السبت، 24 مارس 2018

ثمانية حكم من تحقير مصارع عتاة الكفار

بسم الله الرحمن الرحيم 
الحمد لله ناصر المؤمنين مخزي الكافرين، والصلاة والسلام على نبيه الهادي الأمين وآله وصحبه وأجمعين. 
أما بعد، 
فإن للموت هيبة يجدها كل إنسان في نفسه، غير أن ميتة الشجاع الكريم ليست كميتة الجبان اللئيم، وفي كلٍ عبرة وعظة للعقلاء. وعوائد الناس تخبرنا أن قوة هيبة الموت تجعلهم يميلون بقصد أو بغير قصد إلى تعظيم الميت، والإسهاب في ذكر محاسنه لداعٍ ولغير داعٍ. وليس الشأن في ذكر سير الصالحين المتقين للتأسي بهم، والترحم عليهم، والتصدق عنهم، ولكنه في رفع مكانة المجرمين الظالمين، وتلميع صورهم التي تلطخت بقذارة أفعالهم. وفي هذا تطبيع للجريمة والضلال، وتحسين للقبيح، وتعويد النفس على الخسة والوضاعة. وكل ذلك يهون عند تجاوز محكمات الشريعة وقطعياتها باتباع العاطفة العمياء، فتجد أحدهم يترحم على أعداء الله الكافرين، والآخر يفرش لهم صراطًا إلى الجنة، وأحسنهم حالًا (وكلهم فاسدو الحال) من يختزل سيرة الرجل في أعماله الدنيوية ويتجاوز كفره الظاهر، وتصريحه بعداء الله وأوليائه، أو يدّعي جهله ولاأدريته بحال الرجل لأنه ربما مات على دين الله وشرعه.
ولم يكن هلاك الملحد المحاد لله ستيفن هوكينج استثناءً، بل كان أعظم فتنة لكثير من المنافقين وضعيفي الإيمان، فمن قاطعٍ بأنه خير عند الله من مسلم معين، وآخر جازم بأنه في الجنة، وثالث يترحم عليه، ورابعٍ يعظمه ويبالغ في مدحه، وهكذا يزداد المفتونون الضالون. 
لكن لم تكن الحياة خلوًا من رجال غيورين للحق، قائمين بأمر الله، مصرحين بشرعه لا يهابون في ذلك إرجاف الجبناء، ولا ينساقون خلف شبهات مطموسي البصيرة ورقيقي الديانة. وهؤلاء هم بقية الخير في الأرض، والنور الساطع في وسط الظلمة الكالحة. فنسأل الله أن يعينهم ويزيدهم من فضله وبركته. 
وتأسيًا بهؤلاء الأكارم الأخيار، أحببت أن أبين المصالح العظيمة في تحقير مصارع الكافرين أعداء الله (وأخص منهم من ظهرت عداوته لله بإمعانه في الباطل ومجاهرته به وفتنة الناس به)، وما في ذلك من الحكم البالغة التي تنقل معركة الحق والباطل إلى الهجوم على المبطلين، عوضًا عن ترقب هجماتهم على الدين.
وهذه الحكم بينها تداخل ظاهر، وليس هذا بمانع من اختصاص كلٍ منها بوجه معين.
1- موعظة الموت: 
قال تعالى: ((قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون)) [الجمعة/8]
إن الموت واعظ لكل من غرق في غفلته، وأعمته شهواته عن تبصر الحق. كيف لا وهو يهدم اللذات ويقطع الشهوات ويقرّب النفوس من رؤية الحقائق التي توارت خلف ظلمة الأهواء الكالحة. لكننا ننسى الموت ونغفل عنه كثيرًا لأن أملنا أطول من أجلنا الذي لا نعرف نهايته. نبذر البذرة ونحن ننظر إلى النبتة التي ستنتج عنها، ونأكل الأكلة ونحن نترقب هضمها والتخلص من فضلاتها. وننام ملء الجفون أملًا في بزوغ شمس الصباح. كل هذا والموت غائب عن الذهن. وفي مصرع الكافرين أبلغ مذكر بالموت وأنه لا يستثني أحدًا من الخلق مهما طال عمره.

2- التزهيد في الدنيا:
قال تعالى: ((وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون)) [الأنعام/32]
ينبغي أن يكون هلاك عتاة الكافرين واعظًا لمن غرق في دنياه باللهو واللعب أن يرتدع ويكف عن باطله. فقد رأى في مصارع الظالمين ما يعكّر أحلامه الوردية التي تصبغ واقعًا مختلفًا عنها تمامًا. يجب أن يعلم الكافة أن الدنيا بمبانيها، ومنجزاتها، وتطورها لا تعني عند الله شيئًا ما لم يكن ذلك مقصودًا لإرضائه سبحانه وتعالى. مهما تنامت ثروتك، وتزايدت شهواتك، فكلها تساوي صفرًا في الميزان الإلهي. إن تضخيم إنجازات كافر بالله وتهوين كفره جريمة لا تغتفر. ولمحو آثار هذه الجريمة الشائعة، فإننا نذكر الناس بأن دنيا الكافرين هي جنتهم الزائلة التي يعقبها جحيم أبدي لا يملكون له تخفيفًا ولا يستطيعون منه هربًا.

3- تذكير الناس بغاية الله من خلقهم:
قال تعالى: ((وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون * ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون)) [الذاريات/56-57]
صدق الله العظيم. فأنى لمحاربٍ لله ورسوله أن يحقق غاية الله من خلقه وهو مقيم على كفره وفجوره؟ وهل يصح وصف هذا بالناجح في حياته؟ وهل ينبغي أن يكون قدوة لمن هو دونه؟ بل هلاك أمثال هذا هو أكبر دليل على فشلهم وسفالتهم وأن حياتهم ضاعت هدرًا فيما لا ينبغي لها.

4- تحقيق البراء من الكافرين:
قال تعالى: ((لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آبائهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم...الآية)) [المجادلة/22]
وهلاك رؤوس الكفر والضلالة أولى فرصة باستغلالها لإظهار بغض الكفر وأهله، وأن تلك الحمية والغيرة هي لله عز وجل ومحارمه التي انتهكها أهل الأهواء والضلالات.

5- تصحيح معايير الناس في الحكم على الأشخاص:
قال تعالى: ((إن أكرمكم عند الله أتقاكم...الآية)) [الحجرات/13]
لا يتذكر الناس هذه الآية إلا في سياق محاربة النزعات الجاهلية التي ترفع أقوامًا وتخفض آخرين لاعتباراتٍ أبطلها الشرع كاللون والتعصب القبلي ولكنهم لهوى في أنفسهم لا يتذكرون أعظم نزعة جاهلية وهي التعصب للدين الفاسد الذي لا يرضاه الله. بل هم أول من يبطل محاكمة الكفار إلى معيار الله بدعوى أنهم معذورون بجهلهم، وأن أعمالهم الدنيوية التافهة تشفع لهم عند الله!
وفي تحقير مصارع الكافرين أعظم بيان للمعيار الشرعي الذي يُحاكم الناس إليه وهو تقوى الله. إن أفسق مسلم على وجه الأرض خير من ألف ألف كافر محسن إلى الناس بأمواله، لأن شيئًا من تقوى الله ومحبته قائم بنفسه، بخلاف تلك النفوس الخبيثة التي ما عرفت الله وجحدت حقه سبحانه وتعالى.

6- كسر الهوى في نفوس الأتباع:
قال تعالى عن فرعون: ((فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوم فاسقين)) [الزخرف/54]
لم يتمكن فرعون من إضلال قومه لولا سفاهتهم وأهوائهم التي صرفتهم عن عبادة الله وحده إلى عبادة مخلوقه الحقير الذي رفع نفسه إلى مرتبة الألوهية. ونظائر فرعون كثرٌ في التاريخ، فهم طواغيت يرتقون فوق رؤوس أتباعهم السفهاء. وفي مصرعهم آية لمن اغتر بهم لهواه ومرض نفسه. ألا ترى كيف كان مصرع قارون صفعة لمن اغتروا بظاهر ما امتلكه من الدنيا واكتفوا بذلك عن باطنه الخَرِب الذي يخلو من تقوى الله ومحبته.

7- الاعتزاز بالدين وتعظيمه في النفوس:
قال تعالى: ((ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين)) [آل عمران/139]
وفي تحقير مصارع الكافرين تذكير لأهل الإيمان أن عزتهم إنما هي لإيمانهم بالله، وأن غلبة الكافرين بأموال الدنيا وقوتها إنما هي مؤقتة لا تدوم، ثم تكون عليهم الذلة والصغار، والعذاب المهين في الدنيا والآخرة.

8- التذكير بالإخلاص:
قال تعالى: ((من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذمومًا مدحورًا)) [الإسراء/18]
وما من شك أن عتاة الكافرين أكثر الناس حرصًا على الدنيا وعلى الإعراض عن الإخلاص لله تعالى، وأن كل ما يفعلونه إنما هو لإرضاء شهواتهم الحسية والمعنوية. وتحقير مصارعهم فيه تذكير بضرورة الإخلاص لله كي لا تؤول محاسن الأقوال والأفعال إلى عواقب مرذولة وتكون عديمة الحاصل والمردود.

اللهم أمتنا على دين الإسلام، وملة إبراهيم عليه السلام، واحشرنا مع الأنبياء والمتقين والصالحين.
البراء بن محمد
السبت 1439/7/7هـ
2018/3/24م

الاثنين، 12 مارس 2018

تلخيص مقاصد الاختلاف في اللفظ لابن قتيبة

بسم الله الرحمن الرحيم 
الحمد لله المتفضل على عباده بنعمة الهداية والنور، والصلاة والسلام على نبيه الأمين مبلغ الرسالة، وآله وصحبه الكرام ومن استنار بسنته وهديه. 
أما بعد، 
فإن من أنفع الكتب التي دافعت عن معتقد أهل الحق السائرين على ضوء النبوة المقتفين لآثار الصحابة ومن تبعهم بإحسان هو كتاب الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة للإمام ابن قتيبة الدينوري رحمه الله. 
وقد تضمن كتابه أهم ثلاث مسائل محورية كان عليها مدار الخلاف والنزاع في تلك الحقبة الزمنية، وهي: القدر والأسماء والصفات واللفظ بالقرآن.
وقد رأيت أن من النافع تلخيص مقاصد الإمام، واختصار أدلته اختصارًا لا يغني عن قراءة أصله الغني بالفوائد، ولكنه يثبت المعلومة، ويعين على الفهم. وقد نشرت تلخيصي في غير هذه المدونة، وكنت قد هممت أن أنشره في مدونتي لرجاء بقائه وثباته فيها. ولكنني انشغلت عن ذلك تارة، ونسيته تارة أخرى، وربما غلبني الكسل أحيانًا. 
وعلى كل حال، فهذا هو التلخيص الذي أسأل الله أن ينفع به، وأن يثيبني عليه ويجعله خالصًا لوجهه. 
والله أعلم وأحكم 
البراء بن محمد 
الإثنين 1439/6/24هـ
2018/3/12م 

الاثنين، 5 فبراير 2018

الشك والشاك: حين يقع الصياد في مصيدته (الجزء الأول)

بسم الله الرحمن الرحيم
--
قال الله تعالى: ((وقل رب زدني علمًا)) [طه/114].
--
"وفي الجملة فالحيرة من جنس الجهل والضلال" (1).
--
الحمد لله الذي امتن على عباده بالفطرة الصحيحة، وألهمهم المعرفة بعقولهم وحواسهم، وزرع اليقين في نفوسهم برسالة أنبيائه عليهم الصلاة والسلام، وأظهر لهم حجج الحق وبراهينه، وفصل بين خلافاتهم وأهوائهم بوحيه. 
والصلاة والسلام على نبيه الأمين الذي بلغ رسالة الإسلام إلى الناس أجمعين، متمًا بذلك نور الله ولو رغمت أنوف الكافرين والمشركين. 
أما بعد، فقد توهم طائفة من الخلق كمالهم وفضيلتهم في الشك والحيرة، وزعموا أن بلوغ الحقائق، والتخلص من الأهواء لا يكون بغير الانتقال من اليقين إلى الشك، والنظر في ما علموه ضرورة وتيقنوا منه، وفحص كل معرفة اكتسبوها بمنظار التكذيب إلى أن تصمد قائمة بلا اعوجاج. 
فزعم أحدهم مثلًا أن انحيازات النفس الباطلة لا مناص منها، وأنها لا بد واقعة فيها، وأن الظهور عليها لا يكون بغير إعمال الشك، وتقليب الفكر دومًا، بحيث لا تقوم خاطرة من العلم في النفس من غير أن تمر بقنطرة الشك والاستفسار. 
ولكن هل يصح في الوجدان والأذهان أن يقال أن اليقين مبني على الشك؟ وأن الجهل أس العلم؟ وأن الظلام مصدر النور؟ وأن الحيرة طريق الطمأنينة؟ 
وهل يسوغ لزاعم أن يزعم انقلاب الأضداد وتحول النقائض بحيث يمسي المرء جاهلًا ويصبح عالمًا؟ وأن قلبًا مهزوزًا بالحيرة والضياع قد استقر باليقين والعلم بسبب اهتزازه ذاك؟ 
فهل يأكل الناس بجوعهم؟ وهل يفرحون بأحزانهم؟ وهل يتحركون بسكونهم؟
--
"علم اليقين عندنا واردات ترد على النفوس تعجز النفوس عن ردها" (2).
--
السماء فوقنا، والأرض تحتنا، 1+1=2، نحتاج للشرب والاغتذاء كي يستمر البقاء. 
هذه وغيرها حقائق اكتسبناها، وجزمنا بها، وعملنا على مقتضاها، حتى كاد التذكير بها يوحي بفساد الطبيعة وزوال الإدراك أو شدة العناد والبلادة. 
لم ننتظر برهانًا منطقيًا عليها، ولا حجة فيلسوف تنصرها، ولم نرخِ سمعًا لمن يزعم خلافها. وكان هذا دليل كمال عقولنا وإدراكنا. 
عقلناها صغارًا، وبنينا عليها أفكارنا ورؤانا ونحن كبار. كانت هي أساس الحقائق التي عرفناها. كانت ضرورات حسية وعقلية لا نتصور زوالها. 
--
"اعلم أن كثرة التعنت في النظر تؤدي إلى طلب تحصيل الحاصل والتشكيك فيه" (3).
--
اليقين من أظهر الحقائق التي يعجز اللسان الإنساني بمختلف لغاته من حدها بتعريف جامع مانع، والناس يشعرون به، ويدركونه في أنفسهم بغير حاجة إلى معلم ودليل. إلا أنه قابل للزوال كسائر النعم الإلهية التي يعاقب العبد بحرمانها إن أساء استعمالها وتصريفها. 
ونبتدئ بالظاهر البين لنستدل به على الباطن الخفي. 
فكم من عاقل أفسد عقله وفكره بكؤوس الخمر فتصرف كالصبيان والحيوانات؟ 
ومن فسد إدراكه فسد يقينه قطعًا. 
فما بال حكيم نراه قد تسافه في آخر عمره؟ وآخر تحول من إيمان إلى كفر؟ وثالث غير أقواله بمجرد أن تبوأ منصبًا رفيعًا واكتسب مالًا عظيمًا؟ ورابع ظل حياته متنقلًا ذات اليمين وذات الشمال؟
هل تعدد الحق أم تعدد الضالون؟ 
كنا لا نتصور إنسانًا بعقله ينفي وجود الله وصفاته، وينسب الخلق البديع، والتصميم الرفيع إلى العدم واللاشيء. فإذا بموجة الشبهات والشك تجتاح قومًا فتزلهم عن الحق، وتضلهم عن طريق الصواب. 
لم يخطر ببالنا يومًا أن يأتي من يزعم أن السنة باطلة ليس عليها عمل ولا يؤخذ منها علم، وأنها كأساطير الأولين، وحكايات الأقدمين. فأصبحنا وقد تنكر لها أناس كانوا يتعبدون إلى الله بأحكامها يومًا. 
لم نتخيل أن يأتي من يعتبر اللواط فطرة صحيحة، ويزيل عنه وصف الفحش والقبح، ليحيله عادة مقبولة يجب على الناس الدفاع عنها.
لم نعلم أن الله سيبتلينا بمن يرى إسرائيل دولة مشروعة الوجود والنفوذ. وأن دماء المسلمين التي سفكتها حق لها. 
لقد كنا نعد تكور الأرض حقيقة لا تقبل النقاش والجدال فضلًا عن تصور النقيض بلا سخرية واستهزاء، فإذا بجمع ممن كنا نعرفهم قد كذبوها وشكوا فيها، بل عدوها زيفًا أجمع الناس عليه. 
لقد اهتزت المسلّمات في القلوب، وهوت النفوس من علياء المعرفة إلى وحل الجهل! 
--
"أنبأنا محمد بن ناصر نا الحسن بن أحمد بن البنا ثنا ابن دودان نا أبو عبد الله المرزناني ثني أبو عبد الله الحكيمي ثني يموت بن المزرع ثني محمد بن عيسى النظام قال مات ابن لصالح بن عبد القدوس فمضى إليه أبو الهذيل ومعه النظام وهو غلام حدث كالمتوجع له فرآه منحرفا فقال له أبو الهذيل لا أعرف لجزعك وجها إذا كان الناس عندك كالزرع فقال له صالح يا أبا الهذيل إنما أجزع عليه لأنه لم يقرأ كتاب الشكوك فقال له أبو الهذيل وما كتاب الشكوك قال هو كتاب وضعته من قرأه يشك فيما قد كان حتى يتوهم أنه لم يكن وفيما لم يكن حتى يظن أنه قد كان فقال له النظام فشك أنت في موت ابنك واعمل على أنه لم يمت وإن كان قد مات فشك أيضا في أنه قد قرأ الكتاب وإن كان لم يقرأه." (4).
--
إن كان الشك بذرة فقد أنبتت جهلًا، وقد هدم الجهل كل الفضائل وأفسد جميع الأخلاق. 
فهل كان الشك علاجًا لمريض وغذاء لجائع؟ 
لقد شك السوفسطائية فأنكروا الحقائق، وشك ديكارت ومن قبله الغزالي ليثبتوا الحقائق. وما بينهما بين الشرق والغرب! 
فهما منهجان معروفان للشك، أحدهما يهدم الحقيقة، والآخر يوهنها ويضعفها. وإليك البيان: 
فالسوفسطائية: "ثلاثة أصناف ؛ فصنف منهم نفى الحقائق جملة ، وصنف منهم شكوا فيها ، وصنف منهم قالوا : هي حق عند من عنده حق ، وهي باطل عند من عنده باطل ." (5). وقد نقلها ابن حزم عن سلف من المتكلمين كما قال. وذكر خبر السوفسطائيين (6) شائع في كتب العقائد ومقالات الفرق والمذاهب. 
أما أشهرهم، فهو بروتاجوراس الذي قال: "الإنسان مقياس كل شيء"، وهو الذي نفى علمه بوجود الآلهة أو عدمها وأن معرفة ذلك متعذرة (7).
على أن نفس المصادر التي أشارت لوجود السوسفطائيين قد أشارت إلى وجود تيار من الشكاك في اليونان. ولا أدري ما وجه التفريق بين هؤلاء الشكاك والسوفسطائيين وهو مخالف لما توارد عليه المتكلمون والنظار الإسلاميون من اعتبار الشكاك في الحقيقة من جنس السوفسطائية ولعل ذلك لعدم انشغالهم بمعرفة أقسام الفلسفات اليونانية المختلفة.
إلا أنني قد وجدت بعض التفسيرات المتناثرة في بعض هذه المصادر. فيوسف كرم، على سبيل المثال، يقول: "لم يكن الشاك في هذا الدور نافيًا متهكمًا كالسوفسطائي ولكنه رجل مغلوب على أمره فقد الإيمان بالحق والخير في بيئة تبلبلت فيها الأفكار وفسدت الأخلاق إلى حد بعيد فانعزل في نفسه لا يوجب ولا ينفي وإنما يقول: لا أدري، ولم يكن كالسوفسطائي مزهوًا بفنه طالبًا للمال، ولكنه كان جادًا معرضًا عن متاع الدنيا، أقرب في أخلاقه إلى الرواقية منه إلى الأبيقورية، ولم يكن هدامًا مثله، ولكنه كان يرى في الإخلاد إلى التقاليد والعقائد الشعبية وسيلة إلى الراحة والاطمئنان، وكان السوفسطائيون مبتدئين يحاجون بلا ترتيب ولا منهج، أما الشكاك فأناس انتفعوا بتقدم الفكر اليوناني فأتقنوا المحاجة على أصولها وأبلغوا الشك أشده وأقاموه مذهبًا بين المذاهب." (8).
وقريب من ذلك قول اميل برهييه في توصيف السفسطة: "ان السفسطة، التي وسمت بميسمها العقود الاخيرة من القرن الخامس، لا تشير الى مذهب، وانما الى طريقة في التعليم ." (9).
ومن وجه آخر يقول الدكتور توفيق الطويل: "يبدو الشك البيروني متخاذلا يائسًا مترددًا لا يقوى على إصدار حكم إيجابيًا كان أو سلبيًا ، فيلوذ بالعرف والتقاليد الشعبية ويلتمس في رحابها الأمان ، إنه يؤثر العافية فيعلن لا أدريته التماسًا للسعادة وطمأنينة النفس كما أشرنا من قبل .
أما ما يسمونه بالشك السوفسطائي فقد كان شك القوى الذي يضيق بالقيم المألوفة في مجال الحق والخير فيتصدى لنقدها وبيان تهافتها والسخرية منها في غير حيطة ولا حذر ، ومن غير أن يقيم للعرف وزنًا أو يلجأ إلى التصورات والمعتقدات الشعبية ." (10).
وجاء في (قصة الفلسفة اليونانية): "لم يكن السوفسطائيون مدرسة فلسفية كالفيثاغوريين أو الإيليين، لها آراء خاصة تربطها عقيدة فلسفية، إنما كانوا طائفة من المعلمين متفرقين في بلاد اليونان اتخذوا التدريس حرفة" (11).
فلنا أن نستلهم من هذه التفصيلات فرقين مهمين بين شك السوفسطائية وشك الشكاك: أولهما: أن شك السوفسطائية لم يكن يمثل مذهبًا متكاملًا كشك الشكاك الذي ثبت نفسه بين فلسفات اليونانيين القديمة. ثانيهما: أن شك الشكاك كان يمثل أزمة كبيرة لهم بخلاف شك السوفسطائية الذي كان يُتخذ براجماتيًا للوظيفة والتعليم.
لكنهما يلتقيان في إنكار الحقائق. فسواء كنت تشك في إمكانية المعرفة وتشك في شكك لئلا تتناقض! (12) أو كنت تشك في إمكانية المعرفة وحسب فإن النتيجة واحدة وهي إنكار ثبوت الحقيقة فضلًا عن إدراكها. [ومن هنا نفهم لم اعتبر بعض المتكلمين الشكاك في الحقيقة من جملة السوفسطائية. هذا مع اعتبار أن المتكلم لا يبحث في تاريخ مقالة السوفسطائية منكري الحقائق إلا بقدر ما يكتفي به في نقض مذهبهم تفريعًا على ثبوت الحقيقة وإمكان المعرفة وهما مقدمتان ضروريتان لتأصيله وفكره. ومن ثم فليس المتكلم مطالبًا بتقرير مذهب الشكاك منفصلًا عن السوفسطائية لمجرد اختلافهم في شيء من التأصيل والظروف إذ أن نتيجتهم واحدة].
ولنا أن نلخص تيار الشك في اليونان اعتمادًا على ما ذكره Richard H. Popkin في مقدمة كتابه The History of Scepticism حيث ذكر أن مواقف المفكرين اليونانيين في الحقبة الهلينية قد تطورت لتقيم حججًا لاستحالة المعرفة وتمثل هذا في تيار الشكوكية الأكاديمية وعدم كفاية الدليل على إمكان المعرفة، وأن تعليق الحكم وتأجيله متعين لذلك وتمثل هذا في تيار الشكوكية البيرونية. (13)
وإذا أردنا قسمة أعم من هذه فلنا أن نقول كما قال ديوجينيس اللائرتي مؤرخ الفلاسفة اليونانيين الشهير: "ويمكن تقسيم الفلاسفة إلى طائفتين: دجماطيقيين Dogmatikoi، وشكاك Ephektikoi. فأما الدجماطيقيون فهم أولئك الذين يصدرون تأكيدات قاطعة عن الأشياء ويؤكدون أن من الممكن معرفتها، وأما الشكاك فهم هؤلاء الذين يعلقون الحكم أو يرجئونه على أساس أنه ليس من الممكن معرفة الأشياء (أو التوصل إلى كنهها على وجه اليقين)." (14).
وظاهر أن شكًا يؤدي لهدم المعرفة، وينتهي إلى استمرار الجهل، لجدير بالاطراح والإهمال. فالأمر كما قال راسل: "ويجدر بنا أن نلاحظ أن مذهب الشك باعتباره مذهبا فلسفيًا، ليس هو مجرد الشك بل هو ما يمكن أن تسميه شيكا (15) يقيم نفسه على أسس جامدة؛ فلئن قال رجل العلم: ((أظن الأمر كذا وكذا؛ ولكنني لست على يقين)) وإن قال المفكر الطلعة (16) ((لست أدري ماذا عسى أن يكون الأمر، لكني آمل أن أهتدي إلى حقيقته)). فإن المتشكك الفلسفي يقول: ((لا أعلم ولا أحد يستطيع أن يعلم))؛ وهذا العنصر في المذهب، عنصر الجمود في العقيدة، هو الذي يجعل المذهب كله عرضة لسهام النقد؛ نعم إن الشكاكين أنفسهم ينكرون أنهم حين يأخذون باستحالة العلم، يبنون إنكارهم على تعصب أعمى، غير أن إنكارهم هذا لا يقنع أحدًا إقناعًا كافيًا." (17).
وقد أبطل يوسف كرم مذهب الشك بثلاثة أوجه وهي عجز الشاك عن الدعوة لمذهبه، وتناقضه في دعوى الشك المطلق نفسها، ولزوم ثلاث لا يقوم الشك إلا عليها وهي: "وجود الذات المفكرة، وعدم جواز التناقض، وكفاية العقل لمعرفة الحقيقة" (18).
ونظير هذا قول الإمام الجويني: "فإن قيل: قد أنكرت طائفة من الأوائل إفضاء النظر إلى العلم، وزعموا أن مدارك العلوم الحواس (19)، فكيف السبيل إلى مكالمتهم؟ قلنا: الوجه أن نقسم الكلام عليهم، فنقول: هل تزعمون أنكم عالمون بفساد النظر، أو تستريبون فيه؟ فإن قطعوا بفساد النظر، فقد ناقضوا نص مذهبهم في حصر مدارك العلوم في الحواس، إذ العلم بفساد النظر خارج عن قبيل المحسوسات.
ثم نقول: أعلمتم فساد النظر ضرورة، أم علمتموه نظرا؟ فإن زعموا أنهم علموه ضرورة كانوا مباهتين، ثم لا يسلمون عن مقابلة دعواهم بنقيضها. وإن زعموا أنهم أدركوا فساد النظر بالنظر، فقد ناقضوا كلامهم؛ حيث نفوا جملة النظر وقضوا بأنه لا يؤدي إلى العلم، ثم تمسكوا بنوع من النظر، واعترفوا بكونه مفضيا إلى العلم.
وإن قالوا: أنتم إذا أثبتم النظر وادعيتم أداءه إلى العلم، أتسندون دعواكم إلى الضرورة، أو تسندونها إلى النظر؟ فإن ادعيتم الضرورة لزمكم ما ألزمتمونا وانعكس عليكم مرامكم؛ وإن حكمتم بصحة النظر بالنظر فقد أثبتم الشي‌ء بنفسه، وذلك مستحيل. قلنا: كلامكم هذا يفيدكم شيئا، أو لا يفيدكم شيئا أصلا؟ فإن زعموا أنه لا يفيد علما و لا يجلب حكما، فقد اعترفوا بكونه لغوا، وكفونا مئونة الجواب.
وإن زعموا أنه يفيد العلم بفساد دليلنا، فقد تمسكوا بضرب من النظر في سياق إنكار جميعه. وإن قالوا: غرضنا مقابلة الفاسد بالفاسد، رددنا عليهم التقسيم، وقلنا: معارضة الفاسد بالفاسد من وجوه النظر. ثم نقول: لا بعد في إثبات جميع أنواع النظر بنوع منها يثبت نفسه وغيره، وهذا كالعلم يتعلق بالمعلومات ويتعلق بنفسه؛ إذ بالعلم يعلم العلم، كما به يعلم سائر المعلومات.
وإن قال السائل: لست قاطعا ببطلان النظر فيطرد عليّ تقسيمكم، وإنما أنا مستريب مسترشد؛ فالوجه أن يقال لمن رام إرشادا: سبيلك أن تنظر في الأدلة نظرا قويما، وتنهج فيها نهجا مستقيما؛" (20).
وسواء زعم الشاك أن شكه  نظري مفتقر للدليل أو ضروري لا يُستدل عليه فإنه باطل، ذلك وأنه إن كان نظريًا فالنظري لا يبطل الضروري الذي يعلمه من نفسه ويشاركه غيره في ذلك، وإن كان ضروريًا فهو يتناقض مع غيره من الضروريات، وما تناقض فهو باطل. وقريب من ذلك يقول شيخ الإسلام: "القدح في الضروريات بالنظريات غير مقبول لأن الضروريات أصل النظريات فلو جاز القدح في الضروريات بالنظريات لكان ذلك قدحًا في أصل النظريات والقدح في أصل الشيء قدح فيه نفسه فيكون القدح في الضروريات بالنظريات يتضمن القدح في الضروريات والنظريات وإذا كان على هذا التقدير لا تصح الضروريات ولا النظريات لم يكن هذا علمًا ولا كلامًا صحيحًا فلا يقدح به في شيء" (21) ويقول بعدها بقليل: "وإذا كان القدح في الضروريات بالنظريات مستلزمًا ألاَّ يكون واحدٌ منهما علمًا ولا يثبت أنه حق وصدق كان كلام القادح ليس علمًا ولا يثبت أنه حق وصدق فلا يكون مقبولاً فثبت أنه على التقديرين لا يقبل ما ذكره وليس هو علمًا ولا ثبت أنه حق وصدق فبقي ما قاله المنازع على حاله غير مقدوح فيه." (22).
بل إن الشك المطلق نفسه لا يصح بغير مرجع يستند إليه من فطرة الناس وبديهتهم. وهذا عجيب حقًا لمن تأمله. فالشكاك يتكلف الشك ولا يكون ذلك منه بفطرته وغريزته. بل إنه يحمل نفسه حملًا على الشك والطعن فيما يعلمه. وسيأتي في شك ديكارت مزيد من ذلك. ولكن أقتصر هنا على عيب من عيوب الشك المطلق وهو اعتماده على ما يريد هدمه وتقويضه! وفي ذلك يقول رضا زيدان: "إن الشك المطلق لغو، لأنه استخدام خاطئ لكلمة الشك التي يستخدمها الرجل العادي عند المقارنة مع يقين، فالشك يستلزم مرجعًا كما يقول فيتنجشتين." (23).
ويلاحظ مؤلفا كتاب (قصة الفلسفة اليونانية) أن الإغراق في التفكير في الذات دون سواها يؤدي إلى الشك، وهذا يعني أن الشك نتيجة لإهمال النظر خارج الذات حيث يقولان: "وبملاحظة تاريخ الفلسفة يتبين لنا أن نوع الفلسفة الذي يعتمد على التفكير الذاتي، أعني تفكير الإنسان في نفسه وعقله فقط يعقبه دائما الشك، ذلك لأن المعرفة هي علاقة بين العقل والشيء الخارجي، فإذا اقتصر الباحث على النظر الى عقله ونفسه مهملا ما في الخارج أداه ذلك إلى إنكار ما في الخارج من حقائق." (24).
ولا نسترسل كثيرًا في الشك المطلق فبطلانه ظاهر، وننتقل إلى ما بعده وهو: الشك المنهجي.
--
"لا يعرف [الشك] إلا من يكابده"!
--
لما كان سبيل الشك المقصود إلى هدم الحقيقة مذمومًا متناقضًا، سلك بعض العقلاء سبيلًا آخر وهو التوسل بالشك نفسه لبلوغ اليقين. ولنا فيه تجربتان شهيرتان وهما تجربتا الغزالي وديكارت. وإن كانت تجربة ديكارت أبعد غورًا من تجربة الغزالي. مع التنبه إلى أنني لم أجمع بينهما جريًا على المسلّمة الشهيرة التي تشير إلى تأثر ديكارت بالغزالي، بل وتعزو جزءًا من فلسفته إليه (25). بل هي فرضية باطلة يعلمها كل من طالع كتابيّ المنقذ من الضلال (للغزالي) ومقال عن المنهج Discours de la méthode فضلًا عن التأملات Méditations (لديكارت). وقد توسع زمير (2010م) في دراسته (Descartes and Al-Ghazālī: Doubt, Certitude and Light) في تبيين أوجه الاختلاف بين منهجي الغزالي وديكارت ووصل إلى عدم وجود دليل ضروري بشأن ذلك (26).
ونبتدئ بالغزالي الذي تعطشت نفسه لمعرفة الحق، وقد رأى اختلاف الخلق فيه، وتنوع المذاهب والأقوال. فتطلب حقيقة العلم وعلم أنه ما "ينكشف به المعلوم انكشافًا لا يبقى معه ريب ، ولا يفارقه إمكان الوهم والغلط" (27). ثم نظر في مظان العلم فوجدها راجعة إلى محسوسات وضرورات عقلية. ومكث يتأمل هذه المحسوسات ليعلم هل يثبت يقينه بها أم لا؟ وإذا بالغزالي يعترف اعترافًا مهمًا وهو قوله: "فانتهى بي طول التشكيك إلى أن لم تسمح لي نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضاً" (28) ولم يحصل هذا التشكيك إلا بعرض أخطاء الحواس متمثلة في البصر باعتبارها الأقوى -عند الغزالي- كما يرى الإنسان الكوكب صغيرًا أصغر من الدينار ثم يعلم أنه أكبر من ذلك بكثير.
اعتقد الغزالي أن الشك سينتهي إلى هنا حيث تقف الأوليات العقلية كزيادة العشرة أكثر من الثلاثة وعدم اجتماع النفي والإثبات. ولكنه أدرك أنه لما أبطل إدراك الإحساس لصالح العقل، فقد جاز أن يبطل إدراك العقل لصالح أمر آخر لا يعلمه. وأورد إشكالًا عويصًا وهو الحلم، إذ أنه يشتبه باليقظة ويزول لعدم أصله بالنسبة إليها، فما الذي يضمن له أن اليقظة ليست كذلك بالنسبة لحال أخرى؟ (29)
وهنا تحديدًا اشتدت أزمة الشك، وعاش الغزالي معتركًا صعبًا يصفه بقوله: "فلما خطر لي هذه الخواطر، وانقدحت في النفس حاولت لذلك علاجاً فلم يتيسر، إذ لم يكن دفعه إلا بالدليل، ولم يمكن نصب دليل إلا من تركيب العلوم الأولية. فإذا لم تكن مسلمة لم يمكن تركيب الدليل. فأعضل الداء، ودام قريباً من شهرين، أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال، لا بحكم النطق والمقال." (30) ولكنه نجا بفضل الله ورحمته، بعيدًا عن أي دليل عقلي ينتظم ويؤسس لليقينيات. ويصرح بذلك فيقول: "حتى شفى الله تعالى من ذلك المرض، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال، ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقاً بها على أمن ويقين، ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف، فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة فقد ضيق رحمة الله تعالى الواسعة." (31) وبعيدًا عن حقيقة هذه التجربة، فإن الغزالي لم ينصح باتخاذ هذا المسلك، ولم يقرر أنه موصل لليقين والحق. بل إنه عندما ألف آخر كتبه (إلجام العوام) لم يدع إليه أصلًا ولم يشر إليه بحال. فحديثه عن تجربته أقرب ما يكون إلى السيرة الذاتية منه إلى التنظير المعرفي. بل إنه يعتبر الشك مرضًا شفاه الله منه حيث يقول: "حتى شفى الله تعالى من ذلك المرض، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال" (32). إلا أن ذلك كله لا يعني أنه لم يفتعل بعض الشك ليكتسب المعرفة. فهي مغامرة خاضها الغزالي ليصل إلى اليقين، ولكنه تعثر بالشك والريبة وتأخر كثيرًا قبل أن يستطيع مواصلة سيره نحو العلم الحق. ليس الأمر مجرد وسوسة عارضة كتلك التي تعرض للمؤمنين في الصلاة. بل هي مجاهدة لخواطر الجهل التي هجمت على النفس فتركتها مذبذبة حائرة لا نور لها ولا هدى.
الجدير بالذكر أن شك الغزالي لم يستتبع اليقين ضرورة، بتصريحه هو. لقد بقي في الشك والحيرة شهرين لولا أن هداه الله وبث الطمأنينة واليقين في قلبه. ولا ندري إلى كم كانت ستبقى لولا لم يقدر الله انجلاءها.
وللمعلمي تعليق هام على هذه النتيجة حيث قال: "وذاك النور الذي يقذفه الله في الصدور ليس يحصل لكل أحد، فإنه لم يحصل في إنكار البديهيات، وقد ذكر الغزالي أنه بقي نحو شهرين على الشك، بلى قد يقال إنه في الأصل بالنسبة إلى الضروريات عام ولكن من خاض في النظر المتعمق فيه وحاول اكتساب اليقين من جهة النظر احتجب عنه ذاك النور، فإن استمر على ذاك استمر على الشك، كالسوفسطائية، وإن رجع إلى القناعة بالفطرة عاد له ذلك النور كما وقع للغزالي" (33) ويقول يوسف كرم قريبًا من ذلك: "ومتى أذعن العقل لنور الأوليات، أو بالأحرى متى كفت الإرادة عن الافتتان بالشك وقهر العقل على الانصراف عن نور الأوليات، لم يعد أمامنا مانع من المضي في الفحص عن سائر المسائل لاقتناص ما يتيسر من يقين." (34).
--
"كما لا يقبل قدح السوفسطائي بنظره فيما يقول الناس إنه معلوم بالبديهة، ولا يقبل مجرد قوله على منازعه، بل المرجع في القضايا الفطرية الضرورية إلى أهل الفطر السليمة، التي لم تتغير فطرتهم بالاعتقادات الموروثة والأهواء." (35).
--
أكتفي بهذا العرض للجزء الأول من المقال، وأستكمله بالجزء الثاني بحول الله مبتدئًا بشك ديكارت.
والله أعلم وأحكم.
البراء بن محمد
ليلة الإثنين 1439/5/19هـ
2018/2/5م
---
الهوامش
---
(1) (مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المجلد الحادي عشر، 1425هـ-2004م، ص384).
(2) (مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المجلد الرابع، 1425هـ-2004م، ص43).
(3) (إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات إلى المذهب الحق، أبو عبدالله محمد بن المرتضى اليماني [ابن الوزير]، دار الكتب العلمية، ط2 1407هـ-1987م، ص17).
(4)
(5) (الفصل في الملل والأهواء والنحل، أبو محمد علي بن أحمد [بن سعيد] بن حزم الظاهري، تحقيق: د. محمد إبراهيم نصر ود. عبدالرحمن عميرة، دار الجيل، ط2 1416هـ-1996م، ص43).
(6) الجدير بالذكر أن ابن التلمساني قسمهم إلى أربعة فرق وزاد على هذه القسمة بذكر غلاتهم وهم من يعلمون بعدم العلم. انظر (شرح معالم الدين، شرف الدين عبدالله بن محمد الفهري المصري [ابن التلمساني]، تحقيق: نزار حمادي، دار الفتح، ط1 1431هـ-2010م، ص71).
(7) (تاريخ الفلسفة اليونانية، ماجد فخري، دار العلم للملايين، ط1 1991م، ص54). (تاريخ الفلسفة، اميل برهييه، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الطليعة، ط2 1987، الجزء الأول، ص108). (قصة الفلسفة اليونانية، أحمد أمين وزكي نجيب محمود، دار الكتب المصرية، ط2 1935م، ص95-96). (تاريخ الفلسفة اليونانية، يوسف كرم، مؤسسة هنداوي، ص62-63).
(8) (تاريخ الفلسفة اليونانية، يوسف كرم، مؤسسة هنداوي، ص277).
(9) (تاريخ الفلسفة، اميل برهييه، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الطليعة، ط2 1987، الجزء الأول، ص106)، والأخطاء الإملائية في الأصل.
(10) (قصة الفلسفة اليونانية، أحمد أمين وزكي نجيب محمود، دار الكتب المصرية، ط2 1935م، ص93)
(11) (أسس الفلسفة، د. توفيق الطويل، مكتبة النهضة المصرية، ط3، ص234-235).
(12) "إنه ليس على يقين حتى من أنه يشك؛ فهو شاك في أنه شاك! ولو زعم أنه يشك لأثبت بهذا أنه يعرف حقيقة هي أنه يشك ولناقض بهذا نفسه!" (أسس الفلسفة، د. توفيق الطويل، مكتبة النهضة المصرية، ط3، ص231) "وأما اللاأدرية فهم يقولون: الكلام الذي ذكرته أنت لو خلا عن المعارض الذي أوردته أنا لكان يفيد في الجزم، ولكن لأجل تلك المعارضات زال الوثوق، فلا جرم لا أقطع بشيءٍ أصلًا لا بحيرتي ولا بعدم حيرتي." (نهاية العقول في دراية الأصول، فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي، تحقيق: د. سعيد عبداللطيف فودة، ط1 1436هـ-2015م، الجزء الأول، ص169).
(13) " In the Hellenistic period, the various sceptical observations and attitudes of earlier Greek thinkers were developed into a set of arguments to establish either (1) that no knowledge was possible or (2) that there was insufficient and inadequate evidence to determine if any knowledge was possible, and hence that one ought to suspend judgment on all questions concerning knowledge. The first of these views is called Academic scepticism, the second Pyrrhonian scepticism."
(Popkin, Richard H. The history of scepticism from Savonarola to Bayle. Oxford University Press, 2003, pp. xvii)
(14) (حياة مشاهير الفلاسفة، ديوجينيس اللائرتي، ترجمة: إمام عبدالفتاح إمام، المجلس الأعلى للثقافة، ط1 2006م، المجلد الأول، ص39).
(15) كذا في الأصل ولعلها شكًا
(16) الطُلَعة: بمعنى كثير التطلع. راجع معجم المعاني
https://www.almaany.com/ar/dict/ar-ar/%D8%B7%D9%84%D8%B9%D8%A9/  [آخر دخول 2018/2/2م]
(17) (تاريخ الفلسفة الغربية، برتراند رسل، ترجمة: د. زكي نجيب محمود، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط 2010م، الكتاب الأول، ص366).
(18) (العقل والوجود، يوسف كرم، مؤسسة هنداوي، ص52).
(19) قال شارح الإرشاد المقترح: "اعلم أولا : أن الناس مختلفون في النقل عن السمنية وفي نسبة هذا المذهب إليهم : فمن الناس من ورّك بالغلط على الناقل ؛ فإن المذهب مخالف للبديهة ؛ فلا يتصور مخالفة العقلاء فيه ؛ فإنا نعلم علوما بديهية خارجة عن الحواس كعلمنا بآلامنا ولذاتنا ، ونفورنا وشهواتنا ،وغضبنا وفرحنا ، وأن الاثنين أكثر من الواحد ، وأن النفي والإثبات لا يجتمعان على موضوع واحد الى نحو ذلك من العلوم البديهية ، وإذا كان كذلك فلا وجه لمنازعة العقلاء في ذلك ." ثم قال بعد قليل: "ومن الناس من عد هؤلاء من قبيل السوفسطائية" (شرح الإرشاد، تقي الدين المقترح، إعداد: فتحي أحمد عبدالرزاق، جامعة الأزهر كلية أصول الدين، ط 1410هـ-1989م، ص13-14).
(20) (الإرشاد إلى قواطع الأدلة والاعتقاد، أبو المعالي [عبدالملك بن عبدالله بن يوسف] الجويني، تحقيق: د. محمد يوسف موسى وعلي عبدالمنعم عبدالحميد، مكتبة الخانجي، ط 1369هـ-1950م، ص3-5).
(21) (بيان تلبيس في الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية، أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن تيمية الحراني، تحقيق: د. سليمان الغفيص، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ط 1426هـ، الجزء الخامس، ص153).
(22) (بيان تلبيس في الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية، أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن تيمية الحراني، تحقيق: د. سليمان الغفيص، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ط 1426هـ، الجزء الخامس، ص153-154).
(23) (الإجماع الإنساني المحددات ومعايير الاحتجاج، رضا زيدان، مركز براهين، ط1 2017م، ص68).
(24) (قصة الفلسفة اليونانية، أحمد أمين وزكي نجيب محمود، دار الكتب المصرية، ط2 1935م، ص305-306).
(25) انظر على سبيل المثال: المنهج الفلسفي بين الغزالي وديكارت للدكتور محمود حمدي زقزوق.
(26) https://www.jstor.org/stable/41480705?seq=1#page_scan_tab_contents  [آخر دخول 2018/2/3م]
(27) (المنقذ من الضلال، أبو حامد [محمد بن محمد بن محمد بن أحمد] الغزالي، تحقيق: محمود بيجو، دار التقوى-دار الفتح، ط2، ص32).
(28) (المنقذ من الضلال، أبو حامد [محمد بن محمد بن محمد بن أحمد] الغزالي، تحقيق: محمود بيجو، دار التقوى-دار الفتح، ط2، ص33).
(29) يقول الفخر الرازي ردًا على الاحتجاج بالمنام -في سياق الرد على حجج السوفسطائية-: "قوله: النائم قد يجزم بما يشاهده، ثم يتبين عند اليقظة أن ذلك الجزم كان باطلًا، فجاز أن يكون الأمر في اليقظة كذلك. قلنا: نحن نجد من أنفسنا أن هذا الكلام لا يشككنا في علمنا بوجود أنفسنا وآلامنا ولذاتنا، ولا فرق أقوى مما يجده الإنسان من نفسه." (نهاية العقول في دراية الأصول، فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي، تحقيق: د. سعيد عبداللطيف فودة، ط1 1436هـ-2015م، الجزء الأول، ص177).
(30) (المنقذ من الضلال، أبو حامد [محمد بن محمد بن محمد بن أحمد] الغزالي، تحقيق: محمود بيجو، دار التقوى-دار الفتح، ط2، ص36).
(31) (المنقذ من الضلال، أبو حامد [محمد بن محمد بن محمد بن أحمد] الغزالي، تحقيق: محمود بيجو، دار التقوى-دار الفتح، ط2، ص36).
(32) (المنقذ من الضلال، أبو حامد [محمد بن محمد بن محمد بن أحمد] الغزالي، تحقيق: محمود بيجو، دار التقوى-دار الفتح، ط2، ص36).
(33) (القائد إلى تصحيح العقائد، عبدالرحمن بن يحيى المعلمي، المكتب الإسلامي، ط3 1404هـ-1984م، ص65).
(34) (العقل والوجود، يوسف كرم، مؤسسة هنداوي، ص53).
(35) (درء تعارض العقل والنقل، تقي الدين أحمد بن عبدالحليم [بن عبدالسلام] بن تيمية، تحقيق: د. محمد رشاد سالم، إدارة الثقافة والنشر [بجامعة الإمام محمد بن سعود]، ط2 1411هـ-1991م، الجزء السادس، ص14).

الأحد، 14 يناير 2018

خواطر حول الجامعة

بسم الله الرحمن الرحيم 
ما زالت تقنيات التعليم والتفهيم قابلة للتغيير والتحديث والنقاش المستمر، وما زال الجدال حول كفائتها مطروحًا متداولًا بين الناس. كيف لا وهم يرون مخرجات الجامعات التي تتفاوت في درجاتها بين الناجح المخترع والفاشل المطرود وبينهما متخرج يتأمل في شهادته مرارًا ثم يغلق عينيه ويتخيل نفسه حائزًا على وظيفة ينافسه آلاف المتخرجين مثله. لا يزال كثير من الطلاب يقاسون مرارة اختبارات الجامعة، وشدة أنظمتها، وتعسف دكاترتها، فيلعنونها، ويكملون مسيرهم في هذا المسار المجهول الذي يبدو أحاديًا بالنسبة إليهم. تراهم يتحدثون تارة بلغة الحقوقي الذي يقصد العدل ولا يعدل عنه بشيء، ويتحدثون تارة أخرى بلغة طالب الفضل والإحسان الذي ما فتئ يستعطف دكاترته لبضع درجات كي يتجاوز المادة إلى ما بعدها وينجو من عواقب حملها مجددًا في فصل آخر.
تختفي محاسن النظام الجامعي وسط هذه الصورة المشوشة التي لا يبرز منها غير جانبها المظلم الكالح. تتلاشى أهمية ضبط عامة الناس بنظام يستحيل تطبيق جزئياته كاملة على الأرض. يزيلها ذلك الضوء الساطع الذي يكشف عن خلل يكتنف جسد النظام، وعادة اتفق الناس عليها لذاتها لا لغاية محمودة؛ حتى وهم ينظرون إلى قبيح نتاجهم. يغيب عن الأذهان كثيرًا أن الرغبة الذاتية في التعلم لا توجد عند كثير من الناس، وأنهم لا يتعلمون إلا بقدر ما يرتبط تعلميهم بلقمة عيشهم.
إن الجامعة -على ما فيها من انتقادات- تجربة ثرية لمن تفطن إليها، واستفاد من معايشته لظروفها المختلفة. وهي مرحلة حتمية لأكثر الناس في زماننا، فلا مناص من دخولها. 
وها هنا بعض الخواطر المتفرقة حول جوانب من الجامعة. 
1-      جدلية ما نهوى وما يتوجب علينا فعله 
تبتدئ هذه الجدلية في نفس الناشئ قبل دخوله الجامعة، وهو ينظر في مختلف التخصصات التي منها ما يوافق رغبته، ومنها ما يتعارض معها قطعًا. وعند هذه اللحظة تحديدًا بدأت الموازنات بين الرغبة والحاجة، بين رغبة الإنسان ورغبة والديه. ليس كل ما نرغبه مفيدًا حقًا، وليس كل مفيد مرغوبًا. بين هذين الخطين العريضين تتدرج محاولات التوفيق والاستبعاد.
فإن توافقت الرغبة الحقيقية في التخصص مع قرار دراسته (وهو موافقة تكاد تكون نموذجًا متفردًا لا يقاس عليه) فذلك مطلب عالٍ بلا شك. ولكن حصوله ترف لكثير ممن شقوا طريقهم بأنفسهم، وكابدوا مشقة مخالفة الهوى، ومجانبة الراحة طلبًا للكمال والعز. وينبغي أن ننبه إلى أن هذه الرغبة الحقيقية تشغل بال المرء وفكره، فلا يتخيل نفسه في غير تخصصه، ولا ترتسم مساحات إبداعه وذهنه الوقاد في غير مجاله المعرفي الذي يبذل فيه كافة جهده. إننا نتحدث عن شغف يتجاوز تحقيق المعدل المرتفع، والتفوق على الأوائل في الترتيب الجامعي. فهل هذا الشغف معقود في نفوس الطلاب؟ سرّح نظرك في واقعهم، وسترى خلاف ذلك. قليل من هؤلاء من يريد إكمال الدراسات العليا في تخصصه، فضلًا عن درجة الدكتوراه والسلك الأكاديمي والمجال البحثي. وأقل من هؤلاء من يتجاوز إطار الوظيفة التي عين فيها من قبل. بل إن قدرًا من هؤلاء يتخرجون بغير معرفة حقيقية بمجالهم، ولا حتى الأساسيات التي يفارقون بها غير المتخصصين.
فإن كان واقع هؤلاء بعيدًا عن محبة العلم لذاته، وكانت نفوسهم قاصرة عن العزيمة والإرادة التي تدفعهم لنهاية مسار التعلم (الذي لا نهاية له في حقيقة الأمر)، فينبغي أن نقدر وجود الجامعة الذي يجبرهم على تقدير العلم واحترامه ويضطرهم لخوض غماره ولو قليلًا.
2-     إقامة العدل المحض دومًا فيه عسر
الغش في الاختبارات والواجبات وسائر النشاطات ممنوع في الجامعة، وهو مظنة إلغاء الدرجات، بل الطرد والإبعاد في أسوأ الأحوال. ولكنه وسيلة كثير من الطلاب للنجاح والتفوق، وأحوالهم في ذلك مختلفة، فمن كسول أقعده خموله عن التحصيل، وآخر بنصف فهم واستيعاب، إلى مستوعب فاهم خانته ذاكرته في وقت حاجته إليها. والغش نفسه على درجات. فليس غش اختبار كامل كغش فقرة وفقرتين. استحضر ما قلناه عن الغش وانتقل معي إلى ما بعده.
حضور الكلاسات (أو الحصص الدراسية) واجب قانوني على الطالب، وتقصيره فيه ينعكس على درجاته. بل إن هناك حدًا معينًا من الغياب يرتبط بالحرمان من الجلوس للاختبار النهائي وربما الرسوب في المادة. لكن الدكاترة أنفسهم يختلفون في معيار الحضور، فمنهم من يرفض التأخر مطلقًا، ومنهم من يتساهل في ذلك. بل قد اتفق لي أن حضرت حصة قبل نهايتها بدقيقتين أو أقل فأشرت إلى الدكتور أستأذنه في التوقيع فسمح لي وابتسم.
الغش في الجامعة والتساهل في حضور الحصوص هما مما يمكن للدكتور كشفه بأقل مستوى من الذكاء والحيلة. فماذا لو كان الدكاترة كلهم على نسق واحد من الالتزام بالقوانين الصارمة كما هي بقطع النظر عن أي أحوال أخرى؟ بل ماذا لو سارت كل الجامعات على هذه الوتيرة؟ سنجزم حينها أن نصف الطلاب راسبون في هذه الجامعات. إن لم يكن أكثر من ذلك. وهنا حديثٌ عن ثلاث مساحات تتقاطع كثيرًا وهي الظلم والعدل والفضل. فلو قدرنا أن الغش مسموح به صراحة في كل الجامعات لكان ذلك ظلمًا بينًا، ولو قدرنا أنه ممنوع صراحة وضمنًا بحيث يتعذر أن يغش طالب واحد لسقط كثير من الطلاب. خاصة وأن الأسئلة قد تتجاوز مستوى فهم الطلاب للمادة التي يُختبرون فيها. وليسوا كلهم في الهمة والعزيمة سواء. وليست قابلية الصلاح والاستفادة من العفو موجودة عندهم جميعًا. وهنا يتجدد السؤال: هل تطبيق هذه القوانين بصرامة متناهية يحقق أهداف الجامعة؟ سواء قلنا أن هدف الجامعة هو التعليم حقًا أو التأهيل للتعليم والعمل، فإن كلا الهدفين يتعذر تحقيقهما مع صرامة القوانين. اللهم إلا أن يقال أن بنية الجامعات وأنظمتها واجب تغييرها، وهذا أمر آخر على كل حال.
ومن هنا فإن تقاطع المساحات الثلاثة يكون في صالح المؤسسة التعليمية والطلاب أحيانًا أو كثيرًا، ما دمنا نتحدث عن وضعها الحالي. وهذا يقودنا للجانب التالي.
3-     طيف متنوع
تمثل الجامعة في واقعها عالمًا مصغرًا يمثل عالمنا الكبير الذي نعيش فيه ونتفاعل مع أجزائه، فهي وإن كانت مصممة لتنميط الطلاب في صورة الاجتهاد والانضباط الأقصى؛ إلا أنها تحمل تنوعًا للناس بخلفياتهم الدينية والعرقية والمجتمعية. هذا التنوع كنز ممتلئ بالمعلومات التي ليس من مظانها جوجل أو المكتبات. إننا نختبر مسلماتنا وفرضياتنا بتنوع حتمي كهذا. وهو خبرة عملية يجب اكتسابها في مرحلة ما قبل الانشغال بمعتركات حياتية أخرى. هذا التنوع لا يقع على الطلاب وحدهم بل يمتد إلى الدكاترة الذين يختلفون في أمزجتهم ومتطلباتهم وتجاربهم الشخصية ورؤاهم للحياة. ألا يذكرك هذا بأرباب الأعمال ومدراء الوظائف؟
4-     معيار للانضباط
إن قوانين الجامعة كما قدمنا ليست قابلة للتطبيق العملي بحذافيرها لأن ذلك يعطل المصالح المرجوة من سنّها في المقام الأول. كما أن درجتها وشهادتها لا تشمل جميع مناحي الخبرة العلمية والعملية المطلوبة للنجاح في الحياة. إلا أنها معيار معتبر مستقر ينبغي تقديره على الأقل. ومسارها هو مستوى من مستويات قياس أداء الناس وفعاليتهم. وهو ليس دربًا يشقه أولو العزيمة والإرادة، وهو ليس من حيل الضعفاء والفاشلين. ولكنه معيار يمكن الاستئناس به واعتباره لغيره من مراقي الكمال والنجاح. ولن يعتد به إلا قاصر الهمة، ولكنه لم يوضع لذلك بالطبع.
--
لن أزعم أن ما كتبته يمثل فلسفة مكتملة الأركان، ولا تنظيرًا يفتقر إلى التطبيق، ولكنه خواطر شخصية تستحق أن تفرد في مدونة، وتثير التفكير قليلًا.
والله أعلم وأحكم.
البراء بن محمد.
الأحد 1439/4/27هـ
2018/1/14م

الجمعة، 21 يوليو 2017

بين اللأواء والنعماء ذكريات من مشروع التخرج

بسم الله الرحمن الرحيم
*تنبيه: لا تخلو بعض الحروف المسطورة هنا من مبالغة في نقد الواقع وأهله -وأعني دكاترتي تحديدًا-، ولعلها من تداعيات أزمة مشروع التخرج؛ فقد كتبت المقال على أثرها مباشرة. والله يغفر لي ولدكاترتي جميعًا، فقد كنت مقصرًا مفرطًا مسيئًا في المقام الأول، ولم يكن ثمة عذر لتأخري وإهمالي، فلا وجه للومهم لتأخرهم ومماطلتهم. ومن هنا فإنني لا أقر جميع ما كتبته، ولكنني أتركه للذكرى وحسب*
الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علمًا، ووسعت رحمته الخلائق كلهم، وظهرت حكمته في أنواع الموجودات، وشملت مغفرته خطايا المذنبين، وأفاض بفضله ومحبته صنوف الثواب على المحسنين. 
والصلاة والسلام على نبيه المبعوث بخير الشرائع، وأفضل الرسالات، الصادق الأمين، سيد ولد آدم، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين. 
أما بعد، فهذه حروف ناجٍ من الكرب العظيم، قد انفطر فؤاده مرارًا لما ذاقه من المر والنكد، وهاجت نفسه كثيرًا بكبائر الآلام النفسية، وعظائم الخسائر المالية، والحمد لله على كل حال. 
اعلم -رفع الله عني وعنك البلايا- أنني قد شهدت أيامًا شدادًا لم أشهد نظيرًا لها [في حياتي] مع تعدد الضغوطات والمصائب التي ما انفك عنها إنسان يمشي على قدميه. 
وقد كانت عدتها شهرًا ويومين بالتمام، ابتدأت صغيرة حقيرة الشأن والأثر، وانتهت عظيمة بفوائدها شديدة بأضرارها، وإن كان انقشاع سحابتها السوداء الكالحة كفيلًا بغيث يروي قشرة القلب الجافة، ويطيب خاطرًا مجروحًا، ويحيي روحًا غابت عنها السعادة، وينعش ذهنًا مكدودًا، وفضل الله أوسع من ذلك كله. 
--
"رام نقش الشوك حينًا رجلٌ *** فاختفى عن ناظريه المحمل
لحظة يا صاحبي إن تغفل *** ألف ميل زاد بعد المنزل"
--
[1]
على بعد أيام من الرحلة الموعودة، يجلس البراء بن محمد مع رفقائه في وقت متأخر من الليل، ليتسامروا ثم ينصرف كل واحد منهم لشأنه. إنه شهر رمضان، حيث يبدو السهر عرفًا محتمًا فيه. 
يسألونه عن مشروع التخرج، الهم المشترك بين أبناء الدفعة الذين بذلوا جهودهم في دفعه وإنجاز مهامّه الثقيلة. 
أ: هل سلمت مشروعك يا براء؟
البراء: أي مشروع؟ لا أزال في الmethodology. وهو الفصل الثالث. 
يشير الرفيقان أ وب بأصابعهما الوسطى إليه، ويلقنانه درسًا في الانضباط والالتزام، حيث أن هذه أيام جمع محصول الحصاد، والتسليم نفسه قد شارف وقته الانتهاء. 
أ: سلّم أي مسودة. اكتب أي شيء، لا تقف هكذا مكتوف الأيدي، إن تجاهل الدكاترة تصحيح مشروعك، فسترسب وتحمل المادة لاحقًا. 
كانت جرعة كافية من اللوم والتقريع للبراء لينهض من تلك الجلسة ويباشر العمل، وينتهي من باقي المشروع في غضون يوم وبضع يوم. 
--
"تجرأنا على الآثام لما *** رأينا العفو من ثمر الذنوب"
--
[2]
يلتقي البراء بالexaminer، وينشر بين يديه أوراق المشروع، وتتوالى الملاحظات المتعلقة بالformat أو صياغة البحث. 
يخرج البراء وقد اعتقد أن ملاحظات الexaminer المتعلقة بالصياغة والشكليات لن تضره كثيرًا، سيعرض المشروع على الsupervisor أو المشرفة وبظنه الغالب (على الخطأ) أنه ستمضيه إمضاء من قرأ الحروف سريعًا ولم يعقل معانيها. كما فعل الexaminer أو المصحح. 
لا يزال ذهن البراء مشغولًا بطائرته التي سيخرج بها من أرض ماليزيا إلى جدة، ليعتمر هناك في آخر يوم في رمضان، ثم يعود إلى الرياض. هكذا كانت الخطة. 
يلتقي البراء بالمشرفة، ويفاجأ بمناقشته في صلب النتائج التي لم يكترث لدقتها كثيرًا. ترفض المشرفة المشروع وتقول أن نتائجه غير مقبولة، وتخبره أنها ستناقش بقية الدكاترة في القسم بشأن ذلك. ينسحب البراء وينتظر التوجيهات منها، ويلغي رحلته، ويخبرها بأنه سينتظرها بفارغ الصبر و[الكثير من التوقعات المتفائلة]. 
هكذا بدأت المعاناة، ألغيت رحلة السفر وبلا مردود مالي لأن أدنى حد زمني لإلغاء الرحلات قد فات (48 ساعة) وانتهى. 
إذن سيمكث هنا، ويمضي عيده وحيدًا بعيدًا عن أهله، جاهلًا بمصير مشروعه. 
تخبره الدكتورة بعد حين أن أمر المناقشة مشروط بفراغ الدكاترة من إجازتهم الطويلة. الجميع يريد قضاء عيد سعيد، فلم شغل النفوس وكد الأذهان بشأن طالبٍ مفرط؟ 
--
"قطعت جهيزة قول كل خطيب"
--
[3]
بعد فترة من اللعب والعبث والانتظار والتخيل، يفاجأ البراء برسالة من مشرفته. مشروعك مرفوض ونتائجه غير مقبولة لأنها غير منطقية، وقد رسبت في المادة، وليس أمامك سوى ثلاث خيارات: أن يمتد مقامك بالجامعة فصلًا إضافيًا، أو فصلين، أو تحمل المادة مجددًا في الفصل القادم. كلها مرة بلا حلاوة، قاسية بلا رحمة. ولا يمكن المفاضلة بينها إلا على سبيل اليأس التام والإحباط الشديد، وإلا فكلها مؤلمة كما تبين ذلك. وإن كان ثالثها أخف خيار فيها بالتأكيد. 
استجمع قوته ورفض الخيارات كلها وأبى إلا أن يعيد تنفيذ المشروع في إجازته التي قرر أن يقضيها بجميع دقائقها وثوانيها في سبيل الخلاص من مشروع التخرج هذا. 
قرأت الدكتورة الرسالة الطويلة، وربما أحست بروح التحدي فيها، أو روح من يحاول عبثًا اللعب في الوقت بدل الضائع، لا تهم هذه التفاصيل كثيرًا، فهي مطوية في سرائر النفوس التي لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى. 
--
"فلو كان سهمًا واحدًا لاتقيته *** ولكنه سهم وثان وثالث" 
--
[4]
التقى البراء يوم الجمعة بالمسؤولة عن المادة، وطلب منها تمديدًا لمهلة التصحيح. لقد تعهدت لنفسي أن أبذل جهدي خالصًا لتجاوز وعثاء هذه المادة ومتطلباتها الكثيرة، وليس في نفسي عزم ولا هم على العودة قبل أن أحصد ما أفتخر به. 
يجب أن تكتب خطابًا تطلب فيه التمديد، ويجب أن توقع عليه مشرفتك، وكذلك رئيس القسم (هل أوحت لك هذه التسمية بمركز الشرطة؟ لا تقلق فلنسمه department). 
كم يكفيني من الوقت لإتمام ذلك كله؟ 
كفى بك تسويفًا أن تنهيه اليوم. 
لا أقبله منك بعد الخامسة عصرًا، بل إنني قد أغادر قبل هذا الموعد، فتأهب وائتني بالخطاب موقعًا عليه من أصحاب الشأن. 
بنفسية قلقة مشحونة، يضرب أرجاء الكلية بحثًا عن رئيس القسم الذي اكتشف لاحقًا أنه قد أخطأ في اسمه ورسمه وصورته. 
يعلق الخطاب أمام مكتب مشرفته، ويمضي وقد علم أن الأمر منتهٍ. احتمال كبير ألا تقبله الدكتورة منه؟ بل لماذا تقبله وقد أمهلته يومًا فأخفق في ذلك؟ 
ولكن ثقة متوارية خلف غياهب المجهول، وتحت ركام الواقع المر، كانت تؤزه ليغدو للجامعة صبح الإثنين، فيستل ورقة الخطاب من مكتب الدكتورة، ويناولها رئيس الdepartment ليوقعها، ثم يسلمها مسؤولة المادة، وكأنها لم تحذره يوم الجمعة، وكأنها لم تؤكد له مرارًا ذلك اليوم أنه نهاية الزمان، وغاية الإمكان. ولكنه التغافل المحمود الذي يجعلنا نطرق جميع الأبواب متمثلين قول الشاعر: "أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته *** ومدمن القرع للأبواب أن يلجا". 
--
"خذ ما تراه ودع شيئًا سمعت به *** في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل" 
--
[5]
أين رئيس القسم لو سمحتم؟ 
ليس موجودًا 
إذن كيف لي أن أجده؟ 
تعامل مع سكرتيرته 
أهلًا، لدي خطاب تمديد مدة مشروع التخرج، وأود منه أن يوقع عليه
تفضل، أعطني رقمك لو سمحت، وسنبلغك حال ما نجد الرد
شكرًا
وبعد يومٍ وبضع يوم من المطل.
أين سكرتيرة رئيس القسم؟ 
ذهبت لتصلي، انتظرها
بعد دقائق
تعال، تفضل الخطاب 
وفي أسفل الخطاب، تقف الحقيقة عارية من أي ثوب وزينة، "لقد فشل الطالب، وعليه أن يحمل المادة مستقبلًا" هكذا لخص رئيس القسم قراره بحسم لا يثنيه التحدي الظاهر في الرسالة. 
ولكن البراء لم يقف عند هذا الحد رغم أنه يمثل النهاية التي ينبغي أن يخضع لها. 
طلب رقمه من زميله، وراسله مستفسرًا عن سبب الرفض، متغاضيًا عن الرفض نفسه، كما لو كان يقول للرئيس بشجاعة: ها أنا ذا برزت لك مجددًا، لأحارب بآخر حرف أنقره في كيبوردي. 
يحيلني على ذات المشرفة التي أحالتني على مسؤولة المادة التي بدورها طلبت مني جمع توقيعي الرئيس والمشرفة. فتم الدور واستغلق الأمر.
فاستدرك عليه البراء بقوله أن المشرفة قد وافقت، ثم حال بينهما الصمت. 
--
"إذا المشكلات تصدين لي *** كشفت حقائقها بالنظر"
--
[6]
وبينما يهضم البراء غذاءه صباحًا، إذ برسالة المشرفة تلفت انتباهه، وتوجه فكره نحوها، لديك 48 ساعة حتى يوم الجمعة مساءً لتسلم الرهينة، أعني مشروع التخرج. 
وانكفأ على لابتوبه ناقرًا لوحته محركًا فأرته ذات اليمين والشمال، بحثًا عن نتيجة تطمئن النفس إليها، وتنطفأ حرارة الشك والجهل بها. 
وفي يوم الجمعة المبارك، سلم البراء بحثه للدكتورة، وتناقش معها برهة من الزمان، واختطا مسارًا مختلفًا لنتائج البحث، مع بعض التعديلات على صيغته. 
راسل الexaminer الثانية وأخبرها أنك تريدها أن تصحح لك بحثك. 
حسنًا، سأفعل ذلك. 
تتفضل عليه الدكتورة لما رأت تأخره، وتمنحه مهلة ذهبية ليعدّل بحثه. 
في يوم السبت، تأخر البراء، وتأخرت الدكتورة، ثم تأخرت أكثر، فتعادلا في التأخر. 
سلمها البحث فشددت على الjustifying كانت هذه المهارة رغم ضآلتها وبساطتها غائبة عن ذهنه، بحث عن زميلٍ يساعده، فوقع على صديقه ح الذي حل مشكلته ببساطة. لم يأخذ الأمر أكثر من بضع دقائق، لتنتهي مشكلة استغرقت الكثير من المسودات. 
ثم أحاط البراء مسودته بجلد كثيف ليسلمها يوم الإثنين مضمنة توقيع الexaminers، فيوم الإثنين آخر يوم بالتأكيد. لم يكن يوم الجمعة، كما قد بدا للذهن. 
اقترب النصر، اقترب الفرج. 
إنها الeuphoria أخيرًا! 
--
"إذا تم أمرٌ بدا نقصه *** ترقب زوالًا إذا قيل تم"
--
[7]
ها قد جاءكم البراء يا أهل الكلية، بروحٍ يملؤها الحماس والثقة الكبيرة بانتهاء أزمة مشروع التخرج، والخلاص من عنق الزجاجة الذي علق في منتصفه. 
تعالي أيتها الexaminer، تعالي لنطلعك على فرائد البحوث، ونفائس العلوم، وخلاصة الأفكار والفهوم، حياك الله وتوقيعك الذي سيفتح مغلاقًا اشتد علينا كثيرًا. 
ولكنها تستغل ضيق الوقت الذي جادت به على الطالب المسكين لتقلب أوراق البحث يمنة ويسرة وفوقًا وتحتًا، وتوفق بين خطين تقاطعا ليقطعا كل بادرة أمل سبقت إلى النفس ذلك اليوم. لقد أمسكت بأطراف الكتاب فنفضته، وأسقطت ما بين سطوره من الكلمات والأرقام، وأبطلت صياغته، وقفزت بعد ذلك إلى النتيجة النهائية. يجب أن تعيد طباعة البحث مجددًا مع تلافي الأخطاء الفنية الكثيرة التي أشرت إليها بالقلم الأسود. أطل العنوان، واحش الفراغات بين الأقسام بمفيد الكلام عند النحاة حتى وإن كان لغوًا عند القارئ الكريم. 
أسقط في يدي البراء، وسقط قبلهما قلبه، وخرت نفسه من ذرى الآمال والخيالات إلى قيعان الواقع الموحشة. هبطنا من قمة المجد إلى قعر الذل والبؤس. 
لقد خسرت كل شيء. 
يتوسل إلى المسؤولة، لتخبره بأن النظام قد قضى قضاءه فلا قوة لها عليه إلا إن وافق أربابه. والدكتورة تأبى أن تمنح موافقة مبدئية يستطيع بها البراء أن يستجمع ماء وجهه وعزة نفسه مجددًا، ويصوب أخطاءه ويكفّر عنها بطبعة جديدة ترضي الدكتورة. 
ينام قليلًا في المصلى، وقد جثم الهم على صدره قبل أن يزيحه متوجهًا إلى إدارة الجامعة. 
"الحمد لله على كل حال"، "ليس لدي ما أخسره بعد الآن"، "فلأطرق هذا الباب، عله يسفر عن فرج قريب". 
توجه نحو مكتب الإدارة، وقد استحضر بعض مهارات الإقناع التي يعرفها. ولم يواجههم بغير الصراحة المباشرة. 
"أنا طالبٌ في سنتي الأخيرة [المفترض]، وأتمنى أن تمهلوني وقتًا لأنهي مشروعي. أخبرتني الدكتورة أن مفاتيح الأمر بيدكم، فهلا تفضلتم علي بفتح المغلاق؟"
"لا بأس، أخبر دكتورتك أن تتصل بنا لنفتح النظام، أمهلناك إلى الخميس، فاستغل وقتك، فلا مهلة بعد ذلك."
ينطلق وقد تحررت روحه من غل الإحباط الذي كسر إرادتها وأركسها لحزنٍ عميق وبغض لتلك الدكتورة التي لطالما تجاهلت رسائله كما لو كان متسولًا لحوحًا. 
--
"رب يوم بكيت منه فلما *** صرت في غيره بكيت عليه"
--
[8]
كان الدوام رغم عبئه وكثرة الواجبات والمحاضرات التي نفهم نصفها بنصف ذهن، ويفسد نصفها نصف الذهن الباقي، أخف وطأة وحالًا من دوام الإجازة الذي اكتنفه ضغط شديد، ووحدة في كلية موحشة إلا من بعض طلبة الماجستير هنا وهناك. وزاد الشقاء شقوة وبلاءً أن واجهت دكتورة تقطع بصمتها المريب كل سبيل للتواصل الأكاديمي الذي أحتاجه، وتجدد لي في كل مسودة أخطاء ضل عنها قلمها في المرة الماضية.
لم أكن أحسب الرينجتات (العملة الماليزية) التي تخرج من يديّ كلما هممت بالطباعة، ولكنني أتحسس أثرها لأنها مال محدود لا قِبل لي بزيادته الآن.
ومع تراكمات الضغوط والأعباء، بدت الغلطات الصغيرة أسواطًا تستفحل بها جراح النفس وتُنكأ بعد أن تجلطت.
طبعت عدة أوراق، وتهيأت لطباعة غيرها، كنت أطبع بعض الأوراق ملونة والأخرى بيضاء وسوداء توفيرًا للمال واستجابة لدواعي العقل التي لا تغرر النفس لتقدم على عملٍ لا طائل من ورائه.
كانت الصدمة كفيلة بإعادة موجات التوتر إلى النفس، لقد طبعت الأوراق الملونة بحبر أبيض وأسود، كانت حماقة صغرى يمكن تجاوزها لولا أن سياق اللحظة لم يسمح بذلك. كيف تقع في غلطة كهذه وأنت تطبع بحثك؟ ما هذه التفاهة التي شغلت ذهنك وقتها وأنت تهيئ الأوراق للطباعة؟
ولولا لطف الله وتخفيف إحداهن وقتها، لانجرف في سيل من السلبية القاتلة.
--
"أبعين مفتقرٍ إليك نظرتني *** فأهنتني ورميتني من حالقِ
لست الملومَ أنا الملومُ لأنني *** علقت آمالي بغير الخالقِ"
--
[9]
ها قد أتى يوم الخميس، "السعد وافانا"، إننا بإذن الله منتصرون.
انطلق إلى الجامعة مبكرًا في باصها والأمل يحدوه، وتدفعه ثقة بالنصر والتأييد.
يتمنى لو يصل بروحه إلى مكتبها قبل أن يحمله جسدها، إنه الحماس البالغ.
ما الذي يجري؟ لقد تأخرت الدكتورة، لا بأس. إلى مكتب الإدارة، سأستلم ورقة صديقي ح.
المكتب مغلق أيضًا، همم لا بأس. إلى معمل الكمبيوتر. إنه موصد أيضًا.
ويظل متجولًا في حلقة محكمة الإغلاق وهي كلية الهندسة.
تمر الساعة تلو الساعة، ولا دكتورة ولا إدارة، وقد بلغ توتر البراء غايته القصوى.
بدأت ثقته بالخلاص تتلاشى شيئًا فشيئًا، إنه محبطٌ من هذا الواقع الذي لا يحترم ذاته ولا يضع اعتبارًا لإنسانيته.
لست طالبًا للعلم والمعرفة هنا، بل وظيفتك هي طاعة الدكاترة في كل ما يقولونه وعدم الاعتراض عليهم وانتقادهم.
من حقهم أن يتأخروا عليك، من حقهم أن يماطلوك، من حقهم أن يعاملوك وفقًا لأمزجتهم المتقبلة، من حقهم أن يتلاعبوا بوقتك تلاعب الصبيان بالكرة، ومن حقهم قبل ذلك كله أن يرفعوا أنوفهم نحو السماء إزراء بك.
--
"هم وغمٌ حيرةٌ وتوجعٌ *** في دارنا ومصائبٌ تتدافعُ"
--
[10]
تصطدم ثقة البراء بيوم آخر ثقيل على النفس، ولكنه آخر يومٍ للتسليم. لقد كان ضغطه شديدًا لا يمكن احتماله، فهو اليوم الأخير، كما أنه لم يسبق بما يبشر بالرفض والخسارة وخيبة الأمل.
تتحطم هذه الثقة وتتناثر ككرات الثلج التي ارتطمت بصخرة قوية، وتشتد كربته لتبلغ ذروتها التي لم يتخيل إحساسها يومًا.
يزداد الضغط، يولّد الانفجار، ولكنه انفجار من نوع آخر.
لقد دمعت عيناه، لقد انكسر أخيرًا، ولكنه توجه باعوجاجه إلى السماء.
علم أن خالقه لن يضيعه ما دام ملتجئًا إليه، رفع كفيه إلى السماء التي يحجبه عنها سقف اسمنتي ولهج بالدعاء لدقائق.
ثم غسل وجهه، وانطلق ساعيًا إلى مكتب الإدارة، وأصر على أن ينهي معاملة صديقه أولًا.
--
"عسى الكرب الذي أمسيت فيه *** يكون وراءه فرج قريب
فيأمن خائف ويفك عانٍ *** ويأتي أهله النائي الغريب"
--
[11]
لقد تهللت روحه وانفرجت أسارير وجهه لما تمت معاملة صديقه على الوجه الذي يحبه ويرضاه، فأقبل على القسم يمشي مسرعًا ليدرك روح الدكتورة في مكتبها.
وقد أدركها، ومنحته توقيعها الذي استعصى عليه حتى كاد أن يستحيل ويمتنع.
حمد الله كثيرًا، وسجد لله شكرًا على نعمه الغزيرة وآلائه الجسيمة.
--
استفاد البراء كثيرًا من مر هذه التجربة القاسية، وعلم أن الله كافٍ عباده المؤمنين، وأنه لا يخلو أحدهم من بلاء يكفر به السيئات، وعرف أن إدراك طباع الدكاترة مهم قبل الإقبال عليهم.
وتعلم أن الفرص إذا ذهبت لا تعود، وأن التسويف ما أتى بخير يومًا ما.
وأدرك أنه لا ضمان في دار التقلب والشك.
وعرف قبل ذلك أن الله يفتح مئات الأبواب للناس إن سعوا في طرقها وفتحها.
وأنه أرحم بهم من أمهاتهم.
فلك الحمد يا الله على كل نعمة ورحمة.
--
البراء بن محمد
ليلة الجمعة وصبيحتها 1438/10/27هـ
2017/7/21م
 --
ملحق:
كلمات البراء بن محمد بعد زوال الكرب:
الحمد لله مفرج الكربات، ومزيل الهموم، والصلاة والسلام على نبيه الكريم الذي علمنا الالتجاء إلى الرحمن الرحيم في أوقات الشدة والبأس، وإن كانت حاجتنا إليه باقية دائمة ما تردد نفس في صدورنا، وتحرك دم في عروقنا.
الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه.
الحمد لله الذي لطف بعباده المؤمنين، وابتلاهم بالنعم ليشكروه، وبالنقم ليصبروا ويرضوا بقضائه.
الحمد لله الذي غرس اليقين والطمأنينة في قلوبنا وقت الشك والريب، وربط عليها بالعزيمة والصبر في وقت الخور والضعف، وأغناها عما سواه في وقت الحاجة والفقر.
اللهم لك الحمد على أن خلصتني من معاناة دامت شهرًا، وكان قهرها وبأسها دهرًا في طوله وانقطاع الأمل منه.
لك الحمد يا الله أن رحمتني وتقبلت دعائي، فازداد يقيني بك وبموعودك للصالحين.
اللهم اكتب لي أجر الصبر، وارزقني لذة الانتصار، وأدخلني مدخلًا كريمًا يوم لا ينفع مال ولا بنون.
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
سيظل هذا اليوم ذكرى خالدة في النفس، ويكون وقودًا للعمل الدؤوب النافع في قابل الأيام.
الخميس
1438/10/26هـ
2017/7/20م
..

الاثنين، 6 مارس 2017

نصب الدلائل على أن الزنا من أقبح الرذائل

بسم الله الرحمن الرحيم
-
قال الله تعالى: ((ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلًا)) [الإسراء/32].
وفي حكاية الثلاثة الذين انطبقت عليهم صخرة الغار كما في الحديث الصحيح: ((فلما قعدت بين رجليها قالت: يا عبدالله! اتق الله، ولا تفض الخاتم إلا بحقه)) [رواه البخاري/3465].
قال الإمام الفخر الرازي رحمه الله: "إذا انفتح باب الزنا فحينئذ لا يبقى لرجل اختصاص بامرأة ، وكل رجل يمكنه التواثب على كل امرأة شاءت وأرادت، وحينئذ لا يبقى بين نوع الإنسان وبين سائر البهائم فرق في هذا الباب"(1).
قال الإمام القفال الشاشي رحمه الله: "فلا خفاء في العقول بقبح الزنا وحسن النكاح" (2).
-
إهداءٌ إلى روح الإمام الفخر الرازي رحمه الله الذي قال في تفسيره: "الذكورة مظنة الفعل، والأنوثة مظنة الانفعال". وكانت مقولته وقودًا للكتابة، وشعلة إلهام لي، وكلمة جامعة لمطلوب الفطرة ومقتضاها في الجنس والنكاح. بل لو اكتفيت بها عن تبيان مقصدي في الفقرة الثانية من المقال، لكانت كافية وزيادة.
وقد سررت سرورًا بالغًا لما عدت إلى تفسير الإمام وحديثه عن مفاسد الزنا، فوجدت أن بعض خواطري وأفكاري قد وافقت مدلول كلماته التي لخصتها ببراعة وبلاغة ظاهرة. فرحمه الله وغفر لنا وله، وجمعنا به في جنات النعيم.
-
الحمد لله الذي تفضل على عباده بنعمة الجنس التي زاد بها نسلهم، واشتدت أواصر حبهم، وانعقدت مودتهم، وحصل التراحم والتلاحم بينهم. فكانت لذة كبرى وحاجة ضرورية لا ينفك عنها الإنسان ما دام إنسانًا. وهي من النعيم العاجل الذي يتقيد بالحلال والحرام، والثواب والآثام، والنعيم الآجل الذي لا يتلذذ به إلا المؤمن الصابر الذي يعقل نفسه عن اتباع شهواته وتقديمها على ما سواها.
أما بعد،
فهذه مقالة موجزة في البرهنة على أن قبح الزنا (3) مما يدركه العقل الصحيح المتجرد عن الهوى، والفطرة السليمة التي تقتضي معرفة الحق والعمل به. وهي تذكيرٌ لمن انطمست بصيرته فسوّى القبيح بالحسن، وخلط الحق بالباطل، وقدم المرذول على الفاضل.
وفيها ردٌ على من احتقر النكاح وقال بأنه مجرد ورقة لا قيمة لها.
فاللهم يسر وأعن.
-
وقبل الشروع في إزالة الغشاوة عن العقل والمانع عن الفطرة، فإنه يحسن أن نستبعد بعض أنواع الجنس لقبحها. وذلك لنثبت أن جنس الفاحشة في الإسلام شرٌ مستقذرٌ يتلازم قبحه بحيث لا ينفصل بعضه عن بعضٍ فينعدم أو يقل.
فقد دلنا الواقع على أن الرجل يواقع المرأة والرجل والصبي الصغير والبهيمة، كما تشتد نزوة المرأة فيواقعها الذكر أو تعاشرها المرأة جنسيًا. فإذا ثبت أن بين هذه الأنواع قدرٌ مشتركٌ من اللذة والمحبة التي تسبق الفعل أو تقارنه أو تتبعه، كان تخصيص بعضها بالذم لهذه العلة ممتنعًا عسيرًا. فلزم البحث عن علة أخرى تخصص أحدها على البقية.
والضرر محتمل الوقوع في جميع هذه الأقسام، وإن كان متفاوتًا فيما بينها، والبحث فيه ظنيٌ في الغالب. فوجب البحث عن علة أخرى.
ولما رأينا أن جماع المرأة مفضٍ -بإذن الله- إلى تولّد الجنس البشري، وتكثيره، وهي ثمرة كبرى عظيمة، صحّ أن نميزه عن غيره من النشاطات الجنسية. فشرف جماع المرأة بشرف ما تنتجه بعدها.
وكان هذا الكمال المختص بجماع النساء مرجحًا له عن غيره من أنواع الجنس التي لا تُطلب لغير اللذة والمتعة.
فثبت بطلان هذه الأقسام لعبثيتها أو لقبح بعضها في العقول السليمة (ممارسة الجنس مع الأطفال).
-
من العلم الضروري المستقر في العقول أن الجماع وتوابعه ومقدماته من الجنس فعل يكون ابتداؤه إرادة من الذكر وقبول من الإنثى، فالفاعل الذكر، والمفعول به الأنثى. كما قال الإمام الفخر الرازي رحمه الله: "الذكورة مظنة الفعل والأنوثة مظنة الانفعال" (4).
فيُنسب فعل الجنس إلى فاعله ابتداءً وهو الذكر، دون أن يقتضي ذلك عدم مشاركة المفعول به في التأثير، فهو محل قابلٌ لولاه لما أثمر الجنس وانطفئت الشهوة. فالتذاذ المرأة بالجنس لا يلغي نسبة إيقاعه إلى الذكر غالبًا. فلما كان الجنس بأفعاله وأقواله مفتتحًا بأفعال الذكور، صح أن يكون الاختصاص به منسوبًا إليهم دون الإناث. ففعل الذكر الجنسي واقعٌ إما بالقهر والغلبة أو بالمسايسة والملاطفة، وهذا خلاف الفعل الأنثوي الذي يقع غالبًا بتزيين المحل لمن يريد وقاعه، وجذبه له، وإغراؤه به. فتتزين المرأة للرجل لتعجبه، وتدعوه إلى جماعها فتواطؤ لذته -التي يوقعها بفعله- لذتها. وابتداء المرأة ببعض مقدمات الجنس كالقبلة والضم مثلًا لا يقتضي اختصاصها بالفعل الجنسي، إذ أنها أفعالٌ مرادةٌ منها لتمهيد وطء المحل برضاها ولذتها وسرورها. وقد تقرر بأن وطء المحل فعلٌ مختصٌ بالذكر. واللغة نفسها قاضيةٌ بذلك، فنحن نقول: جامع الرجل المرأة، ولا نقول: جامعت المرأة الرجل. ومن ثم، فالذكر يختص بجسد الأنثى والعكس غير صحيح. على أن الأنثى تختص بقبول فعله حصرًا دون غيره من الذكور.
فيقال اختصارًا: الجنس إما جماعٌ أو ما يؤدي إليه من أفعالٍ تشبع قدرًا من شهوة الإنسان، والجماع فعل يفعله ذكرٌ في أنثى. وما أدى إليه من فعلٍ فإما أن يقوم به ذكرٌ ليجامع أنثى، أو تقوم بها أنثى ليجامعها ذكر، ويتبادلان ذلك ليجامع الذكر الأنثى. واتحاد النتيجة التي تقع بفعل الذكر يرجح تبعية إرادة الأنثى لإرادة الذكر. فالذكر يقدّم للجماع لتوافق إرادة الأنثى إرادته فيتحقق كمال الجنس بينهما، والأنثى تقدّم للجماع لتقع إرادة الذكر على الوجه الذي تحبه وترضاه. وهو كمالٌ إضافي لا يقتضي عدمه عدم الجماع. فصح اختصاص الذكر بإيقاع اللذة (غالبًا) والجسد الذي تقع فيه.
ويتبين هذا بوجهٍ آخر أقول فيه: في الجنس تلقيحٌ ولذة، وكلاهما محتاجان لفعل الذكر، فلما صح ابتداؤهما به، صحت نسبتهما إليه واختصاصه بهما. ولو كانت الأنثى محلًا قابلًا للّذة دون التلقيح لشاركت البهيمة والذكر والطفل في ذلك دون امتياز وفضل. فلما تميزت بالتلقيح واللذة، وكان ابتداؤهما واختصاصهما عائدًا للذكور، جاز أن يقال أنهم يختصون بذلك المحل دون عكس.
وها هنا وجه أخير: قد أجمع العقلاء على قبح إكراه الرجل امرأة -لا تحل له- على الجماع. واصطلحوا على تسميته بالاغتصاب. وهو فعل الجماع بالإكراه. وفاعله إما الذكر أو الأنثى أو كلاهما معًا. والثاني ممتنع عقلًا، والثالث يقتضي عدم تجريم الاغتصاب أو لوم الفاعل والمفعول به على حد سواء. فلا يصح لوم الرجل على الاغتصاب إلا بإثبات اختصاصه وحده بفعل الجنس.
-
قد دلت العقول السليمة على قبح تصرف العاقل فيما لا يختص به، فهو ظلم وعدوان. ومن ثم فإن جسد المرأة إما أن يختص بالرجل الواحد أو لا يختص به، والثاني مقتضٍ لامتناع الجنس (حيث ينتفي اختصاص الرجل بجسد المرأة مطلقًا) أو اشتراك غيره معه في وطء المحل (حيث يكون الجسد حقًا مشاعًا لكل الرجال دون أن يختص به أحدهم بعينه). ومعلومٌ أنه يستحيل تقسيم جسد المرأة وتفصيله مع بقاء وجوده مجتمعًا كتقسيم العقار بين الشركاء، بل لو افترضنا أن أحدهم اختص بعضو دون الآخر، لما كان بعيدًا أن تستبد به شهوته فيعدو على ما يختص به غيره (5). ويشتد امتناعه في العقل بعد العلم بلازمه وهو أن تكون كل النساء مختصات بكل الرجال، فيستوي النكاح، والاغتصاب، والمداعبة، والتحرش. فيسقط الاحتمال بذلك .
فثبت وجوب اختصاص الذكر الواحد بجسد الأنثى ليصح منه الجنس على وجهٍ لا يصير به الظلم، ثم هذا الاختصاص إما أن يحصل بمجرد توافق إرادتي الذكر والأنثى أو لا يحصل به أو يحصل باجتماعه وغيره [بحصول التوافق وغيره]. والأول مفضٍ لشرعنة الخيانة الزوجية، إذ يزول اختصاص الزوج بزوجته متى ما وافقت إرادتها إرادة غيره، والعكس صحيح في الزوج. كما أنه يفضي لاشتراك الرجلين والثلاثة وما فوقهم في المحل الواحد، وهو ممنوع كما تبين سابقًا. والثاني مفضٍ لتشريع الاغتصاب والتحرش. والثالث يرفع شناعة الاحتمالين السابقين.
ويقال زيادة في التوضيح والبيان: اختصاص الرجل بجسد الأنثى إما أن يحصل بلا شرط أو بتوافق الإرادتين بلا شرط آخر أو بتوافقهما بشروط. فالاحتمال الأول يبيح الاغتصاب كما هو ظاهر. والثاني يبيح الخيانة الزوجية، ويفضي إلى تعدد المختصين بالجسد الواحد، ولا يمكن حصر التعدد إلا بإضفاء شرط على محض التوافق. وتعدد المختصين يناقض ما قررناه ضرورة من أن جسد المرأة لا يختص بغير رجل واحد. والثالث ليس فيه محذورات الاحتمالين المذكورين.
والشرط الإضافي الذي يغاير محض توافق الإرادتين ويصح به الاختصاص، هو التزامٌ برعاية الاختصاص وإدامته. فمجرد توافق الإرادتين يجعل الاختصاص مؤقتًا يزول بتوافق إحداهما مع إرادة مغايرة. ولا يدوم هذا الاختصاص ويُرعى على وجهه الصحيح إلا بحقوق وواجبات تثبت للطرفين. وتفصيل ذلك فيما يأتي.
 لما دلت دلائل الحس القاهرة على تماثل الطبع الذكوري الذي يشتهي ما يختص به من الأجساد وما لا يختص به، دلت كذلك على حصول الغيرة من الرجال ليمنعوا من لا يختص بنسائهم من أن يتصرف بأجسادهن كما يهوى.
ولما تصفحنا الواقع وجدنا أن ما بطن من الشعور كان له مقتضيات في الخارج بحسب قوته وشدته. وذلك معلومٌ بالبداهة. فلا تشتد محبة الإنسان أو بغضه أو فرحه أو حزنه دون أن يفعل ما يوافق هذه المشاعر. فلما كانت الغيرة شعورًا باطنًا قويًا، كان ظهورها أدعى لظهور مقتضياتها. وظهرت مقتضيات الغيرة في صيانة الرجال نسائهم من أن يواقعهن من لا يختص بأجسادهن. وحصلت الصيانة باستدامة الجنس والرعاية والأقوال والأفعال الدالة على المحبة. فكان من حق المرأة على الرجل أن يتعهدها بالرعاية والمحبة والنفقة وصيانتها لئلا تميل إلى غيرع فتكون محلًا قابلًا لما لا يختص بها، فيشترك -بإهماله- معها في الظلم.
وكان من حق الرجل على المرأة أن تحافظ على ما يختص بهما من فراش، ولا تدعو غيره ليشترك معهما فيه.  وكان من مقتضيات هذا الحق ألا تتبذل لغيره في الكلام أو الفعل لئلا يدعوه ذلك لوطئها. وأن تبذل وسعها في التقرب إليه، كما يبذل وسعه في التقرب إليها.
وثبوت هذه الحقوق والواجبات متوقفٌ على التزامٍ مبدئي من الرجل باعتباره الفاعل المختص، وقبول لهذا الالتزام من الأنثى باعتبارها المفعول به الذي هو محل قابل للاختصاص.
ولما كان الفعل أظهر من القول في بيان شدة الالتزام، كان على الرجل أن يبذل للمرأة مالًا(6) أو ما في حكمه، ليؤكد جديته وعزمه على الاختصاص بها. والأصل في الاختصاص أن يدوم لا على وجه التأقيت الذي يزول كما في الدعارة، ومن ثم فلا وجه للتعكير عليه بتشبيهه بالدعارة.
ولما كان الالتزام بإدامة الاختصاص خاليًا من العيب والنقص، كان إظهاره أولى من إخفائه لعدم دواعي الإخفاء من العيب والنقص. وكان علم الناس بذلك واجبًا لئلا يطمع أحدهم في الاختصاص بامرأة التزم أحدهم بالاختصاص بها ووافقته على ذلك.
ولما كان الالتزام محتاجًا إلى مرجع يحتكم بموجبه الطرفان عند التنازع والاختلاف، كان من الضروري حفظه مسطورًا في عقدٍ مشهودًا عليه من الكافة. والعقد يسري عليهما ما لم يطرأ ما يناقضه أو يتعذر قيامهما أو قيام أحدهما بحقوق الآخر مع عدم الرضا والتنازل. فيفسخه الرجل أو المرأة بتفصيل بينه الشرع الحكيم. 
والناس يسمون الاختصاص السابق بالنكاح أو الزواج. ويجوز أن يتعدد من الرجل، لأن الرجل يختص بجسد المرأة، والعكس غير صحيح. والمرأة تختص بالفراش الذي بينها وبين الرجل، فلا تنقضه بافتراش نفسها لغيره، ولا ينقضه الرجل بأن يفترش غيرها ممن لا يختص بها. وقد صح اختصاص الرجل بامرأتين فصاعدًا لأنهما محلان مختلفان، بخلاف اختصاص المرأة برجلين فصاعدًا لأنها محل واحد لا يقبل الاشتراك كما بينا سابقًا.
ثم معرفة تفاصيل النكاح راجعة إلى الشرع الذي أنزله الله متوافقًا مع فطرة الإنسان السليمة وعقله الصحيح. وإنما يختص العقل والفطرة بإدراك حسن النكاح وقبح الزنا مجملًا، وهو ما أردت بسطه وتفصيله فيما كتبته آنفًا. ويُطْمس نور الفطرة باتباع الهوى الذي شاع بين الناس فأعماهم عن الحقائق الجلية. ويحصل اتباع الهوى بموافقة الجماعة على اتباع الباطل والعمل به، وتقديم اللذة الشخصية المؤقتة على الحق عند تعارضهما.
أما وقد قال بعض العقلاء استهزاءً بالنكاح أنه مجرد ورقة لا تنفع أو تضر [كناية عن عقده]، وتبين أنهم قد وافقوا بذلك المزاج العالمي المغرق في الشهوات والرذائل، فقد وجب أن أذكرهم ببعض دلالات العقل اليقينية على بطلان الزنا وما يتعلق به، وأنه جنس شرٍ لا خير فيه حتى لو كان بالتراضي. فمن أصر على التفريق بين أنواع الزنا على أساس التراضي، فليعلم أنه سيتناقض مع نفسه حيث يجب أن يطرد في إباحة الجميع، بما في ذلك الاغتصاب والخيانة الزوجية ومقدماتهما.
-
وها أنا ذا أسرد اعتراضًا محتمل الورود على الأذهان بعد قراءة ما سطرته من الحجة والبرهان:
سلمنا جدلًا بأن الجنس فعلٌ مشترك بين الذكر والأنثى، يفتتحه الذكر بإرادته ويقع منه مغالبةً أو مسايسة فصحت نسبته إليه، واختصاصه به حصرًا دون الأنثى. ولكن ما تقولون في الحب بمراتبه المتفاوتة قدرًا وجلالة؟ أو لسنا نرى في الشاهد اشتراك الذكر والأنثى في الحب على نحوٍ يتعذر معه نسبة أصله إلى واحدٍ منهما بخلاف الجنس؟ كما أن الزواج ليس شرطًا كافيًا لديمومة المحبة والمودة بين الزوجين، بل كثيرًا ما نرى الزواجات التي يرتفع عنها الحب والمودة، لتحل محلهما الرتابة والفتور والبال المكدور والقلب المهدور. وما أكثر ما نرى أو نسمع من أحوال العشاق والمحبين الذين دام حبهم واستمر آجالًا طويلة وأزمنة مديدة دون أن ينكح أحدهما الآخر. فما ثمرة الزواج وليس فيه ما يضمن دوام الحب حقًا بين الذكر والأنثى؟
أفلا تكون علاقات الحب خارج قفص الزواج وإطاره خير بديلٍ لهذا القيد الثقيل؟
لم لا يصح في العقل والفطرة أن يحب الذكر الأنثى بعفوية وخفة روح تبتعد بها عن تسلط المجتمع وثقله على الأفراد؟
-
وهو اعتراضٌ أصله الباطل الذي لا قرار له (7) في نفوس طالبي الحق، وذلك من وجوهٌ متعددة:
1- من اعوجاج الفكر أن يصف العاقل المختلفات بما تشترك به فيجعله مميزًا لها عن بعضها. وهو ترجيحٌ بلا مرجح وتفريق بغير مفرق. ومن ذلك وصف العلاقات التي تحدث خارج إطار الزواج بأنها (علاقات حب). ذلك وأن الحب ليس مميزًا لها عن الزواج، وإنما هو قدر مشتركٌ بينهما في الحقيقة. فاستخدام اللفظ في هذا السياق مصادرةٌ لا تغتفر، إذ أنه يوهم اختصاص هذه العلاقات بحبٍ يكون أعظم من حب الزواج بحيث يصح تمييزه عن الحب الذي يقتضيه الزواج. وهي دعوى عارية عن البرهان. ومن ثم، فلا تصح المقابلة بين الزواج وغيره إلا بوصف غيره بأنه علاقةٌ خارج إطاره. وتسميتها بعلاقات الحب أو الصداقة فيه تلبيس لفظي.
2- قد شاعت أخبار المحبين بين الأمم، واستفاضت أشعارهم وأغانيهم على نحوٍ يحصل به اليقين. وكان مما اشتركت به هذه القصص التي تكررت كثيرًا دون تواطؤٍ عليها أن كانت الرغبة إلى النكاح غاية يتوق إليها المحبان، ويسعيان في تنجيزها برغم ما يكابدانه من مشاق وآلام. فلما اتُخذ الحب سبيلًا للنكاح والوصال، وانعدم طلب حبٍ خارج الزواج بعد الزواج، دل ذلك على أن النكاح غاية كبرى من غايات الحب. وكمالٌ من كمالاته. فكان سعي المحبين للنكاح على اختلاف بلدانهم وأعراقهم وأديانهم مع توافر دواعي الزنا منذ فجر البشرية دليلًا فطريًا على كمال النكاح وفضله على الزنا.
3- لا عاقل يقول بأن كل زواجٍ مفضٍ إلى تمام الحب والمودة بين الزوجين، كما لا يصح أن يقال أن كل علاقة خارج الزواج مفضية إلى تمام الحب والمودة. فالواقع مخبرٌ عن كثير من عواقبها الوخيمة التي تنوعت بين فجورٍ في الخصومة واعتداءٍ وابتزازٍ وإفساد المزاج والنفس. فإن صح ذم الزواج لأن زواجات بعضهم قد تخللها الاعتداء والظلم والعدوان، فما كان خارجه أولى بالذم لاشتراكه في نفس العلة. فثبت بذلك أن ذكر العلاقات خارج الزواج على النحو الذي تخفى به أضرارها الواقعية هو من التفكير الرغبوي المقيت. بل قد يقال أن النكاح يدعو لتقليل أضرار الاختلاف والتنازع بين الرجل والمرأة بخلاف الزنا كما في الوجه القادم.
4- في الزواج ضمانٌ لحقوق الطرفين، بإمضاء عقدٍ مشهودٍ بينهما يسري عليهما حتى يفسخه أحدهما عند قاضٍ عدل. وذلك مناقض لأي علاقة خارج الزواج، حيث تنتفي الحقوق والواجبات وتحل محلها الظنون والتوقعات. وهذا مُشاهدٌ معلومٌ لا ينكره أحد. فليس فيما يخرج عن الزواج إلزامٌ لأحد الطرفين بأداء حقٍ لآخر. ولو حدث أن ظلم أحدهما الآخر ظلمًا بينًا فيما يشذ عن نطاق قوانين المجتمع والقضاء، لما وجد من ينتصف له منه. بل لو لحقه ظلمٌ يخالف قوانين القضاء وأنظمته لما وجد فارقًا بينه وبين غريبٍ يمشي في الشارع.
نعم قد تبيح بعض شرائع الدول الزنا وتجعله علاقة معتبرة بوجه من الوجوه، ولكن هذا لا يتم إلا بقياسه على الزواج لمعرفة الحقوق والواجبات. فالزواج أصل أبدًا بخلاف الزنا.
بل لا يبعد أن يقال أن الفواحش بأشكالها المختلفة قد تؤدي إلى البغضاء والشحناء والظلم والكراهية، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "والناس إذا تعاونوا على الإثم والعدوان أبغض بعضهم بعضًا، وإن كانوا فعلوه بتراضيهم" (8).
ويقول بعد ذلك بقليل: "كالزانيين كل منهما يقول للآخر لأجل غرضك فعلت معي هذا. ولو امتنعت لم أفعل أنا هذا؛ لكن كل منهما له على الآخر مثل ما للآخر عليه؛ فتعادلا.
ولهذا إذا كان الطلب والمراودة من أحدهما أكثر كان الآخر يتظلمه ويلعنه أكثر، وإن تساويا في الطلب تقاوما" (9).
5- لا ريب أن قيد الزواج وثقله الشديد راجعٌ إلى المسؤوليات الملقاة على كاهل طرفيه. ومن ثم، فإن العقل الصحيح المتجرد عن سلطان الهوى يحكم بكمال من يحب ثم ينكح محبوبته ويفضّله على من يحب ثم يتقاعس عن النكاح ويتقهقر بغير موجبٍ لذلك. فالأول مسؤول يؤكد ثقة المرأة وأهلها به، ويضمن لهم بما بذله من جهد أنه سيرعى حرمة الميثاق الغليظ بينهما جيدًا. بخلاف الثاني الذي يتهرب عن تحمّل تبعات حبه ومودته لتصبح أقوالًا مفرغة من المعنى والبيان.
6- النكاح بيئة خصبة لنمو الحب وازدهاره بين الرجل والمرأة. وذلك لما يختص به من حدود دقيقة تفصل بين الحقوق والواجبات وتحقق معنى العدل، وتترك للعقل مساحة التفكر في الإحسان الذي يزيد عليه. بخلاف العلاقات التي تخرج عنه إذ لا تختص بمعيارٍ واضح توزن به الحقوق والواجبات على النحو الذي تنتفي به العبثية والاعتباطية والارتجال لغير معنى. وأخطاء المتناكحين لا تعود على هذا التقرير بالنقض. إذ أنها راجعة لعدم ملائمة الزوجين لبعضهما  البعض أو التقصير في الحقوق والواجبات. وهذا ينفي النقص عن ماهية النكاح؛ ليثبت [النقص] لمن يتناكحون.
7- لما ثبت أن ما خرج عن النكاح من جنسٍ وحبٍ لا يخصص جسد المرأة [الحرة] (10)، ثبت بذلك أن الغيرة المتعلقة به عبثٌ لا محصّل له بخلاف الغيرة الزوجية التي تكون في محل الحق دون الباطل. فليس لمن تعلق بامرأة ولم ينكحها أن يغار ممن يشاركه جسدها إلا بنوع قياس فاسدٍ [على النكاح] يجعل فيه محبته إياها علةً لاختصاصه بها، رغم إمكان اشتراك الناس معه فيها.  
 8- أن شهوة الجنس مرتبطة ارتباطًا شديدًا بالحب، بحيث دلنا الحس وخبر الناس على أنه لم يحب رجلٌ امرأة دون أن يشعر بلذة حسية تتعلق بجسدها وافتعال الجنس معها. وهو ظاهرٌ في كثيرٍ من أشعار الغزل وأدبه (11). فلما بطل الجنس مع من لا يختص الرجل بهم، كانت موافقة الطبع المائل إليهن وتقويته باسم الحب والغزل عبثًا ظاهرًا حقيقًا بالذم لكونه داعيًا للجنس وغيره. ومن زعم أنه يحب امرأة دون أن يشعر تجاهها بميلٍ جنسي فقد أبلغ في الكذب ومكابرة ضرورة الحس!
9- أن الحب شعور متغيرٌ شديد التفاوت يزيد تارة وينقص تارة أخرى، فلا يصح أن يكون معيارًا منضبطًا للاختصاص الجنسي بجسد المرأة، إلا لو قيل بأن الاختصاص يتفاوت بتفاوت الحب. وفي ذلك تجويزٌ ظاهرٌ للخيانة الزوجية.
10- أن النكاح مظنة تكريم المرأة واحترامها وتوقيرها. فالزوجة تزيد درجاتٍ ومراتب عن العاهرة والزانية بتحمل مسؤوليات المنزل، وإعانة الزوج، وإنجاب الأطفال، ورعايتهم، وتربيتهم، وإدامة الحب والمودة. فإن قيل بأن بعض الزانيات يشاركنها في بعض ذلك أو غالبه، قيل بأن العبرة بحقائق الأوصاف والمعاني لا محض تشابه الظواهر. فالزواج من حيث هو يقتضي كل ذلك، والزنا من حيث هو لا يقتضي كل ذلك. فالزنا فيه تأكيد على أن المرأة أداة جنسية لإشباع غريزة الرجل. وهو لفظٌ يشمل الدعارة والاغتصاب والجماع الذي يكون بالتراضي. وهو متعلقٌ بصلاحية المرأة للتمتع الجنسي وشيءٍ من التمتع العاطفي وحسب. والزنا مظنة الإجهاض أو إلقاء الأطفال إلى الشوارع المجهولة وحرمانهم حنان الأمومة والأبوة.
وللإمام الفخر الرازي رحمه الله نص نفيس في تقرير هذا الوجه، أنقله كما هو. يقول الإمام: "أنه ليس المقصود من المرأة مجرد قضاء الشهوة بل أن تصير شريكة للرجل في ترتيب المنزل وإعداد مهماته من المطعوم والمشروب والملبوس، وأن تكون ربة البيت وحافظة للباب وأن تكون قائمة بأمور الأولاد والعبيد، وهذه المهمات لا تتم إلا إذا كانت مقصورة الهمة على هذا الرجل الواحد منقطعة الطمع عن سائر الرجال، وذلك لا يحصل إلا بتحريم الزنا وسد هذا الباب بالكلية" اهـ (12).  
11- أن الزنا (الذي هو جنسٌ وحبٌ خارج الزواج) فيه إفسادٌ لطبع الحياء الذي تمتدح المرأة به خاصة دون الرجال. والمرأة بفطرتها تدرك أنه ليس كل أحدٍ مستحقًا لجسدها مهما بذل لها رخيص الكلام والود. وهي وإن كانت تتبذل في لباسها وتتبرج على نحوٍ يخالف هذه الفطرة، إلا أنها تضبط قولها وفعلها فلا تحرص على أن يكون فيه إشارة لأحدهم أنها محل جاهز لتفريغ شهوته. وإن كان الرجل مذمومًا ابتداءً بتصرفه فيما لا يختص به من أجساد النساء، فإن المرأة مذمومة أيضًا لتبذلها وتبرجها له. والدعوة إلى الزنا من خلال تسويغه بعلاقات (الحب) تعني ابتذال المرأة لغيرها من الرجال. فإن جاز للمرأة أن تسترخص نفسها لواحدٍ لا يختص بها، جاز أن تسترخص نفسها لجميع الرجال الذين لا يختصون بها ضرورة اشتراكهم في عدم الاختصاص بها. أي أن هذه العلاقات التي يزعمون براءتها وعفويتها ونقاوتها مظنة العهر حقيقة، والعاهرة مذمومة خسيسة لا خير فيها ما لم تتب إلى الله وتنقطع عن إفساد المجتمع وإغوائه، وهو مما قد بينته في مقالٍ سابق (13).
12- أنه لو كان محض الحب واللذة الجنسية كافيًا في تسويغ مواقعة المرأة بغير اختصاص (14)، لجاز أن يواقع الرجلُ البهائم والصبيان دون البلوغ. ولكن الفطر التي شوّهت بكثرة موانع الهوى التي تحجزها عن اتباع كثيرٍ من الحق لا تزال تجرّم مواقعة البهائم والصبيان، لاستقذارها الفعل الأول، وشعورها بضرر الفعل الثاني وما فيه من الأذى. وهذا كافٍ بفضل الله للدلالة على أن محض الشهوة والمحبة لا يسوغ فعلًا إراديًا فضلًا عن أن يكون جنسيًا. والمعترض قد اعترض بمجرد الطبع والمحبة لا أكثر، فيلزمه الاطراد في استدلاله، أو النكوص عنه.
13- الزنا ينقض نظام الأسرة وأساسه، ومعلومٌ أن الأسرة هي أساس التربية والمحبة (15). وذلك ظاهرٌ جليٌ في أن الزنا لا حقوق فيه ولا واجبات، وهو نقيض النكاح الذي يرتبط الزوجان فيه، ليكونا أبوين لأطفالٍ يجب عليهم الاعتناء بهم وحفظ حياتهم وأخلاقهم ودينهم، ويجب على أطفالهم أن يبروا بهم ويتقربوا إليهم. أما الزنا، فعواقبه إما إجهاض الأطفال وقتلهم في الأرحام، أو رميهم إلى الشوارع ومحاضن اللقطاء، أو الاعتناء بهم على غير نظام الأسرة الصارم الملزم. وكلها سلبٌ لحق الإنسان الأصيل في أن يعيش مع والديه يعتنيان به. فبالنكاح تُحفظ الأنساب والحقوق، وبالزنا يضيع كل ذلك. فإن احتج محتجٌ بأن معرفة نسبة الولد إلى أبيه أضحت ممكنة بمعرفة الDNA. قيل بأن هذا الشريط لا يحفظ حقًا ولا يؤدي واجبًا. فهل سيُلزِمُ أباه حقًا أن يعتني به ويعتبره ابنًا له؟ ما الذي سيلزمه بذلك وهو قد دفق منيه في فرج امرأةٍ ليس بينهما اتصالٌ تحفظ به الحقوق وتؤدى به الواجبات؟
14- الزنا يفسد أخلاق النساء ويجعلهن في منزلة وضيعة في المجتمع، وفي ذلك يقول أبو الأعلى المودودي رحمه الله: "ومما تستلزمه إباحة الزنى أن تجري في المجتمع حرفة البغاء. وذلك أن من يقول بأن لرجل شاب حقًا في أن يمتع نفسه بلذات الشباب فكأنه يقول مع ذلك بأن تكون في المجتمع لهذا الغرض طبقة من الإناث تكون في أسفل الذل والمهانة بكل اعتبار. ولكن من أين تأتي أولئك النساء؟ أفلا يخرجن من هذا المجتمع الذي يعيش فيه؟ أو لا يكنَّ من بناته هو وأخواته؟ بلى، لا بد أن تنفر من أولئك النساء اللائي تجدر كل واحدة منهن بأن تكون ربة بيت ومؤسِّسَة عائلة ومربية أولاد، طائفة إلى حي البغايا، ليكنَّ كمراحيض البلدية موضع قضاء الوطر لكل خليع داعر ويتجردن من جميع الخصائص النسوية الشريفة، ويتدربن على التكسب بالغنج والدلال، ويسفلن إلى أن يبعن محبتهن وقلوبهن وأجسامهن، ومحاسنهنّ ومفاتنهن، لكل زائرٍ جديد في كل ساعة، ويبقين مدة أعمارهن أداة لقضاء شهوات غيرهن، بدل أن يقمن بخدمة نافعة مثمرة للمجتمع." (16).
-
فهذه أربعة عشر وجهًا في بيان أن المحبة والعشق لا يجمّلان الزنا أو يزيلان قبحه. بل إن قبح الجنس مع من لا يختص به دالٌ على قبح أفعال الحب الإرادية التي تقترن به أو تسبقه. وليس لعاقلٍ أن ينفي ارتباط أو اقتران الجنس بمحبة المرأة.
وملخص المقال هو أن الجنس إما أن يكون بحرية مطلقة أو مقيدة، والأول يقتضي جواز الاغتصاب والتحرش، فوجب الثاني. والحرية المقيدة لا تكون بغير قيامٍ بالحقوق واختصاصٍ بالواجبات، فبطل بذك الزنا واللواط والسحاق ووطء الصبيان والبهائم، ووجب أن يتصف النكاح بأنه جنس أخلاقي لأن فيه كمال الحقوق والواجبات التي تنعدم في غيره.
-
نصوص متفرقة:
الفخر الرازي: "الزنا شهوة قبيحة خالية عن المصلحة التي لأجلها خلقت" (17).
الراغب الأصفهاني: "وسمى ذلك سفاحًا من حيث أن المجتمعين عليه لا غرض لهما سوى سفح الماء للشهوة، كمن ضيّع مالًا في غير حرثه" (18). 
-
اللهم أعتقنا من سلطان الهوى، وأعنا على قوة الشهوة، وكيد الشيطان، واهدنا في زمن الفتن والأهوال، واغفر لنا ما اقترفناه من خطايا القصد والقول والعمل.
والحمد لله رب العالمين.
كتبه البراء بن محمد
قبيل فجر الإثنين 1438/6/7هـ
2017/3/6م
وأعاد تحريره وتنقيحه مغرب الثلاثاء 1438/6/8هـ
2017/3/7م
وأضاف إليه وجدد في بنيته فجر الخميس 1438/6/10هـ
2017/3/9م
وأعاد تحريره وصياغته صباح الأحد 1438/6/13هـ
2017/3/12م
وأعاد نشره بعد إخفائه مع تحريرات مهمة مساء الثلاثاء 1439/8/29هـ
2018/5/15م
-
على الهامش:
(1): (مفاتيح الغيب، فخر الدين محمد بن عمر، دار الفكر، الطبعة الأولى 1401هـ-1981م، الجزء العشرون، ص199). وقد قال الإمام الغزالي رحمه الله من قبل: "فقد خلق الغذاء سبباً للحياة ، وخلق الإناث محلاً للحراثة ، إلا إنه ليس يختص المأكول والمنكوح ببعض الآكلين بحكم الفطرة ، ولو ترك الأمر فيه مهملاً من غير تعريف قانون في الاختصاصات لتهاونوا وتقاتلوا"
(جواهر القرآن، أبو حامد [محمد بن محمد] الغزالي، تحقيق: محمد رشيد رضا القباني، دار إحياء العلوم، ط2 1406هـ-1986م، ص33).
(2): (محاسن الشريعة في فروع الشافعية، أبو بكر محمد بن علي بن إسماعيل بن الشاشي القفال الكبير، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 2007م، ص262)
(3): الأصل أن الزنا يشمل ما حصل بالتراضي أو الإكراه من جنس خارج الزواج، إلا أن الاغتصاب مجرّمٌ عند المخالف الذي يعتقد حسن الزنا بالتراضي. فنصف ما يستحسنه بالزنا دون أن نجعله في سلة واحدة مع الاغتصاب وذلك في مقام المحاججة لا أكثر. فالأصل عند ورود لفظة الزنا في هذه المقالة أن يشار بها إلى ما وقع من الجنس بالتراضي. 
(4): (مفاتيح الغيب، فخر الدين محمد بن عمر الرازي، دار الفكر، الجزء الرابع عشر، ص176).
(5): قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فإن الفروج لا تحتمل الاشتراك"
((مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، المجلد الثاني والثلاثون، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1425هـ-2004م، ص117).
قال الإمام ولي الله الدهلوي رحمه الله: "وفي مزاحمة الناس على موطوءة تغيير الجبلة الإنسانية، وهي مظنة المقاتلات والمحاربات بينهم" (حجة الله البالغة، ولي الله أحمد [بن عبدالرحيم] الدهلوي، تحقيق: السيد سابق دار الجيل، الجزء الثاني، الطبعة الأولى 1426هـ-2005م، ص242).
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: "لو أبيح للمرأة أن تكون عند زوجين فأكثر، لفسد العالم، وضاعت الأنساب، وقتل الأزواج بعضهم بعضاً، وعظمت البلية، واشتدت الفتنة، وقامت سوق الحرب على ساق. وكيف يستقيم حال امرأة فيها شركاء متشاكسون؟ وكيف يستقيم حال الشركاء فيها؟"
(إعلام الموقعين عن رب العالمين، محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية، دار ابن الجوزي، ط1 1423هـ، المجلد الثالث، ص325).
(6): قال الإمام الدهلوي رحمه الله: "فلا يظهر الاهتمام بالنكاح إلا بمال يكون عِوضَ البُضع، فإن الناس لما تشاحوا بالأموال شحًا لم يشحوا به في غيرها كان الاهتمام لا يتم إلا ببذلها، وبالاهتمام تقر أعين الأولياء حين يتملك هو فلذة أكبادهم، وبه يتحقق التمييز بين النكاح والسفاح" (حجة الله البالغة، الجزء الثاني، ص199).
(7): قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فالمبطل ليس قوله ثابتًا في قلبه، ولا هو ثابت فيه ولا يستقر، كما قال تعالى في المثل الآخر: ((فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض)). فإنه وإن اعتقده مدة فإنه عند الحقيقة يخونه" (مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، المجلد الثالث عشر، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1425هـ-2004م، ص159).
(8): (مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المجلد الخامس عشر، 1425هـ-2004م، ص128).
(9): (مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المجلد الخامس عشر، 1425هـ-2004م، ص129).
(10): وهو ضابطٌ مهم تخرج الأمة به عن محل البحث جملة وتفصيلًا.
(11): وعدمه عند بعضهم ليس دليلًا على انعدامه حقيقةً، فعدم الدليل ليس دليلًا على العدم كما هو معلوم. وطبع الذكور الجنسي متماثلٌ في الغالب.
(12): (مفاتيح الغيب، دار الفكر، فخر الدين محمد بن عمر الرازي، الطبعة الأولى 1401هـ-1981م، الجزء العشرون، ص199).
(13): وقد أخفيته لعدم الحاجة إليه ولأسباب أخرى.
(14): قال الإمام الفخر الرازي رحمه الله: "الاشتغال بمحض الشهوة تشبه بالبهيمة، وإذا كان الاشتغال بالشهوة يفيد فائدة أخرى سوى قضاء الشهوة، فليكن قضاء الشهوة من المرأة يفيد فائدة أخرى سوى قضاء الشهوة، وهو حصول الولد وإبقاء النوع الإنساني الذي هو أشرف الأنواع . فأما قضاء الشهوة من الذكر فإنه لا يفيد إلا مجرد قضاء الشهوة، فكان ذلك تشبهًا بالبهائم، وخروجًا عن الغريزة الإنسانية، فكان في غاية القبح" (مفاتيح الغيب، فخر الدين محمد بن عمر،  دار الفكر، الطبعة الأولى 1401هـ-1981م، الجزء الرابع عشر، ص176-177).
(15): قال الشيخ عبدالله البسام رحمه الله في سياق ذكره لمنافع النكاح: "ومنها: حفظ الأنساب التي يحصل بها التعارف والتآلف والتعاون والتناصر، فلولا عقد النكاح وحفظ الفروج به، لضاعت الأنساب والأصول، ولأصبحت الحياة فوضى لا وراثة، ولا حقوق، ولا أصول، ولا فروع. ومنها: ما يحصل بالزواج من الألفة والمودة، والرحمة بين الزوجين، فإن الإنسان لا بد له من شريك في حياته، يشاطره همومه وغمومه، ويشاركه في أفراحه وسروره، وفي عقد الزواج سر رباني عظيم، تتم عند عقده إذا قدر الله الألفة، فيحصل بين الزوجين من معاني الود والرحمة ما لا يحصل بين الصديقين أو القريبين إلا بعد الخلطة الطويلة" (توضيح الأحكام من بلوغ المرام، عبدالله بن عبدالرحمن البسام، مكتبة الأسدي، الطبعة الخامسة 1423هـ-2003م، الجزء الخامس، ص210).
(16): (الحجاب، أبو الأعلى المودودي، تعريب: محمد كاظم السباق، دار الفكر، ط2 1384هـ-1964م، ص165).
(17): (مفاتيح الغيب، فخر الدين محمد بن عمر الرازي، دار الفكر، ط1 1401هـ-1981م، الجزء الخامس والعشرون، ص59).
(18): (الذريعة إلى مكارم الشريعة، أبو القاسم بن الحسين بن محمد بن المفضل الراغب الأصفهاني، دار الكتب العلمية، ط1 1400هـ-1980م، ص210).

الخميس، 16 فبراير 2017

Attacking Faulty Reasoning Summary

In the name of Allah, , the Most Gracious, the Most Merciful.
Here, I present my summary of "Attacking Faulty Reasoning" written by T. Edward Damer. I read this book half year ago and it was fascinating and informative. It began with a comprehensive introduction about the arguments and how they are distinguished from mere opinions. Damer explained very well the criteria to be met with for the argument to be acceptable.
As I completed the book, I made a personal summary of the book to review it since I do not possess the original book. Unfortunately, I couldn't complete that summary because I was in rush for travelling. After almost 6 months of leaving an uncompleted summary, I took the advantage of the holiday to complete the summary and publish it to be available to everyone. I have spent my very effort to do the task perfectly. Thanks to Allah, I succeeded. And here I present my outcome.
It's important to notice that the 2nd edition of the book, which I summarized, are not available on the Internet. However, I found that the 6th edition is available on the Internet albeit not legal.
To get straight to the point, here are the summary and the 6th edition as well.

The summary

The 6th edition

Albara Ibn Mohamed
First uncompleted draft 19/9/1437H 24/6/2016
Second completed draft 9/5/1438H 5/2/2017
Final edited ad published version 20/5/1438H 16/2/2017