه. 
سأتفق معك في صعوبة تحديد لحظة تعلم فيها وجود الشروط وانتفاء الموانع، ولكن سأسألك سؤالًا واحدًا: هل تعلم ما هي هذه الشروط الضرورية لعملك والموانع التي تعيقه وتجهضه؟
سأضيف إليه سؤالًا لا يقل أهمية عنه: لم لا تبدأ الآن؟! لم لا يكون الآن هو اللحظة المناسبة؟
لحظة من فضلك! لقد خطر ببالي سؤال أراه أكثر أهمية مما سبق: إن لم يكن الحاضرُ لحظةً مناسبةً لعملك، فما الذي ستبذله لتقريب هذه اللحظة وجذبها بحيث تكون (بعد قليل) لا (بعد كثير)؟
أوَ ليست مصلحتنا هي في أن تكون (اللحظة المناسبة) لمشروعاتنا العظمى أقرب إلينا من كل شيء؟ 
أو ليس من أعظم المفسدة أن يؤجل الواحد منا (لحظة مناسبة) لأنه لم يقدر قدرها جيدًا فتساهل بها وتجاهلها؟
...
أسئلة كثيرة لا تنتهي وكلها عن هذا المصطلح الذي صار تعبيرًا مهذبًا معقلنًا عن الكسل والخمول.
اللهم اجعل أعمارنا كلها لحظات مناسبة للخير والنجاح والتقدم
والحمد لله رب العالمين
كتبه البراء بن محمد
منتظرًا في مطار أبو ظبي
1437/9/25هـ
2016/6/30م  

الأحد، 7 فبراير 2016

رفع السوط على من دافع مسفسطًا عن قوم لوط

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبيه الكريم وبعد،
*السفسطة وفقًا لمعجم المعاني هي "قياس وهمي باطل غايته إسكات الخصم" وهي مصدر سفسط يسفسط فهو مسفسط. والمقصود بعنوان المقال الردُ على من يدافع بسفسطة عن قوم لوط، والوصف هنا كاشفٌ لا مقيد*
---
أنتج فريق برنامج الفئة الفالة حلقةً جديدة من برنامجهم عن زواج الشواذ الذي حدث في الرياض، ولاقت هذه الحلقة ردود فعلٍ عنيفة للغاية، وأدت هذه الردود أخيرًا إلى حجب الحلقة كما يقول أحد المقدمين.

وقد تطوع بعضهم لترجمة الحلقة إلى الانجليزية ليوصلها لأكبر شريحة.

رابط الحلقة المترجمة

وثار الجدل كثيرًا حول قول المقدم في الدقيقة 1:46 حيث أكد على أن ما يستحقه الشواذ من عقوبة هو الإعدام بالخازوق.
ومما لا شك فيه أن المقدم قد بالغ وأخطأ في تقريره عقوبة الشواذ أن تكون إعدامًا بالخازوق، ولكنه محقٌ من حيث المبدأ العام (أي: إعدام الشواذ) لأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ((من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به)) [رواه الترمذي وصححه الألباني].
والقول بقتل اللوطي قول فقهي معتبر(1)، وبعض العلماء قد قالوا بخلافه (2)، وما يهمنا في هذا السياق هو إبراز المغالطات التي جرت في الهاشتاق ردًا على حلقة الفئة الفالة ومقدميها.
-
المغالطات:
1-التلاعب بالألفاظ
2-الاحتجاج بالقدر
3-الدعاوى المجردة عن الدليل
4-رجل القش
-
1-التلاعب بالألفاظ والمفردات لا يغير الحقائق التي يقصد المتكلم أو الكاتب إيصالها، فالسياق دليلٌ على قصد المتكلم والكاتب، وهو الذي يحدد معنى المفردة التي يريدها. فإن كانت المعاني فاسدة باطلة فلا يغني عنها اللعب على وتر الكلمات.
الشذوذ (أو ما يسمونه بالمثلية): لفظٌ مجملٌ موهم، فتارة يقصد قائله الميل الجنسي والعاطفي، وتارة يقصد به اللواط والسحاق.
ولا يُلام الإنسان أو يعاقب بناءً على (محض) الميل الجنسي أو العاطفي فهذا مما لا يملكه غالبًا، ولكنه يُلام على اتباعه والانقياد له. كما أن الشهوة الجنسية قوية في الإنسان بحيث لا يستطيع مدافعتها إلا مع بالغ المشقة، لكن اتخاذ الأسباب التي تفضي إلى تهييجها خطأ يلام عليه الإنسان (مثال: النظر واللمس المحرم).
فمن يحارب الشذوذ حقيقةً هو يحارب الفواحش التي حرمها الإسلام، وكذلك أسبابه، فالحديث عن الميل الجنسي والعاطفي لا معنى له هنا.
فالعقاب -إذن- ليس على مجرد الغريزة -كما يحاول بعض الجهلة والملاحدة أن يصوروه-، وإنما على استخدامها في الحرام.


وأوردُ هنا إجابة مهمة للدكتور حسام الدين حامد حول هذه الجزئية.


-
2-الاحتجاج بالقدر هو دأب المبطلين والظالمين الذين يتهربون من عواقب أخطائهم التي جنتها أيديهم. وليس في القدر حجةٌ لعبد من عباد الله في كفره وظلمه ومعاصيه، بل هو على العكس من ذلك حجةٌ على من يحتج به ليغالط ويكابر.
وقد ألّف الإمام ابن تيمية رحمه الله قصيدة طويلة في الرد على من احتج بالقدر، وشرحها الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في كتابه (الدرة البهية، شرح القصيدة التائية في حل المشكلة القدرية)(3).
ويتجلى الاحتجاج بالقدر بأبشع صوره في تعجب (ف) من خلق الله للشواذ ومعاقبتهم على ذلك.
اعتراض (ف) اعتراضٌ سقيم ساقط لا يصدر إلا عن الجاهلين المغفلين!
(ف) يتلاعب ويشغب بلفظ الشواذ، كما بيّنا في مغالطة التلاعب بالألفاظ، بالإضافة إلى أنه يغالط باحتجاجه بالقدر.
فلم يفعل الشواذ ما فعلوه إلا بإرادة تستلزم وجود القدرة والاختيار. فهم مختارون قادرون، وعلى هذه (أي: الإرادة) قام تكليفهم، ومحاسبتهم، وبها يتحدد مصيرهم إما إلى الجنة أو النار.
وعقاب الشواذ ليس لمجرد ميولهم الجنسية، بل لاتباعهم إياها، كما أن عقاب شارب الخمر ليس لمجرد رغبته في شرب الخمر، بل لأنه اتبع رغبته وأطاع هواه فشرب الخمر.
وفيصل هنا -هداه الله إلى الحق أو جازاه بما يستحقه- يسيء أدبه مع الله ويتعجب من أوامره بصيغة اعتراضية، ولا يتعجب من طغيان البشر وفجورهم الذي يجعلهم يتمادون في معصية الله سبحانه وتعالى رغم علمهم بأمره ونهيه.
فمن أحق بالتعجب هنا؟ أو ليس العبد -الذي يمنحه سيده -ولله المثل الأعلى- كل فرص التوبة والمغفرة ثم يفر منه هاربًا متبعًا شيطانه وأهواءه- أحقُ بالتعجب والاستغراب؟
ويُقال كذلك لـ(ف): إن هؤلاء الشواذ الذين نعاقبهم إنما جرّوا العقوبة إلى أنفسهم بفعلهم هذا، كما أن المنتحر يستجلب الموت لنفسه ويلام عليه.
ونختم هذه الفقرة باقتباسين مهمين من كتاب ابن سعدي رحمه الله
يقول رحمه الله: "فإن مضمون الاحتجاج بالقدر؛ يعني: أن الله اضطره وألجأه إليه، وأكرهه عليه؛ وهو لا يريد الذنب. وهو كذبٌ صريح: فإن الله مكَّنه من الترك. بل فتح له كل باب يصد عن الذنب؛ وقد أبت نفسه الأمارة بالسوء إلا أن توقعه بالذنب. فالملام عليه لا على ربه" (4)
ويقول أيضًا: "فكفر الكافرين وإجرام المجرمين بمنزلة من أكل سمًا، أو قذف نفسه في نارٍ أو مهلكة؛ لا بد أن يترتب عليه مقتضاه وأثره.
فإذا كنت لا تعذر من أكل سمًا أو ألقى نفسه في تهلكة، وتنسب هلاكه إلى عمله-؛ فالكفر والمعاصي كذلك، بل أبلغ؛ لأن آكل السم والملقي نفسه بالهلكة، ربما يعرض بعض العوارض المانعة من الهلاك.
بخلاف الكفر وتوابعه؛ فإن آثاره مترتبة عليه قطعًا، إلا إذا رفعها العبد بتوبة نصوح" (5)
--
3-الدعاوى المجردة عن الدليل
من الباطل صياغة المقدمات الكاذبة للتوصل إلى نتيجة يزعم صاحبها أنها صادقة، ومن أبطل الباطل صياغة نتيجة مبنية على مقدمات معدومة، ثم الادعاء بأن هذه النتيجة حق، بل والزعم بأن من يخالفها مبطل ضال!
وقد رأينا هذه الدعاوى المجردة عن الدليل في نحو قول بعضهم:
(أ): يصف المطالبين بإعدام اللوطية بأنهم داعشيون يعبرون عن أفكارهم الداعشية.
(ب): يتسائل عن تقبل المسلمين المسالمين لغيرهم وكذلك للاختلافات والحب بمختلف أشكاله.


لا يقوم لـ(أ) هنا أي دليل أو حجةٍ في أن قتل اللوطي خاطئ أخلاقيًا سوى تشبيه من يدعو إلى ذلك بداعش.
فكان ماذا؟
هل اشتراكه في هذه الجزئية مع داعش أو غيرها يجعلها خاطئة بالضرورة؟ أم أنه مجرد تشغيب لفظي لا معنى له؟
إن ثبت أن قتل اللوطي فكرة داعشية المنشأ (وهذا تخريف باطل بلا شك، فالقول بقتل اللوطي قديم سابق لداعش)، فيجب عليه بعد ذلك أن يثبت أن جميع أفكار داعش باطلة أو أن هذه الفكرة على وجه الخصوص باطلة، ولا يصح له تعليل بغير الخيارين السابقين. إذ أن الأول يقتضي صحة كلية موجبة (جميع أفكار داعش باطلة) تندرج تحتها جزئية موجبة(فكرة قتل اللوطي)، وصحة الخيار الثاني تقتضي بالضرورة أن ربطه إياها بداعش عبثٌ وتشغيب. فإن كانت الفكرة خاطئة لذاتها، فمجرد نسبتها لداعش أو غيرها من المنظمات لا يثبت خطأها وفسادها.
-
أما (ب) فهو يبني الشق الثاني من التغريدة على الشق الأول، فهو يفترض ابتداءً أن كون الشخص مسلمًا ومسالمًا يستلزم تقبله لللواطة تحت مسمى (تقبل الاختلافات والحب بكل أشكاله)!
من أين لك أن عمل قوم لوط = حب واختلاف مقبول في الإسلام؟
عمل قوم لوط غير مقبولٌ في الإسلام حتى ولو قبله أهل الأرض كلهم، ومن ثم فيجب على المسلم ألا يقبله ويرضى به. لا يقبل المسلم اللواط كما لا يقبل القول على الله بغير علم والشرك به، والقتل والظلم والزنا والربا وسائر الكبائر والصغائر.
فرفض المسلم لللواط إنما هو من حيث كونه مسلمًا، فمطالبتك للمسلم بقبول اللواط مشابهةٌ (إن لم نقل أنها مماثلة) لمطالبة المسلم برفض الإسلام جملة وتفصيلًا.
---
4-رجل القش مغالطةٌ شهيرة وهي من أصول التفكير السقيم. يخترع أحدهم حججًا افتراضية وينسبها إلى خصومه أو يشوه حججهم الأصلية ليظهر بمظهر المنتصر الذي نصر الحق وأبطل الباطل. وكل ما صنعه -في حقيقة الأمر- هو الهروب من إلزامات خصومه وحججهم، إلى أوهام يزيفها لينتصر بها لمذهبه.
وهذه المغالطة تكررت كثيرًا في الهاشتاق، وهذه بعض الأمثلة لها:
(م): مطالبتك بقتل الشواذ بسبب اختلاف ميولهم الجنسية تجعلك داعشيًا
(ح): المطالبة بقتل أشخاص بسبب قرارتهم (يقصد الشواذ) متنافٍ مع التسامح
(ع): من الحمق الكبير التدخل في خصوصية شخصين في غرفة مغلقة

---
ليس لدى (م) جديدٌ يذكره بخصوص الشذوذ الجنسي، فما قاله باطلٌ بينّاه في بداية هذا المقال. الجدير بالذكر أنه استخدم نفس مغالطة (أ) حين نسب قتل اللوطي إلى داعش.
ليست حجة الفقهاء القائلين بقتل اللوطي هي مجرد اختلاف الميول الجنسية كما يحاول (م) أن يقرر هنا، فإن كان (م) قادرًا على التخريج الفقهي المنضبط، فليفعل ذلك مشكورًا مأجورًا، وإلا فإن تكرار نفس الهراء الذي يقوله بعض الناس لا يغني ولا يسمن أبدًا.
-
يكرر (ح) نفس العبث الذي انتقدناه سابقًا، ولكن المفارقة الطريفة هي أن حجته التي يذم بها المنادين بقتل اللوطيين يسهل قلبها عليه. إذ أننا نعاقب القاتل والسارق ومغتصب النساء والمتحرش بهن لأجل قراراتهم التي اتخذوها، فإن حاول (ح) أن يفرّق بين هذه الجرائم السابقة وجريمة اللواط، فيقال له: إن العلة التي تذم لأجلها من يقول بقتل اللوطي هي نفسها العلة التي نعاقب بها أصحاب تلك الجرائم. قد تضيف عللًا أخرى تجعلك تقبل معاقبة القاتل دون اللوطي (مثل أن القتل جريمة متعدية، وأن ضررها أكبر...إلخ)، ولكن العلة الجوهرية التي انتقدنا بسببها موجودةٌ أيضًا في عقوبة القاتل، إذ أننا نعاقب القاتل بسبب اتخاذه بنفسه لقرار القتل، فما يلزمنا في عقوبة اللوطي يلزمك في عقوبة القاتل.
ويقال أيضًا لـ(ح) ومن احتج بمثل حجته أن هؤلاء اللوطيين قد اتخذوا قرارات خاطئة، وهذا يلزمهم بالطبع أن يقبلوا بالتبعات المترتبة على اتخاذهم لهذه القرارات. كما أن القاتل قد اتخذ قرارًا خاطئًا بالقتل، ومن ثم فيجب عليه أن يتحمل تبعة هذا القرار وهي العقوبة الشرعية.
-
تفترض (ع) أن هناك شيئًا خاصًا لا يحق لنا التدخل فيه، وشيئًا عامًا يكون من حقنا التدخل فيه. حسنًا، ما هو المعيار المنضبط الذي يطرد به هذا التقسيم؟ هل هو معيار شرعي؟ عرفي؟ قانوني؟ ليبرالي؟ الله أعلم.
تمارس ع تصويرًا سيئًا للقضية هنا، حيث أنها تفترض أن ذمنا للشواذ ومؤيديهم نابعٌ من تدخلنا فيما هو خاص بهم. وبغض النظر عن أننا لم نتجسس عليهم ابتداءً، وأنهم هم الذين جاهروا بذلك وافتخروا بدون أن يشعروا بعيب أو خجل.
بغض النظر عن هذا كله، من أين للعزى أن معاقبة اللوطية = تدخل فيما يختص بهم؟
ثبت أن اللائط والملوط به مجرمان لارتكابهما جريمة اللواط، وهذه الجريمة مستحقة للعقوبة (حتى عند الفقهاء الذين لا يقولون بأن حد اللواط هو القتل)، فهل لدى العزى دليل شرعي يضاد ذلك؟
ثم هب أننا سميناه تدخلًا، هل سيغير هذا من حقيقته الشرعية شيئًا؟ لا وألف لا.
-
لم تكن هذه التغريدات وغيرها آراءً تمثل أصحابها وحسب، بل كانت ممثلًا للكثير من المغردين الذين أعادوا تدويرها وفضلوها. ورغم أن مغالطاتها ظاهرة للعلن، إلا أنه لم يوجد من ينتقدها ويفندها ويظهر ما فيها من باطل.
وهذا من أكبر الدلائل على غياب العقل الناقد عند كثير من الناس -والله المستعان-.
-
بقي أن أتساءل: هل مشكلة المعترضين على قتل اللوطية هي في عدم التسليم للنصوص الشرعية أم في عدم ثبوتها؟
أترك الإجابة للقارئ الكريم.
والحمد لله رب العالمين.
البراء محمد
صباح الأحد 1437/4/28هـ
الموافق 2016/2/7م
الهامش:
(1): انظر إن شئت
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=158714
http://fatwa.islamweb.net/fatwa/index.php?page=showfatwa&Option=FatwaId&Id=1869
https://islamqa.info/ar/38622
(2): ينبغي التنبه إلى أن وجود الخلاف بذاته ليس دليلًا ولا مرجحًا لقولٍ من الأقوال، والترجيح بالخلاف مذهب باطل.
وانظر إن شئت
http://www.dorar.net/article/460
(3): رابط الكتاب
http://waqfeya.com/book.php?bid=4995
(4): الدرة البهية ص67
(5): المصدر السابق ص59