السبت، 29 أكتوبر 2016

عقل في زجاجة!

بسم الله الرحمن الرحيم
(ما الدليل على أن عقولنا ليست محبوسة في قنينة زجاجية ويتحكم بها كمبيوتر يبعث إليها صورًا وتخيلات مخالفة لواقعها؟ ماذا لو كانت حياتنا حلمًا طويلًا ووهمًا كبيرًا؟)

كتبت قبل أربعة أشهرٍ(1) مقالًا في نقض الاعتقاد بأن عالمنا وهمٌ لا حقيقة له وأننا نسكن مصفوفة مغلقة يتحكم بها أحدهم.
تذكرت مؤخرًا أن باعث هذه الفكرة كان فيديو في اليوتيوب (2) عن المذهب الشكي skepticism وشكهم في واقعية عالمنا، فأعدت مشاهدة الفيديو وأضفت إليه اثنين من مقاطع الفيديو التي فيها محاولات فلسفية لإثبات أن عالمنا واقعي وأن عقولنا ليست حبيسة قنينة زجاجية.
لم تخل هذه المحاولات من الثغرات والأخطاء التي يمكن النفاذ منها وتقوية "شك" الشكاكين حول واقعية عالمنا.
أود تسجيل ملاحظة شخصية مختصرة بهذا الصدد:
خطأ الفلاسفة الذين حاولوا نقض فكرة أن عقولنا حبيسة قنينة زجاجية هي أنهم تعاملوا مع الفكرة كما لو أنها كانت شبهة فلسفية معتمدة على دليل حسي أو عقلي.
وحقيقة هذه الفكرة هي أنها معتمدة على مجرد الإمكان الذهني. أي: أنها ممكنة الوقوع عقلًا، فلا يترتب على ذلك أي استحالة عقلية كالجمع بين النقيضين مثلًا.
وهذا الجزء من الفكرة صحيحٌ لا غبار عليه لكنه ليس كافيًا ليكون دليلًا صحيحًا على دعوى تفتقر إلى الدليل.
وجود التنين ممكن عقلًا ولكنه مستحيل واقعًا، لا تجد عقولنا أي مشكلة في تخيل عالمنا بوجود تنانين، ولكن ليس لدى عقولنا أي دليلٍ يدعم إمكانية وجود هذه التنانين فعلًا خارج أذهاننا. هذا كل ما في الأمر.
من الممكن عقلًا أن تكون قد جئت إلى الأرض من كوكب مغايرٍ إلا أن والديك قد اتفقا على تضليلك بالقول بأنك ابنهما الذي خرج حصادًا للبذرة التي زرعاها وأشرفا على نموها. ومن الممكن كذلك أن يكونا قد اتفقا مع الكثير من الناس على الكذب عليك وإتقان هذه الكذبة جيدًا بحيث لا يخطر ببالك شكٌ أو جزء من الشك حول مبتدأ وجودك في الأرض.
كل هذا ممكن عقلًا إلا أنه مستحيل واقعًا. وما لم يطرأ أي شك قوي للغاية حول صحة نسبتك إلى والديك، فلا داعي لتجشم عناء فحص عينات الـDNA الخاصة بك ووالديك لتثبت أنك منتسب إليهما فعلًا. لن يصدر هذا الفعل غالبًا سوى من مجنون أو من غلبه الوهم أو عابثٍ شديد العبث.
نعود لفكرة العقل المحبوس في الزجاجة أو المصفوفة المغلقة.
لاحظ أن الفكرة كلها تعتمد ابتداءً على سؤالٍ افتراضي: (ماذا لو ...؟)، ثم يسترسل صاحب الفكرة في تشييد الفروض المنطقية التي يمكن أن تترتب على هذا الافتراض (العاري عن الدليل والبرهان). فيُذهل المستمع أو القارئ بقوة هذه اللوازم أو النتائج ويراها أنها ممكنة التحقق جدًا دون أن يلتفت إلى الأصل الواهي الذي تهدمه مروحة كهربائية بقوة الزر رقم 1.
وما يفعلونه يذكرني بما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فمن استدل على إمكان الشيء ووجوده في الأعيان، بإمكان تصوره في الأذهان، كان في هذا المقام أضل من بهيم الحيوان" [درء تعارض العقل والنقل 134/5]
الخلاصة: لا تبالغ النظر في النتائج دون أصلها الذي نشأت منه.
--
الهامش:
(1)
كتبت أصل المقال قبل أربعة أشهر، ثم عدلته ونقحته بعد ذلك ونشرته في قناتي بالتلغرام، قبل نشره مؤخرًا في المدونة.
(2)

الثلاثاء 1437/8/10هـ
2016/5/17م

بطلان الاعتقاد بأننا داخل مصفوفة أو حلم ووهم وخيال

بسم الله الرحمن الرحيم
يدعي بعض الناس أنه من الممكن أن تكون حياتنا وعقولنا حبيسة مصفوفةٍ ما matrix أو أن ما نشاهده ونعاينه ونحسه ونجسه من العالم الخارجي إنما هو حلمٌ ووهمٌ نعيشه، وليس له حقيقة ثبوتية.

وهذا الاعتقاد باطلٌ لا حقيقة له، وتلفيق لا أصالة له، بل هو كذب وتناقضٌ فج، وذلك لاشتماله على ما يخالف بدائه العقول السليمة.
ونبطل هذا الاعتقاد بما يلي:
1-هذا المعتقد مفتقر إلى الدليل، وحيث أن معرفته واستيعاب مفهوميته ليست مبدأً عقليًا قبليًا، ولا ضرورة عقلية يكتفى بالتمثيل بها لمعرفتها، بل هي معتقد مكتسب، فهي إذن مفتقرة إلى الدليل والنظر حتى تصح وتثبت. وأصحاب أو القائلون بهذا المعتقد لا يستندون في إثباتهم إياه على دليل، فهو معتقد مبنيٍ على عدم الدليل. وصحيحٌ أن عدم الدليل ليس دليلًا على العدم، ولكن عدم الدليل ليس بالتأكيد دليلًا على الثبوت والصحة (إلا إن كان وجود الدليل لازمًا عن وجود مدلوله).
2-يعتمد أصحاب هذا المعتقد على مجرد الإمكان الذهني، فيقولون: أليس من الممكن أن تكون عقولنا محدودة بمصفوفة ومُتحكمًا فيها من قِبَل موجودٍ خارجي؟ أليس من الممكن أن يكون دماغك موضوعًا في إناء زجاجي، وليس ثمة جسدٌ ولا واقعٌ وإنما هي إشارات وصور ذهنية نتعامل معها؟
وهذا ممكنٌ عقلًا، وليس ممتنعًا في ذاته، العقل يستطيع تخيل كل ذلك وتصوره، وليس هذا موضع النزاع قطعًا، إذ أن النزاع والخلاف بيننا وبينهم هو في ثبوت كل ذلك وتحقق وجوده. وهذا التحقق والثبوت ليس بحاصلٍ بالإمكان الذهني المجرد وحده، فحقيقة الإمكان الذهني هي عدم الامتناع، وليست هي ثبوت الأمر نفسه ووجوده. وبناءً على ذلك، فقد يكون هناك الكثير من الممكنات الذهنية التي يمتنع تحققها في أرض الواقع، لأن إمكانها الذهني يقتضي أن العقل يمكنه أن يتصور وجودها، لا أن وجودها حاصلٌ ومتحقق بالفعل خارج العقل.
3-تنقلب الحجة على أصحابها بقولنا لهم: سلمنا لكم بأننا نعيش داخل مصفوفة يتحكم بها موجود منفصل عنا، فكيف حكمتم بأن هذه المصفوفة حقيقية؟ والحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره، فكيف تصورتم المصفوفة وأنتم لم تخرجوا عنها ولم تعاينوا آثارها وحدودها؟
والحق أننا لم نميز الحلم من الواقع إلا بعد أن رأينا أن الحلم قصير الزمان وإن بدا طويلًا، ممكنٌ الخروج منه، ويحصل فيه ما لا يحصل في الواقع. فإن ظننت أنك حبيس حلم طويل يدور في ذهنك، فيجب عليك أن تثبت إمكانية الخروج منه، وكذلك مخالفته للواقع الذي يعيشه عقلك. ولن تستطيع إلى ذلك سبيلًا.
وهناك مشكلٌ معضلٌ في الاستدلال بآثار المصفوفة على وجود المصفوفة نفسها، إذ لو قيل بأن (س) أثرٌ للمصفوفة التي تحكمنا، فما الدليل على أنها أثرٌ لها؟ بل ما الدليل على وجود المصفوفة أصلًا؟
وهنا تتجلى المصادرة على المطلوب في أجلى صورها وأوضحها. إذ أن المطلوب إثباته هو وجود المصفوفة، وإثبات وجودها يتوقف على صحة نسبة هذه الآثار للمصفوفة مع استبعاد الاحتمالات الأخرى. والمستدل بالآثار هنا يصادر على المطلوب إذ يدعي صحة نسبة هذه الآثار إلى المصفوفة ولا دليل له سوى الدعوى المجردة عن الدليل.
4-أنتم تؤمنون بأننا داخل حلمٌ أو مصفوفة إما قطعًا ويقينًا وإما باحتمالٍ راجحٍ بدرجة كبيرة على نقيضه، فبم رجحتم هذا اليقين أو الظن؟ إذ أن معتقدكم هذا لو كان مساويًا في صحته لما يناقضه، لما صح لكم اعتناقه. فإن كان مرجوحًا على ما يناقضه، فما مرجحكم؟ حسنًا. لن نطالبكم بدليلٍ ثبوتي لتصحيح دعواكم، فهل عندكم من دليل نفي لنقيض دعواكم؟ أوليس رفع أحد النقيضين كافيًا في إثبات الآخر؟ إذن، فأثبتوا دعواكم بنفي ما يناقضها.
فتبين بهذه الوجوه أن هذا المعتقد وهم وباطل.
والحمد لله أولًا وآخرًا
الاثنين 1437/8/9هـ
2016/5/16م

الخميس، 30 يونيو 2016

اللحظة المناسبة بين الحقيقة والوهم

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبيه الكريم وبعد.
نستخدم مصطلح (اللحظة المناسبة) للتعبير عن الزمن الذي تبتدئ فيه مشروعاتنا الكبرى التي تتطلب بذل قدرٍ عالٍ من الجهد والوقت والتضحيات. وهذه الدلالة تؤكدها كلمة (المناسبة) التي تصف لحظة البدء تلك، فمناسبة اللحظة للعمل تقتضي بأن ابتداءه قبلها أو بعدها يفضي لفساده بالضرورة، وذلك لعدم مناسبة ذلك الزمن لهذا العمل.
عندما نقول: (اللحظة المناسبة) فإننا لا نقصد رقمًا مجردًا يعبر عن وقت معين كالعاشرة مساءً أو السادس من مايو، وإنما نقصد زمانًا تتهيأ فيه شروط حصول العمل وابتدائه وتنتفي وتختفي الموانع التي تعيق سيره وتجهضه قبل أن يبدأ. ومن هنا تحديدًا تنبع المشكلة التي سأشير إليها قريبًا في وسط المقال.
تؤكد تجاربنا وتجارب من نعرفهم أن كلمة (اللحظة المناسبة) أضحت مصداقًا قاطعًا لمفهوم التأجيل والمماطلة، فنحن نجد في أنفسنا تكاسلًا بيّنًا عن الأعمال التي نعلق ابتدائنا لها باللحظة المناسبة، وللأسف الشديد فإن دقة هذه الكلمة لا تعبر تمامًا عن دقتنا في تقييد أعمالنا بـ(الوقت المناسب).
أصبحت كلمة (اللحظة المناسبة) مطية لقاع الفشل والخسارة بدلًا من أن تكون جسرًا للنجاح والتفوق. 
فما السبب الذي يحيل تعبيرًا دقيقًا كهذا إلى تعبير مطاطي شديد المرونة والانسيابية؟ 
أحد هذه الأسباب هو أن اللفظ في حقيقته لا يحمل تلك الدقة المتناهية التي نتوقعها، فدقته -في حقيقة الأمر- هي أدنى بكثير من دقة التعبير عن زمن معروف وواضح كدقائق الساعة وأيام الأسبوع وشهور السنة. وذلك لأن تهيؤ الشروط وانتفاء الموانع يتعلق بزمان مبهمٍ غير معروف، والشروط والموانع لازمان من لوازم اللحظة المناسبة.  
هذه الملاحظة الدقيقة لا تنفي أن بعض السياقات تمنح دقة كبيرة لمصطلح (اللحظة المناسبة). فالتسجيل في مدرسة أو جامعة -معروفٌ وقت بدء التسجيل فيها- يرتبط باللحظة المناسبة التي لا تنفك عن هذا الوقت المعروف. أعني وقت التسجيل. باختصار، لن نستطيع أن ننفي أن الزمان الذي يعقب فترة التسجيل أو يسبقها لن يكون (لحظة مناسبة) للتسجيل. ومن ثم فلو قال أحدهم أنه يتحين (اللحظة المناسبة) ليسجل في هذه المدرسة أو الجامعة فتعبيره دقيق بالغ الدقة.
لكن ماذا عن المشروعات الفردية التي لا ترتبط بلحظة مناسبة معينة؟
ماذا عن التوبة؟ المذاكرة؟ ممارسة الرياضة؟ الزواج؟ ... إلخ
تُسأل عن سبب تأخرك في واحد من هذه الأعمال فتجيب قائلًا: أنتظر اللحظة المناسبة.
جميل أن تنتظر اللحظة المناسبة ولكن متى تحين هذه اللحظة المناسبة؟
ستفكر قليلًا وتنظر كثيرًا وتقلب رأسك يمنة ويسرة، ولكن قبل أن تخبرني بصعوبة تحديد هذه اللحظة، دعني أذكرك بمفهوم اللحظة المناسبة وهي اللحظة التي تتهيأ أو توجد فيها شروط العمل وتنتفي موانعه. 
سأتفق معك في صعوبة تحديد لحظة تعلم فيها وجود الشروط وانتفاء الموانع، ولكن سأسألك سؤالًا واحدًا: هل تعلم ما هي هذه الشروط الضرورية لعملك والموانع التي تعيقه وتجهضه؟
سأضيف إليه سؤالًا لا يقل أهمية عنه: لم لا تبدأ الآن؟! لم لا يكون الآن هو اللحظة المناسبة؟
لحظة من فضلك! لقد خطر ببالي سؤال أراه أكثر أهمية مما سبق: إن لم يكن الحاضرُ لحظةً مناسبةً لعملك، فما الذي ستبذله لتقريب هذه اللحظة وجذبها بحيث تكون (بعد قليل) لا (بعد كثير)؟
أوَ ليست مصلحتنا هي في أن تكون (اللحظة المناسبة) لمشروعاتنا العظمى أقرب إلينا من كل شيء؟ 
أو ليس من أعظم المفسدة أن يؤجل الواحد منا (لحظة مناسبة) لأنه لم يقدر قدرها جيدًا فتساهل بها وتجاهلها؟
...
أسئلة كثيرة لا تنتهي وكلها عن هذا المصطلح الذي صار تعبيرًا مهذبًا معقلنًا عن الكسل والخمول.
اللهم اجعل أعمارنا كلها لحظات مناسبة للخير والنجاح والتقدم
والحمد لله رب العالمين
كتبه البراء بن محمد
منتظرًا في مطار أبو ظبي
1437/9/25هـ
2016/6/30م  

الأحد، 7 فبراير 2016

رفع السوط على من دافع مسفسطًا عن قوم لوط

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبيه الكريم وبعد،
*السفسطة وفقًا لمعجم المعاني هي "قياس وهمي باطل غايته إسكات الخصم" وهي مصدر سفسط يسفسط فهو مسفسط. والمقصود بعنوان المقال الردُ على من يدافع بسفسطة عن قوم لوط، والوصف هنا كاشفٌ لا مقيد*
---
أنتج فريق برنامج الفئة الفالة حلقةً جديدة من برنامجهم عن زواج الشواذ الذي حدث في الرياض، ولاقت هذه الحلقة ردود فعلٍ عنيفة للغاية، وأدت هذه الردود أخيرًا إلى حجب الحلقة كما يقول أحد المقدمين.

وقد تطوع بعضهم لترجمة الحلقة إلى الانجليزية ليوصلها لأكبر شريحة.

رابط الحلقة المترجمة

وثار الجدل كثيرًا حول قول المقدم في الدقيقة 1:46 حيث أكد على أن ما يستحقه الشواذ من عقوبة هو الإعدام بالخازوق.
ومما لا شك فيه أن المقدم قد بالغ وأخطأ في تقريره عقوبة الشواذ أن تكون إعدامًا بالخازوق، ولكنه محقٌ من حيث المبدأ العام (أي: إعدام الشواذ) لأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ((من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به)) [رواه الترمذي وصححه الألباني].
والقول بقتل اللوطي قول فقهي معتبر(1)، وبعض العلماء قد قالوا بخلافه (2)، وما يهمنا في هذا السياق هو إبراز المغالطات التي جرت في الهاشتاق ردًا على حلقة الفئة الفالة ومقدميها.
-
المغالطات:
1-التلاعب بالألفاظ
2-الاحتجاج بالقدر
3-الدعاوى المجردة عن الدليل
4-رجل القش
-
1-التلاعب بالألفاظ والمفردات لا يغير الحقائق التي يقصد المتكلم أو الكاتب إيصالها، فالسياق دليلٌ على قصد المتكلم والكاتب، وهو الذي يحدد معنى المفردة التي يريدها. فإن كانت المعاني فاسدة باطلة فلا يغني عنها اللعب على وتر الكلمات.
الشذوذ (أو ما يسمونه بالمثلية): لفظٌ مجملٌ موهم، فتارة يقصد قائله الميل الجنسي والعاطفي، وتارة يقصد به اللواط والسحاق.
ولا يُلام الإنسان أو يعاقب بناءً على (محض) الميل الجنسي أو العاطفي فهذا مما لا يملكه غالبًا، ولكنه يُلام على اتباعه والانقياد له. كما أن الشهوة الجنسية قوية في الإنسان بحيث لا يستطيع مدافعتها إلا مع بالغ المشقة، لكن اتخاذ الأسباب التي تفضي إلى تهييجها خطأ يلام عليه الإنسان (مثال: النظر واللمس المحرم).
فمن يحارب الشذوذ حقيقةً هو يحارب الفواحش التي حرمها الإسلام، وكذلك أسبابه، فالحديث عن الميل الجنسي والعاطفي لا معنى له هنا.
فالعقاب -إذن- ليس على مجرد الغريزة -كما يحاول بعض الجهلة والملاحدة أن يصوروه-، وإنما على استخدامها في الحرام.


وأوردُ هنا إجابة مهمة للدكتور حسام الدين حامد حول هذه الجزئية.


-
2-الاحتجاج بالقدر هو دأب المبطلين والظالمين الذين يتهربون من عواقب أخطائهم التي جنتها أيديهم. وليس في القدر حجةٌ لعبد من عباد الله في كفره وظلمه ومعاصيه، بل هو على العكس من ذلك حجةٌ على من يحتج به ليغالط ويكابر.
وقد ألّف الإمام ابن تيمية رحمه الله قصيدة طويلة في الرد على من احتج بالقدر، وشرحها الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في كتابه (الدرة البهية، شرح القصيدة التائية في حل المشكلة القدرية)(3).
ويتجلى الاحتجاج بالقدر بأبشع صوره في تعجب (ف) من خلق الله للشواذ ومعاقبتهم على ذلك.
اعتراض (ف) اعتراضٌ سقيم ساقط لا يصدر إلا عن الجاهلين المغفلين!
(ف) يتلاعب ويشغب بلفظ الشواذ، كما بيّنا في مغالطة التلاعب بالألفاظ، بالإضافة إلى أنه يغالط باحتجاجه بالقدر.
فلم يفعل الشواذ ما فعلوه إلا بإرادة تستلزم وجود القدرة والاختيار. فهم مختارون قادرون، وعلى هذه (أي: الإرادة) قام تكليفهم، ومحاسبتهم، وبها يتحدد مصيرهم إما إلى الجنة أو النار.
وعقاب الشواذ ليس لمجرد ميولهم الجنسية، بل لاتباعهم إياها، كما أن عقاب شارب الخمر ليس لمجرد رغبته في شرب الخمر، بل لأنه اتبع رغبته وأطاع هواه فشرب الخمر.
وفيصل هنا -هداه الله إلى الحق أو جازاه بما يستحقه- يسيء أدبه مع الله ويتعجب من أوامره بصيغة اعتراضية، ولا يتعجب من طغيان البشر وفجورهم الذي يجعلهم يتمادون في معصية الله سبحانه وتعالى رغم علمهم بأمره ونهيه.
فمن أحق بالتعجب هنا؟ أو ليس العبد -الذي يمنحه سيده -ولله المثل الأعلى- كل فرص التوبة والمغفرة ثم يفر منه هاربًا متبعًا شيطانه وأهواءه- أحقُ بالتعجب والاستغراب؟
ويُقال كذلك لـ(ف): إن هؤلاء الشواذ الذين نعاقبهم إنما جرّوا العقوبة إلى أنفسهم بفعلهم هذا، كما أن المنتحر يستجلب الموت لنفسه ويلام عليه.
ونختم هذه الفقرة باقتباسين مهمين من كتاب ابن سعدي رحمه الله
يقول رحمه الله: "فإن مضمون الاحتجاج بالقدر؛ يعني: أن الله اضطره وألجأه إليه، وأكرهه عليه؛ وهو لا يريد الذنب. وهو كذبٌ صريح: فإن الله مكَّنه من الترك. بل فتح له كل باب يصد عن الذنب؛ وقد أبت نفسه الأمارة بالسوء إلا أن توقعه بالذنب. فالملام عليه لا على ربه" (4)
ويقول أيضًا: "فكفر الكافرين وإجرام المجرمين بمنزلة من أكل سمًا، أو قذف نفسه في نارٍ أو مهلكة؛ لا بد أن يترتب عليه مقتضاه وأثره.
فإذا كنت لا تعذر من أكل سمًا أو ألقى نفسه في تهلكة، وتنسب هلاكه إلى عمله-؛ فالكفر والمعاصي كذلك، بل أبلغ؛ لأن آكل السم والملقي نفسه بالهلكة، ربما يعرض بعض العوارض المانعة من الهلاك.
بخلاف الكفر وتوابعه؛ فإن آثاره مترتبة عليه قطعًا، إلا إذا رفعها العبد بتوبة نصوح" (5)
--
3-الدعاوى المجردة عن الدليل
من الباطل صياغة المقدمات الكاذبة للتوصل إلى نتيجة يزعم صاحبها أنها صادقة، ومن أبطل الباطل صياغة نتيجة مبنية على مقدمات معدومة، ثم الادعاء بأن هذه النتيجة حق، بل والزعم بأن من يخالفها مبطل ضال!
وقد رأينا هذه الدعاوى المجردة عن الدليل في نحو قول بعضهم:
(أ): يصف المطالبين بإعدام اللوطية بأنهم داعشيون يعبرون عن أفكارهم الداعشية.
(ب): يتسائل عن تقبل المسلمين المسالمين لغيرهم وكذلك للاختلافات والحب بمختلف أشكاله.


لا يقوم لـ(أ) هنا أي دليل أو حجةٍ في أن قتل اللوطي خاطئ أخلاقيًا سوى تشبيه من يدعو إلى ذلك بداعش.
فكان ماذا؟
هل اشتراكه في هذه الجزئية مع داعش أو غيرها يجعلها خاطئة بالضرورة؟ أم أنه مجرد تشغيب لفظي لا معنى له؟
إن ثبت أن قتل اللوطي فكرة داعشية المنشأ (وهذا تخريف باطل بلا شك، فالقول بقتل اللوطي قديم سابق لداعش)، فيجب عليه بعد ذلك أن يثبت أن جميع أفكار داعش باطلة أو أن هذه الفكرة على وجه الخصوص باطلة، ولا يصح له تعليل بغير الخيارين السابقين. إذ أن الأول يقتضي صحة كلية موجبة (جميع أفكار داعش باطلة) تندرج تحتها جزئية موجبة(فكرة قتل اللوطي)، وصحة الخيار الثاني تقتضي بالضرورة أن ربطه إياها بداعش عبثٌ وتشغيب. فإن كانت الفكرة خاطئة لذاتها، فمجرد نسبتها لداعش أو غيرها من المنظمات لا يثبت خطأها وفسادها.
-
أما (ب) فهو يبني الشق الثاني من التغريدة على الشق الأول، فهو يفترض ابتداءً أن كون الشخص مسلمًا ومسالمًا يستلزم تقبله لللواطة تحت مسمى (تقبل الاختلافات والحب بكل أشكاله)!
من أين لك أن عمل قوم لوط = حب واختلاف مقبول في الإسلام؟
عمل قوم لوط غير مقبولٌ في الإسلام حتى ولو قبله أهل الأرض كلهم، ومن ثم فيجب على المسلم ألا يقبله ويرضى به. لا يقبل المسلم اللواط كما لا يقبل القول على الله بغير علم والشرك به، والقتل والظلم والزنا والربا وسائر الكبائر والصغائر.
فرفض المسلم لللواط إنما هو من حيث كونه مسلمًا، فمطالبتك للمسلم بقبول اللواط مشابهةٌ (إن لم نقل أنها مماثلة) لمطالبة المسلم برفض الإسلام جملة وتفصيلًا.
---
4-رجل القش مغالطةٌ شهيرة وهي من أصول التفكير السقيم. يخترع أحدهم حججًا افتراضية وينسبها إلى خصومه أو يشوه حججهم الأصلية ليظهر بمظهر المنتصر الذي نصر الحق وأبطل الباطل. وكل ما صنعه -في حقيقة الأمر- هو الهروب من إلزامات خصومه وحججهم، إلى أوهام يزيفها لينتصر بها لمذهبه.
وهذه المغالطة تكررت كثيرًا في الهاشتاق، وهذه بعض الأمثلة لها:
(م): مطالبتك بقتل الشواذ بسبب اختلاف ميولهم الجنسية تجعلك داعشيًا
(ح): المطالبة بقتل أشخاص بسبب قرارتهم (يقصد الشواذ) متنافٍ مع التسامح
(ع): من الحمق الكبير التدخل في خصوصية شخصين في غرفة مغلقة

---
ليس لدى (م) جديدٌ يذكره بخصوص الشذوذ الجنسي، فما قاله باطلٌ بينّاه في بداية هذا المقال. الجدير بالذكر أنه استخدم نفس مغالطة (أ) حين نسب قتل اللوطي إلى داعش.
ليست حجة الفقهاء القائلين بقتل اللوطي هي مجرد اختلاف الميول الجنسية كما يحاول (م) أن يقرر هنا، فإن كان (م) قادرًا على التخريج الفقهي المنضبط، فليفعل ذلك مشكورًا مأجورًا، وإلا فإن تكرار نفس الهراء الذي يقوله بعض الناس لا يغني ولا يسمن أبدًا.
-
يكرر (ح) نفس العبث الذي انتقدناه سابقًا، ولكن المفارقة الطريفة هي أن حجته التي يذم بها المنادين بقتل اللوطيين يسهل قلبها عليه. إذ أننا نعاقب القاتل والسارق ومغتصب النساء والمتحرش بهن لأجل قراراتهم التي اتخذوها، فإن حاول (ح) أن يفرّق بين هذه الجرائم السابقة وجريمة اللواط، فيقال له: إن العلة التي تذم لأجلها من يقول بقتل اللوطي هي نفسها العلة التي نعاقب بها أصحاب تلك الجرائم. قد تضيف عللًا أخرى تجعلك تقبل معاقبة القاتل دون اللوطي (مثل أن القتل جريمة متعدية، وأن ضررها أكبر...إلخ)، ولكن العلة الجوهرية التي انتقدنا بسببها موجودةٌ أيضًا في عقوبة القاتل، إذ أننا نعاقب القاتل بسبب اتخاذه بنفسه لقرار القتل، فما يلزمنا في عقوبة اللوطي يلزمك في عقوبة القاتل.
ويقال أيضًا لـ(ح) ومن احتج بمثل حجته أن هؤلاء اللوطيين قد اتخذوا قرارات خاطئة، وهذا يلزمهم بالطبع أن يقبلوا بالتبعات المترتبة على اتخاذهم لهذه القرارات. كما أن القاتل قد اتخذ قرارًا خاطئًا بالقتل، ومن ثم فيجب عليه أن يتحمل تبعة هذا القرار وهي العقوبة الشرعية.
-
تفترض (ع) أن هناك شيئًا خاصًا لا يحق لنا التدخل فيه، وشيئًا عامًا يكون من حقنا التدخل فيه. حسنًا، ما هو المعيار المنضبط الذي يطرد به هذا التقسيم؟ هل هو معيار شرعي؟ عرفي؟ قانوني؟ ليبرالي؟ الله أعلم.
تمارس ع تصويرًا سيئًا للقضية هنا، حيث أنها تفترض أن ذمنا للشواذ ومؤيديهم نابعٌ من تدخلنا فيما هو خاص بهم. وبغض النظر عن أننا لم نتجسس عليهم ابتداءً، وأنهم هم الذين جاهروا بذلك وافتخروا بدون أن يشعروا بعيب أو خجل.
بغض النظر عن هذا كله، من أين للعزى أن معاقبة اللوطية = تدخل فيما يختص بهم؟
ثبت أن اللائط والملوط به مجرمان لارتكابهما جريمة اللواط، وهذه الجريمة مستحقة للعقوبة (حتى عند الفقهاء الذين لا يقولون بأن حد اللواط هو القتل)، فهل لدى العزى دليل شرعي يضاد ذلك؟
ثم هب أننا سميناه تدخلًا، هل سيغير هذا من حقيقته الشرعية شيئًا؟ لا وألف لا.
-
لم تكن هذه التغريدات وغيرها آراءً تمثل أصحابها وحسب، بل كانت ممثلًا للكثير من المغردين الذين أعادوا تدويرها وفضلوها. ورغم أن مغالطاتها ظاهرة للعلن، إلا أنه لم يوجد من ينتقدها ويفندها ويظهر ما فيها من باطل.
وهذا من أكبر الدلائل على غياب العقل الناقد عند كثير من الناس -والله المستعان-.
-
بقي أن أتساءل: هل مشكلة المعترضين على قتل اللوطية هي في عدم التسليم للنصوص الشرعية أم في عدم ثبوتها؟
أترك الإجابة للقارئ الكريم.
والحمد لله رب العالمين.
البراء محمد
صباح الأحد 1437/4/28هـ
الموافق 2016/2/7م
الهامش:
(1): انظر إن شئت
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=158714
http://fatwa.islamweb.net/fatwa/index.php?page=showfatwa&Option=FatwaId&Id=1869
https://islamqa.info/ar/38622
(2): ينبغي التنبه إلى أن وجود الخلاف بذاته ليس دليلًا ولا مرجحًا لقولٍ من الأقوال، والترجيح بالخلاف مذهب باطل.
وانظر إن شئت
http://www.dorar.net/article/460
(3): رابط الكتاب
http://waqfeya.com/book.php?bid=4995
(4): الدرة البهية ص67
(5): المصدر السابق ص59

السبت، 16 يناير 2016

جادل الأحمق!

بسم الله الرحمن الرحيم
شاع في الناس قول القائل: ((لا تجادل الأحمق، فقد يخطئ الناس في التفريق بينكما)) واعتبروها حكمة رائقة مستقاة من تجارب الحياة.
ولكن ما معنى هذه المقولة؟
إنها تعني أنه ينبغي لك ألا تجادل الأحمق لأن الناس لن يفرقوا بينكما. فعلة امتناعك عن مجادلة الأحمق هي عدم تفريق الناس بينكما أثناء الجدال.
والحقيقة أن انتشار وشيوعه هذا المعنى لا يقتضيان صحته ولا معقوليته، فهو معنى باطلٌ لا صحة له.
وذلك لوجوه:
الوجه الأول وهو مجموع سؤالين لن أتبرع بالإجابة عنهما، وإنما أتركهما للقارئ المفضال: هل عدم تفريق الناس بين الأحمق وغير الأحمق سببٌ كافٍ لكي يمتنع العاقل غيرُ الأحمق عن مجادلته؟ وإن كان كذلك، فلماذا؟
الثاني: سلمنا بصحة المقولة، وسلمنا بأن اعتبار الناس كافٍ لمنع المجادلة مع الحمقى. لنقل أن الناس حمقى لا يجيدون التفريق بين الأحمق وغير الأحمق، بل يسوون بينهما، فهل ينبغي للعاقل أن يمتنع عن مجادلة أخيه العاقل لأن اعتبار الناس لهما هو الحمق؟
الثالث: عدم تفريق الناس بين الأحمق وغير الأحمق لن يجعلهما متساويين، ولن يُعدِمَ الفرق بينهما بالتأكيد. فالعاقل يبقى عاقلًا حتى لو اعتبره البشر كبير الحمقى، والأنوك (لفظٌ مرادفٌ للأحمق) أنوكُ (ممنوعة من الصرف، أي: التنوين) حتى لو اعتبره الناس أحكم الحكماء. فإن كان اعتبارهم غير مؤثرٍ كما قد تبين، فلمَ الإصرار على جعله سببًا كافيًا للامتناع عن مجادلة الحمقى؟!
الرابع: قد يُقال أن الأحمق مستفزٌ لغضب الحكيم، وجالبٌ لشر الحليم، وذلك لجهله المركب، وسفاهته ونقص عقله وتدبيره، فالامتناع عن مجادلته يكون لأجل درء شره واستفزازه الذي قد يفضي بمجادِلِه إلى الغضب والغيظ، فيحمق ويسفه مثله، ومن ثمَّ يخفق الناس في التفريق بينهما. وقد يكون للتعليل السابق وجهٌ من الصحة، إلا أنه لا يقوم لنصرة المقولة الأصلية. فعدم تفريق الناس بين الأحمق وغيره نتيجةٌ عائدة إلى سببٍ أصلي وهو تحامق مجادِلِ الأحمق وفقدانه للتحكم بنفسه وأعصابه، وليست هذه النتيجة متولدةً عن ما يكون سببًا لسببها الأصلي، وهو مجادلة الأحمق. على أن مجادلة الأحمق بذاتها ليست مفضية إلى الاستفزاز والغيظ، فقد يجادل الأحمق حكيمٌ حليمٌ حصيف ضابطٌ لنفسه وأعصابه، فهو جبلٌ لا تزعزعه الرياح. بل هو الذي يعكس أثر الأحمق ليعود إليه مضاعفًا قويًا. وخلاصة الأمر: أن التعليل السابق له صحة محتملةٌ في نفسه، إلا أنه لا ينهض لإسعاف المقولة الأصلية، إذ فيه استدلالٌ على النتيجة بما يحتمل أن يكون سببًا لسببها الأصلي. والصحيح أن يُقال: لا تجادل الأحمق لئلا يستفزك أو يجرك إلى الغضب، وما أشبه ذلك.
الخامس: أليس إخفاق الناس في التفريق بين الأحمق وغيره عائدًا إلى جهلهم وقلة علمهم –بالمقام الأول-؟ فعدم العلم بالفرق بين الأحمق وغيره جهلٌ؛ وما دام اعتبار الناس مبنيًا على جهلٍ فهو ظنٌ فاسد. ولكن لماذا يُلام مجادِلِ الأحمق ويُنهى عن فعلِهِ لمجرد ظن الناس الفاسد المنبني على جهل؟ ألا يلام الناس على ذلك أصالةً وقبل كل شيء؟
وبهذه الوجوه الخمسة يتبين أن مقولة: (لا تجادل الأحمق، فقد يخطئ الناس في التفريق بينكما) خاطئةٌ لأنها ليست قائمة على تعليل صحيح، فمجرد جهل الناس بالفرق أو خطئهم في التفريق بين الأحمق وغير الأحمق لا يلغي الفرق بينهما، وهو غير مؤثرٍ في حماقة أحد المتجادلين أو حكمة الآخر. كما أن هذا الاعتبار قد يكون فاسدًا، فلماذا يكون فساده موجبًا أخلاقيًا للامتناع عن مجادلة الأحمق؟
ثم إن الناس إما أن يعلموا بحمق الأحمق أو لا يعلمون بذلك، فإن علموا فإن مجادلة الأحمق إنما تكون توكيدًا لذلك وتنفيرًا للناس عن سلوك مسلكه، أو اتباع سبيله. وإن كان الناس لا يعلمون بحمق الأحمق، فمجادلته إنما تكون لفضح حمقه وتبيانه لئلا يغتر به الناس، فيتبعوه على جهل وبلا بصيرة.
ومجادلة الأحمق إنما تُشرع أو تُستحسن لمصالحها التي تغلب مفاسدها، وذلك من هدايةٍ وإرشاد وإرغام وإسكات، وتنبيهٍ وتحذير. فإن كان يلحق صاحبها استفزازٌ لا يقدر على مقاومته، ويفضي به إلى ظلم وتعدٍ، فالأكمل والأحسن له أن يبتعد عنها ويفر بعقله ولسانه.
وما ذكر آنفًا لا تعلق له بما تدعو إليه المقولة، إذ أنها تدعو للانكفاف عن مجادلة الحمقى لا بالنظر إلى مصالحها ومفاسدها، ولكن بالنظر إلى ما تفترض أنه مفسدة وهو اعتبار الناس وظنهم.
والحمد لله أولًا وآخرًا
ماليزيا
6/4/1437هـ
16/1/2016م 

الأحد، 1 نوفمبر 2015

لماذا أتحدث عن ذاتي كثيرًا؟

بسم الله الرحمن الرحيم
س: لماذا تتحدث يا براء عن نفسك (أو ذاتك) كثيرًا؟
البراء: وما الإشكال في ذلك يا (س)؟
س: ولكن من (أنت) حتى تتحدث عن نفسك بهذا القدر الكبير؟
البراء: وما هي معايير (الأنا) التي يحق لها التحدث عن نفسها أمام الآخرين؟ أهي الشهرة والجمال؟ أم العلم والمال؟ هل يجب على الإنسان أن يكون عظيمًا في أعين الناس حتى يحق له التحدث عن مشاعره وأفكاره وأحلامه وأوهامه علانيةً وبصراحة؟
س: مممممم، ولكننا نشمئز ونتقزز ممن يتحدث عن نفسه كثيرًا؟
البراء: ولمَ تفعلون ذلك؟ هل تريدون فعلًا أن يكون الناس كلهم نسخًا منكم؟
س: آآآ، لا، ولكن...
البراء: ولكنكم تفعلون ذلك شعرتم أم لم تشعروا، قصدتم أم لم تقصدوا.
س: ولكن ما الذي تملكه حتى تتحدث عن نفسك؟ أنت تعترف بجهلك وتقصيرك، ولا تعطي الكثير من المعلومات المفيدة، أو ما يسلي الجمهور.
البراء: أنا أملك (لا شيء)، ومن حقي أن أتحدث عن هذا (اللاشيء) كما أريد، بشرط أن ألتزم الصدق فلا أكذب أثناء الحديث عنه، وأكون منصفًا، فلا أغلو في مدحه، ولا أجحفه حقه، وأعطيه أقل من حجمه الطبيعي.
س: :)، ولكن اللاشيء هو ...
البراء: أعلم أنه من الخطأ استعمال لفظ (لا شيء) حرفيًا، وأعلم أنك تعلم أنني لا أعني ذلك بقولي (لا شيء)، ولكنه كناية عن ما تناهى حجمه ووزنه في الصغر حتى كاد أن يكون عدمًا.
س: ولكن ألن تصير متكبرًا ومغرورًا بحديثك المتواصل عن نفسك؟
البراء: هل تعرف قول الشاعر: "رأى الأمر يفضي إلى آخرٍ *** فصيّر آخره أولا"؟
س: ممممم كأنني فهمت ما ترمي إليه.
البراء: لا لم تفهمه على وجهه، إن فهمته على أن نتيجة التحدث عن النفس هي الكبر والغرور، وأنك قد عكستها، فصار السبب نتيجة والعكس كذلك. ولكن سأخبرك، لو كانت العروض بيدي، لأضفت كلمة (قد) إلى البيت، ليصير هكذا: "رأى الأمر (قد) يفضي إلى آخرٍ".
ولكن العروض يا أخي علمٌ مؤسسٌ منذ مئات السنين، وقد أغلقه صاحبه من بعده، فليس لي أن أجاوزه بعلمي القليل في العربية.
على كل حالٍ دعنا من هذا الاستطراد. من أين لك أن كثرة التحدث عن النفس تجلب الغرور والكِبر؟ ألست تعلم كما أعلم أن الغرور قد يصيب الكثير من الصامتين الذين نراهم هنا وهناك؟ ألست تعلم أن الكِبر خطيئة قلبية يقترفها بعض متصنعي التواضع؟
س: ولكن كيف عرفت ذلك؟
البراء: سؤال جيد. فلتات اللسان، وبعض ظواهر الأعمال تكشف عن بعض ما يخبئه الناس في نفوسهم. ومع ذلك، فلست متسرعًا في نسبة الناس إلى الكِبر والغرور، ولا أنهض للحكم عليهم بذلك غالبًا، لوعورته وصعوبته بالنسبة لي.
س: حسنًا، متى نذم الحديث عن النفس وفقًا لرؤيتك؟
البراء: نذم الحديث عن النفس إن خالطه كذبٌ أو غلوٌ أو كبرٌ وغرور.
س: كيف لنا أن نتأكد من أنك لست متكبرًا ومغترًا بذاتك؟
البراء: وهل علي أن أثبت هذا لك؟
س: ماذا تقصد؟
البراء: ما أقصده هو: هل يجب علي أن أنفي توهمك بأنني متكبرٌ ومغرور؟ فإن نفيتَ أنه محض توهم وتخمين، وقراءة ناقصة، فهل هو يقينٌ؟ وإن كان يقينًا فعلام استندت في يقينك هذا لتثبته؟ هل يقينك هذا ثابتٌ في نفسه؟
س: هممممم، ولكنك ستضطر للدفاع عن نفسك.
البراء: أخطأت فيما تقوله، وإنما يصح دفاعي عن نفسي، إن كنت عالمًا بثبوت تهمةٍ ما علي، أو أن التصرف الذي فعلته كان خطأً يستحق التبرير والدفاع. والحق أنني لا أعلم التهمة نفسها، ولست متحققًا من ثبوتها، فهل تتوقع أنني سأدافع عن نفسي حينها؟
 لو سألك إنسانٌ ما (على سبيل النصح المبطن بالاتهام) عن شربك الخمر، أفلا تجد نفسك مدفوعًا لسؤاله عن ما يدفعه لقول ذلك؟ أم أنك ستمتهن المحاماة لتدافع عن هذه التهمة الموجهة إليك؟
س: ممممم، هذا جيد، ولكن دعني أسألك..
البراء: ولكن قبل أن تسألني، أود أن أعزز فهمك لما قلته بتوضيح لطيف، ألا تجد أن الله سبحانه وتعالى قد قال في كتابه: "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسقٌ بنبأٍ فتبينوا أن تصيبوا قومًا بجهالةٍ فتصبحوا على ما فعلتم نادمين"؟
س: صدق الله العظيم.
البراء: هل ستسمي تبيننا وتثبتنا من النبأ المتعلق بذوات الآخرين دفاعًا عنهم ومحاماةً لصالحهم؟ أم أنه توكيدٌ لقيمة الصدق والأمانة في القول عندنا وعند غيرنا؟ وهب أنك سميته دفاعًا عن الآخرين، فهل هو مذمومٌ؟
س: لا، ليس مذمومًا.
البراء: حسنًا، أو ليست ذواتنا مماثلة أو مشابهة لذوات الآخرين؟ فإن كان ذلك، فلمَ لا تأخذ ذواتنا نفس حكم ذوات الآخرين في وجوب التثبت من أي نبأٍ أو خبرٍ متعلق بها؟
س: ولكن ما الجهالة أو الظلم الذي سيصيبك إن لم تفعل ذلك؟
البراء: قد أظلم نفسي بتحميلها ما لم تحتمله من الإثم والأخطاء، ومن ثمَّ أدخلُ في دوامة مُهلكةٍ من العتاب والعقاب الذي لا تستحقه النفس ابتداءً. وضرر هذا مماثلٌ لضرر المدح الكاذب الذي يزيف صورة الإنسان أمامه، ويريه انعكاسًا موهمًا لحقيقته، فيغتر بباطله وأخطائه، ويزيدها غافلًا عنها واهمًا، جاهلًا بالعواقب.
وحتى لو لم تحصل الجهالة، فالعمل على سببٍ يفضي إليها = ليس بلائقٍ وهو ضربٌ من الخلل.
المعذرة يا (س) قطعت عليك السبيل لإحضار سؤالك هنا.
س: لا بأس، سأحاول الوصول إليه بطريق مختلفة *يحك رأسه متأملًا مفكرًا*
البراء: خذ وقتك يا أخي.
س: نعم وجدتها *eureka!* 
البراء: الحمد لله! هاتها بسرعة قبل أن تتلاشى وتختفي.
س: لماذا لا تتحدث عن الآخرين بنفس القدر أو بقدرٍ مقاربٍ لحديثك عن نفسك؟
البراء: أنا أحب التفاعل مع الآخرين، وأكن لهم الكثير من المشاعر الجميلة، وأتمنى أن ...
س: توقف يا براء! لقد سألتك سؤالًا واضحًا محدودًا، فأجب عنه بوضوح!
البراء:أبشر، كما تريد يا س، لا أجد في نفسي ميلًا لذلك بصراحة، ولا أعرف تفسير ذلك. ولكنني أحرص إن تحدثت عن شخصٍ ما على إنصافه ومعاملته بعدل، ولا أظن أن مجرد عدم حديثي عن الناس ظلمٌ وإجحافٌ لهم.
س: لدي سؤال مغاير لما سبق، لماذا تحرص على معرفة آراء الناس وانطباعاتهم عنك؟ يبدو ذلك جليًا لا ينكره من يشاهد الشمس في السماء، ويتابع ما تطرحه أيضًا، أنت تمحور الاستفتاءات حول نفسك، وتطالب الناس بنقدك ونصحك دائمًا.
البراء: صحيحٌ ما قلته، ولا أنكر حرفًا منه أبدًا. ولكنني أفعله لأنني أريد الاستفادة من الآخرين بقدر المستطاع، أنا أقدّم لهم بضاعة من الأفكار والمشاعر، فإما أن يعاينوها، ويفحصوها، أو يراقبوها عن بعد، أو يتجاوزونها ويمرون مرور السحاب والكرام.
معرفة بعض آرائهم تفيدني في تحسين إنتاجي، وتقويم أدائي، بل وإصلاح نفسي، وأخطائي في التعامل معهم ومع الحياة، وبعض انطباعاتهم الحسنة تترك في نفسي أثرًا عظيمًا رائعًا يدفعني للأمام. ولست والله ساعيًا لأن أصير محور الكون -على فرض وجوده- أو الاهتمام، ولكنني أرى أن تفاعلي الفعّال مع من يستقبلون إنتاجي عظيمٌ وطيب.
س: وهل تمارس ذلك مع الآخرين أيضًا؟
البراء: أحاول أن أكون كذلك أو -على الأقل- أبدو بهذه الصورة التي أراها جميلة.
س: ولكن غيرك يراها قبيحة.
البراء: أصبت، فقد أعلم ذلك أحيانًا، وأتجنب الاحتكاك به على النحو الذي يعجبني، أو أغفل عنه في أحيانٍ أخرى. 
س: لحظة! هاهنا سؤال جوهري قد يهدم كل ما قلته أو يؤكد قوة تحمله لعوامل التعرية المختلفة.
.....
وإلى هنا انقطعت المكالمة، وتشوش الصوت الواصل بينهما، ولم يبق منه سوى ما فُرّغ هنا.
*ملاحظة: (س) شخصية غير حقيقية
والله المستعان.
والحمد لله رب العالمين أولًا وآخرًا.
البراء بن محمد

الخميس، 17 سبتمبر 2015

[مشكلتي مع متابعي كرة القدم]

بسم الله الرحمن الرحيم
[مشكلتي مع متابعي كرة القدم]

(أرجو أن تتحمل طول المقال، فليس هو بأطول من مجموع رسائل الواتساب التي تقرؤها يوميًا :))
أحب أن أنوه في البداية أنه لا مشكلة شخصية بيني وبين أي متابعٍ للكرة، فأنا كنت أحدهم ذات يومٍ، ولي معارف غارقون بها لحد النخاع، وبعضهم من فضلاء الناس :) 
إذن، فما مشكلتك يا براء مع من يتابع الكرة؟
سأحرر مقصدي أولًا بتبيان المصطلحات التالية حتى نعلم الفئة المستهدفة بما سأقوله.
ممارس كرة القدم: وهو الشخص الذي يلعبها باستمرار، ويمارسها كلما سنحت له الفرصة بذلك، وهو خارج محل البحث بداهةً.
مُشَاهِدُ كرة القدم: هو الذي يقصر متابعته لكرة القدم في أوقات الفراغ المحض، وقد يتسلى أحيانًا بمشاهدة كبرى المباريات، إلا أن اهتمامه بكرة القدم وشؤونها لا يتجاوز صافرة الحكم الأخيرة التي تختم المعركة بين الفريقين (عذرًا قصدت المباراة). وهذا خارج محل البحث أيضًا، إلا أنني سأشير إليه في بعض المواضع قصدًا.
متابع كرة القدم: -وهو مربط الفرس، ومقصد البحث- هو من يتابع شؤون اللاعبين المختلفة، ولا يكتفي برؤيتهم يركضون في المستطيل الأخضر، بل يوسع اهتمامه ليشمل به أخبار النادي (أو الأندية) الذي يشجعه(ا)، وتحليلات اللاعبين السابقين، وتصفيات البطولات العالمية والمحلية، ومباريات الاعتزال والمباريات الودية ... إلى آخره.
--
(1)
لماذا تتابعون كرة القدم؟
الإجابة الموحدة بين متابعي هذه الرياضة (وغيرها من الرياضات، ولكنها مقصودة أصالةً في البحث) هي: المتعة، والقليل من الإثارة.
جميل، وماذا بعد؟
(...)
لا إجابة في الغالب، فالمتعة لا غير؛ هي الغاية والوسيلة معًا!
--
(2)
متابعة كرة القدم (بالمفهوم الذي قدمته سابقًا) لا منفعة منها، وكل ما ليس منه منفعة فالاشتغال به والاهتمام به حمقٌ وتضييع للوقت والجهد وربما المال أيضًا!
كيف تقول أنها بلا منفعة، وأنت تعلم أن حصول المتعة من مشاهدة المباريات = منفعة؟
هذا صحيح، ولكن حصول هذه المنفعة -وحدها- لا يرجح أن متابعة كرة القدم أمرٌ نافع، ولا يرجح كفة منافعها ومصالحها على مضارها ومفاسدها.
وإلا فما هي المنافع الأخرى التي يجنيها متابع كرة القدم من متابعته هذه؟
لا منفعة على الصعيد الفكري والذهني، فمتابع كرة القدم يظل كما هو، لو أتيته بعد سنة أو عشر سنين، فلن تتغير عقليته أبدًا، ولن يزداد علمًا سوى بأخبار اللاعبين والأندية فقط، وهي معلومات كمية لا ارتباط لها بواقع حياتنا ولا أخلاقنا ولا سلوكياتنا ولا أفكارنا. فاكتسابها غير نافع وجهلها غير ضار + لا ملكة ذهنية أو عقلية قد نُمّيت.
لا توجد منفعة من ذلك على الصعيد النفسي والجسدي الصحي أيضًا، فمتابع الكرة ولو مكث الساعات الطوال أمام الشاشة الصغيرة (تلفازًا كانت أم حاسوبًا أم شاشةً في مقهى) أو زاحم الصفوف الطويلة ليظفر بمقعدٍ صغير يرى به المباراة عن قرب (أو في بعض الأحيان يضع مقعدته على مساطب الاسمنت :) )، فإنه مع ذلك كله لن يفقد شيئًا من وزنه الزائد، ولن تعتدل بنية جسمه وقوامه بتنفيذ جميع ما سبق (يُلفت النظر إلى أن بعض متابعي الكرة ممارسون لها ومواظبون عليها، ولكن هذا لا يجعل تلازمًا بين متابعة الكرة وممارستها، فمتابع الكرة إذن مختلف بهذا الوجه عن ممارسها).
أما الجانب النفسي، فقد تسوء نفسية المتابع وتتلف عواطفه ومشاعره بعد حماسه وتفاعله الشديد مع الكرة المتقلبة التي توسّع فمه من السعادة يومًا، وتبكيه دموعًا ودمًا في يومٍ آخر. مع التذكير بلحظات الانفعال والغضب التي يعقبها شتمٌ ولعنٌ للاعبٍ أضاع هجمة سهلة (كما يراها المتابع!) أو استهتار حارسٍ بفريقه الذي خسر ذلك النهائي العظيم.
وهنا حجةٌ أخرى بعد الاستطراد السابق، وهي أن الناس يتقحمون كبائر الذنوب تقحمًا قويًا، فيزنون ويشربون الخمر، ويسرقون، ويقتلون، ويأكلون أموال بعضهم بالباطل، وهم مع ذلك كله مستمتعون مشتهون متلذذون بفعل ذلك!
فهل تمتعهم بذلك وتلذذهم به يحيل مضار هذه الأفعال منافع؟ وهل (اهتمامهم) بذلك يعذرهم من النقد والنصح والتوبيخ؟
---
(3)
في الجهة المقابلة، ما الذي يبذله المتابع في سبيل (متعته)؟
وقبل الإجابة عن هذا السؤال ينبغي أن يُستشعر أن غالب متابعي كرة القدم = مستهلكون، فالواحدُ منهم ليس مساهمًا في النادي بماله أو عضوًا مؤثرًا فيه، ومن ثمَّ، فإن وجود الفرد منهم أو عدمه ليس له أثر البتة، اللهم إلا اجتماعهم، كما تجتمع قطرات الماء (إنما السيل اجتماع النقط)
الكثير من الجهد الذهني، والمال، والوقت، وربما الصحة أيضًا!
فأما الصحة، فنحن نعلم ما قد يمر به متعصبة المتابعين من أمراض الضغط والبدانة وغيرها لإفراطهم في المتابعة من خلف الشاشات.
ونحن نعلم التقلبات المزاجية التي يمرون بها أثناء مشاهدتهم للمباراة، والتي قد يفتعلون بعضها لإثارة الحماس.
وأما المال، فهذا واضحٌ جلي، لن يدخل متابع الكرة الملعبَ مجانًا في الغالب، بل سيدفع قدرًا من المال لشراء التذكرة، وقد يتكرر ذلك منه إن كان رئيس رابطةٍ ينعق بصوته، أو مرافقًا يضرب الطبل، أو مشاركًا يلوح بيديه حتى يراه المشاهدون في التلفاز.
يبذل متابع الكرة جهدًا ذهنيًا كبيرًا في غالب نقاشاته الكروية وتحليلاته لاجتهادات المدربين وعقود ملاك الأندية، وتنبؤاته المستقبلية بسير الفريق في بطولة الدوري أو الكأس. 
ولا داعي للتذكير مجددًا أنه لا أمل بحصول منفعة من هذا المجهود، الذي يتخلله التعصب والعاطفة الشديدة اللذان يذكينهما الإعلام الرياضي ومشاهير الكرة.
أما الوقت، فمتابع الكرة (كما قدمنا) لا ينحصر وقته في 90 دقيقة فقط، بل يتجاوزها إلى عشرات الساعات المبذولة في مشاهدة المباريات الفائتة أو اللقطات الإبداعية، ولا ننسى النقاشات الكروية بين جماهير الأندية المختلفة، وأيضًا قراءة الكثير من الجرائد الرياضية، وتصفح المواقع المهتمة بذلك كله.
ولنا أن نزيد على ذلك القول بأن متابعة الكرة طريقٌ إلى التعصب الرياضي الذي يمسخ الفكر والعاطفة. لأن المتابع يذوب جزئيًا في النادي الذي يشجعه وذلك ببذله للانتماء العاطفي الكبير له، فيتمثل فيه إنجازاته وإخفاقاته. أما المتعصب فيتحد وجوده بوجود النادي، فيغدوان موجودًا واحدًا رغم أن الإساءة للنادي تضر المتعصب أكثر من الإساءة الموجهة للمتعصب.
المتابعة نفسها نشاط عبثي لأن الحق أن إنجازات الأندية ينالها أربابها ولاعبوها والمساهمون فيها بأموالهم حصرًا دون غيرهم، كما أنهم من يتحملون ثمن إخفاقاتهم. فكيف يسوغ لعاقلٍ أن يربط نفسه عاطفيًا وفكريًا بما لا ثمرة له من ورائه؟
إن فهم هذه العبثية التي تتخلل التشجيع الرياضي يسهّل علينا كثيرًا فهم التعصب الرياضي وتفهم دموع المشجعين وشغبهم وبأسهم على بعضهم في الانترنت والواقع والمدرجات. فمن سهل عليه أن يجعل النادي الرياضي هوية له سيسهل عليه أن يغرق فيه حتى النخاع.
والحق أن الفرق بين متابعة كرة القدم من حيث كونها نشاطًا ذهنيًا ونفسيًا يتخلل مشاهدة المباريات وتحليلها وتشجيع الأندية ومعرفة أخبارهم وتتبع كلام الإعلاميين حولهم، والتعصب الذي يكون فيه شديد القتال والبذاءة والإسفاف = فرقٌ رقيقٌ يصعب أن يفصل بينهما.
فحتى لو قيل بأن الإعلام الرياضي هو من يذكي التعصب ويقويه في النفوس، فالمتابعة للكرة تتأثر وتنفعل به كما تقرر ذلك.
أما القول بأن في مشجعي الكرة بعض الناجحين والمتفوقين في حياتهم، فهو استدلال خاطئ زائغ عن سنن التفكير الصحيح. فمتابعة كرة القدم من حيث هي = مجرد نشاط منفصل عن التفوق الأكاديمي والذكاء الاجتماعي. والربط بينها وبين غيرها على أساس علاقة سببية بين أثر ومؤثر يستلزم دليلًا وتعليلًا.
ونعيد طرح الأسئلة الجوهرية الهامة: ما هي القيمة الكبرى التي تضيفها متابعة كرة القدم للإنسان؟ ما الثمرة العظمى التي يحصّلها متابع الكرة بعد شهورٍ وسنينٍ من متابعته للكرة؟ ما حاجة الناس الحقيقية لمتابعة الكرة؟
---
(4)
يقتصر بعض الدعاة والوعاظ عند حديثهم عن متابعة كرة القدم على الحث على عدم التعصب والاهتمام بالصلاة، وهو جهدٌ مشكورٌ ولا شك، ولكنه يختزل المشكلة بأعماقها، ويسطّحها بما يزيد من غفلة الواقع فيها ويجذبه أكثر إليها.
لن أقول أن الكرة وسيلةٌ يستخدمها الطغاة لإلهاء الشعوب، أو مؤامرة صهيونية لصرف المسلمين عن قضاياهم الكبرى، فهذا ادعاء ضخم لا أتحمل تبعة طرحه بلا برهان مقنع.
المشكلة يا إخوتي هي في جعل وسائل الترفيه التي لا يُلتمس منها النفع = مشروعاتٍ حياتية، وما سواها = مشروعات فرعية.
ليست مشكلتنا مع الكرة وحدها، بل إن أي متابعة لوسيلة ترفيه (سائر الرياضات والأفلام والمسلسلات مثلًا) بنفس القدر الذي أشرتُ إليه سابقًا هو مشكلة كبرى.
---
(5)
يطرح بعضهم سؤالًا بريئًا وهو عن البديل المناسب، أو يقولون أن انشغال الناس بمتابعة كرة القدم خيرٌ من انشغالهم بالأفلام الإباحية والتفحيط وغيرها.
أما التساؤل الأول فهو مشروع وضروري ولا أنكر ذلك مطلقًا. ولكن لا ينبغي أن أجيب عن هذا السؤال مباشرة بصياغته هذه.
لست أبتغي تقييد المباحات التي ينتفع منها الناس وحصرها فيما تشمله رؤيتي الخاصة القاصرة، فهذا استبداد لا أحبه ولا أرضاه.
ولكنني أشير إلى معيار أساسي عام ومهم وهو حصول النفع الفردي والجماعي من البديل الذي سيستبدل به متابع الكرة نشاطه.
فلسنا نريد أن ينقلب متابع الكرة إلى متابعة أخبار المشاهير أو الانشغال بالألغاز والأسئلة والأجوبة الثقافية، فهي استجارة بالرمضاء من النار. ولكننا نريده أن ينتفع ويتعظ من ماضيه الأغبر ويستلهم العبر ممّن جربوا قبله وفهموا اللعبة أكثر.
أكاد أجزم أن انشغال المرء بالعطور وأنواعها أو إطارات السيارات ومستلزماتها أنفع مئة مرة من طلبه واكتسابه للمعلومات النظرية عن ممارسي كرة القدم لا عن الرياضة ذاتها.
ومن هنا يكون الرد على من يقول أن أداء المرء في كرة القدم يتحسن إن شاهد المباريات وتابعها. فنحن قد لا نجادله في ذلك، ولكن إن كانت متابعة 10 أو 20 مباراة كافية للمرء حتى يفهم اللعبة ويدركها جيدًا، فما الداعي لزيادتها عن ذلك؟
الواقع أن غالب متابعي كرة القدم ليسوا مدربي أندية تتعلق أموالهم بذلك، فيشاهدونها لغرض ينفعهم وحدهم وحسب. ولكنهم أقل من ذلك بكثير، فلماذا يشغلون أنفسهم بذلك؟
ولو قلنا جدلًا بأن نسبة المدربين فيهم هي 50% فما الداعي لانشغال البقية بها؟
وننطلق من هنا لحل الإشكال الثاني -في نظر صاحبه- وهو أن متابعة كرة القدم خير بديل عن ما هو أحط منها وأخس.
وهذا في مجمله صحيح، ولكنه مقصودٌ لباطل. إذ أنه ثبت أن متابعة كرة القدم إن لم تضر صاحبها مباشرة، أضره تراكمه في ذهنه واعتياد نفسه عليه. وحصر خيارات الشباب وعاداتهم بين مباح غير نافع ومحرمٍ ضار هو مغالطة في حد ذاتها. وما ينفع الشباب ويصلحهم ويناسب مرحلتهم العمرية والجسدية أوسع من ذلك بكثير.
---
(6)
سؤال أخير وجريء
ما الذي سيضرنا لو خفضنا الإنفاق أو جففناه عن الأندية الرياضية أو أي وسيلة تدفع الشباب لمتابعة الكرة والرياضة؟
ماذا لو حوّلنا هذا الصرف الضخم على مشروعات أخرى كالتعليم والصحة والاقتصاد...إلخ؟
وكما أسلفتُ الذكر، فممارسوا الرياضة يختلفون تمامًا عن من شُغِفوا بمتابعتها.
ومُشاهد الكرة = خيرٌ ممن يتابعها، ومن يستغل وقت ترفيهه فيما ينفعه = خيرٌ منهما جميعًا.
أعد النظر فيما ترفه به نفسك، وما تستمتع به، فقد تكمن فيه مضرتك من حيث لا تدري!
والله أعلم وأحكم.
البراء بن محمد
كتبه يوم الخميس 1436/12/4هـ
2015/9/17م
وأعاد تحريره يوم السبت 1438/5/22هـ
2017/2/18م