الحمد لله الذي نفخ الروح في أبينا آدم عليه السلام وخلق منه حواء عليها السلام، وألهمها التناسل الذي نشأت به نفوس البشر، ثم برأ للواحد منهم جسمًا حسنًا وقوامًا معتدلًا وجوارح يحصل بها الفعل والحركة، وجعله مفتقرًا للغذاء والشراب والنَفَس لتدوم بها الحياة إلى أن يحين الأجل الذي قضاه الله تعالى، فينقطع بانفصال الروح عن الجسد.
والصلاة والسلام على من أحيا أرواحنا بالإيمان بالله تعالى، والتصديق بكتابه العزيز، واتباع نهجه السديد، وآله المطهرين، وصحبه المكرّمين.
قتل النفس هو الاسم الذي ينطبق على كل هذه الصور القاتمة، وقد يسمى أحيانًا بالانتحار. ولكنني سألتزم غالبًا بتسميته قتل النفس كما ورد في القرآن، بالإضافة لدلالته اللفظية على القتل.
--
لا يشك عاقل في أن الحياة نعمة عظمى ومنحة كبرى. كيف والباري عز وجل هو من أخرجنا من ظلمة العدم إلى نور الوجود، وأفاض علينا من اللذات والمسرات ما لا يحصره ذهن؟
بل الحياة أصل لسائر النعم التي تلازمها كالعلم والقدرة والإرادة والحركة وغير ذلك.
ولما كان الله جل جلاله حكيمًا عدلًا متنزهًا عن العبث والظلم، فإنه خلقنا لغاية شريفة محمودة وهي عبادته وحده لا شريك له، وإفراده بالتعظيم والإجلال الذي لا يليق إلا به تعالى.
وقد رتب الرحمن سبحانه أعظم الثواب لمن حقق هذه الغاية وامتثل بها في حياته، ورتب أعظم العقاب لمن تنكر لها وكفر بها وتنكب عن سبيلها.
وقد كان من عدل الله سبحانه وتعالى أن أخر نيل الثواب ومعاناة العقاب وإجراء الحساب إلى يوم القيامة الذي يقوم الناس فيه لربهم جل وعلا، فيزول كل ملك غير ملكه، وتنمحق ظلمات الجهل والوهم بأنوار الحقيقة الساطعة.
وقد كان من تقدير الله وقضائه عز وجل أن ابتلانا بالشر والخير فتعاقبا علينا كتعاقب الليل والنهار، فتقلبت حياتنا بين النعمة والنقمة، والسراء والضراء. والمؤمن حقًا هو من يتقلب بين الشكر والصبر، فلا تلهيه الشهوات عن شكر الرب سبحانه وتعالى، ولا تجزعه المصائب. ولله في خلقه شؤون.
إذا أيقنت بكل هذا، وعقدت قلبك عليه، فاعلم أن من يعزم على قتل نفسه، وإزهاق روحه بأي وسيلة كانت مجرمٌ خاطئٌ معتدٌ عاصٍ لربه تعالى، كافر بنعمته، جاحد لمنته، خوارٌ ضعيف، قاصر النظر والفكر.
ولنذكر من الشنائع اللاحقة بالمنتحرين، ما يكف أهل العقل والرشاد عن متابعتهم والسير في ركابهم مهما استطالت بلاءات الدنيا واشتدت آلامها.
وقد نذكر وجهًا يستحق أن يدخل في وجه سابقٍ أو لاحق، ولكن تخصيصه بالذكر لبيان أهميته لا أكثر. فهي أوجه متداخلة في حقيقة الأمر.
---
تنبيه: لست أحتقر معاناة من يعزم على الانتحار لعلمي بأنه لم يقدم على إنهاء حياته إلا لما اعتراه من الآلام والأوجاع الشديدة. ولكنني أحتقر القرار الخاطئ الذي يتوهم صاحبه أنه الحل الوحيد المشروع لمعاناته التي يصبر الناس على ما هو أشد منها دون أن يخطر ببالهم إزهاق أرواحهم للتخلص منها.
--
تنبيه ثانٍ: لا أزعم أن ما كتبته سيردع كل عازم على الانتحار عن الإقدام على هذه الجريمة الخطيرة، ولكنني متيقن بفضل الله أن الوضوح والقوة في تقرير الحقائق الشرعية يحدث رادعًا ما في نفس كل عاقل منصف. ولذا فإنني أسأل الله تعالى أن ينفعني والقراء بما كتبته، ويطرح فيه البركة والخير.
---
الوجه الأول: قتل النفس معصية وكبيرة من كبائر الذنوب التي توجب الإثم وصلِّي النيران.
قال تعالى: ((
ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا * ومن يفعل ذلك عدوانًا وظلمًا فسوف نصليه نارًا وكان ذلك على الله يسيرًا)) [النساء/29-30].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذي يخنق نفسه يخنقها في النار، والذي يطعنها يطعنها في النار)) [رواه البخاري]
وقال عليه الصلاة والسلام: ((من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيه خالداً مخلداً فيها أبداً، ومَن تحسَّى سمّاً فقتل نفسه فسمُّه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومَن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً)) [رواه البخاري ومسلم]
وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَن قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة)) [رواه البخاري ومسلم]
فقاتل نفسه المنتحر عاصٍ لله آثم بفعلته القبيحة.
الوجه الثاني: قتل النفس يوجب حصول العقوبة الأخروية بمثل العقوبة الدنيوية.
ودليله ما تقدم من نصوص تشير إلى أن المنتحر يعذب بمثل ما قتل به نفسه عياذًا بالله.
الوجه الثالث: قتل النفس شأن كل جَزعٍ خوار.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح فجزع فأخذ سكيناً فحز بها يده فما رقأ الدم حتى مات. قال الله تعالى: بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة)) [رواه الشيخان]
وتأمل في سيرة المنافق الشجاع قزمان والذي قتل نفسه فأبان بذلك عن الريب والشك الذي يعتريه، وأنه مهتز الجنان جبان في الحقيقة وإن كان يتظاهر بالشجاعة والصلابة.
وقد جمعت أخباره في مقالة منفصلة، فارجع إليها:
https://abomalek1434.blogspot.com/2018/12/blog-post.html
فهل يحب العاقل أن يتشبه بهذا المنافق الخائب الذي قتل نفسه بعد معركة حامية الوطيس؟
بل وانظر في حال هتلر طاغوت ألمانيا النازية، قتل نفسه ذليلًا في حجرة صغيرة وترك بلاده وقومه يقاسون شر الحلفاء،
الوجه الرابع: قتل النفس كفران بنعمة الحياة.
قال تعالى: ((
وكيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون)) [البقرة/28].
وكثيرًا ما يحتج الله سبحانه وتعالى على ربوبيته بخلق الناس وبث الأرواح فيهم.
وما من شك أن حياتنا نعمة تستوجب الشكر لله عز وجل، ولن نبلغ وفاء هذه النعمة بشكرنا الضعيف، فضلًا عن الشكر الذي لم نوفق إليه سوى بفضل الله تعالى ورحمته، فهو أيضًا نعمة تستوجب الشكر، وهكذا إلى غير نهاية. فآلاء الله ونعمه لا تحصى كما قال تعالى: ((
وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها)) [النحل/18]. فإحصاؤها متعذر، فكيف بشكرها؟
وقد تبين أن قتل النفس معصية لله تعالى، وأنها سبب غير شرعي لقطع الحياة. بل إنني أقول أن قتل النفس يعود على نعم الله عز وجل بالإبطال، إذ إن انقطاع الحياة يقتضي انقطاع العلم والقدرة والإرادة وحواس الجسد وأجهزته وغير ذلك.
فأي وقاحة وسوء أدب يتمتع به قاتل النفس الذي قصّر كغيره من الناس في شكر نعم الله فأراد أن يبطلها باستخدامها فيما لا يرضي الله عز وجل؟
الوجه الخامس: قتل النفس من سوء الخاتمة.
وليت شعري ما الذي يحمل قاتل النفس على اختتام حياته بخطيئة يتجاوز بها أوامر الله تعالى؟ إنه لن يرتضي أن ينتقل من الدار الدنيا وهو يحتسي الخمر أو يواقع الفواحش، فما باله ينهي الحياة بكبيرة من كبائر الذنوب؟ وأي فرق بينه وبين عتاة الفساق الفجار الذين هلكوا أثناء اجترائهم على الله تعالى بالمعاصي؟
الوجه السادس: قاتل النفس معتدٍ ظالمٌ.
وذلك بنص الآية الكريمة ((
ومن يفعل ذلك عدوانًا وظلمًا)). بل لا تكاد تتصور حالٌ يخرج قاتل النفس فيها من نعت الظلم والعدوان.
الوجه السابع: قتل النفس يضاد رحمة الله تعالى.
لا شك أن الانتحار نتيجة اليأس والبؤس ومقاساة الآلام النفسانية والجسدية وضيق الرزق. فلا جرم أن من يسعى لقتل نفسه يكون قد احتمل ألمًا كبيرًا لا يسشتعره أكثر الناس. فهو مضطر إلى استمطار رحمة الله تعالى أكثر من غيره (والكل محتاج إليها ولا ريب). ولا سبيل لنيل الرحمة الإلهية بقتل النفس إذ أن الإله الحكيم نهى عنه وذكر في الآية أنه رحيم بالناس. فدل ذلك على أن قتل النفس يخالف رحمة الله تعالى. فأي جرمٌ يحتمله المنتحر بمخالفته رحمة خالقه سبحانه وتعالى؟
الوجه الثامن: قتل النفس معصية لا توبة منها.
من نحن لولا توبة الله تعالى علينا وستره لذنوبنا ومغفرته إياها؟
قال تعالى: ((
فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم)) [البقرة/37]
وقال جل من قائل: ((
وتوبوا إلى الله جميعًا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون)) [النور/31].
وقال سبحانه: ((
إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليمًا حكيمًا)) [النساء/17].
وقال جل وعلا: ((
إن الله يغفر الذنوب جميعًا)) [الزمر/53].
والآيات في ذكر توبة الله على عباده كثيرة.
يالله! ما أوسع رحمتك التي شملت أمثالنا من المجرمين المقصرين!
لو تأملت أصناف المعاصي لعلمت أن إمكان توبة مقترفيها واردٌ ما دامت أنفاسهم تتردد بين جنباتهم قبل أن تحين الساعة.
ولكن قتل النفس استثناء شنيع من هذه المعاصي، فقاتل نفسه غير مقتدر على التوبة، وهو محرومٌ منها إذ أنه انتقل من دار التكليف والابتلاء إلى دار البرزخ. والله يتولى شأنه.
إنها حقيقة مفزعة تخلع القلب من مكانه، وتضع ملايين العقبات في ذهن المنتحر قبل أن يسترسل في غيه ويطيع شيطانه وهواه بالسعي لقتل نفسه.
الوجه التاسع: قتل النفس يخالف الإقبال على الله تعالى.
من نظر في أحوال أهل الدنيا، واعتبر حقيقتها، فإنه سيحتقرها بالنظر إلى النعيم المقيم الذي لا يمكن أن تقارنه أبدًا.
ومن تدبر كتاب الله، وتأمل صفات الله عز وجل، فإن شوقه إلى لقاء الله تعالى سيزداد بقدر ما في قلبه من الإيمان واليقين بموعود الله. و((من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه)) كما في الحديث الشريف.
وبذل النفس لله عز وجل يكون بالجهاد في سبيله، والاستشهاد في ذلك. فهل قاتل النفس في ذلك من شيء؟
لسان حال قاتل النفس: "يا رب! قد جَزِعت من مصائب الحياة التي أقطع أن غيري يعاني أشد مما أعانيه وهو مع ذلك صابرٌ لاهج لك سبحانك بالحمد والتسبيح. يا رب! أردت أن أدفع ما يمر بي من أذى بطريقة لا ترضيك واستعجلت الموت وعملي ليس بصالح، ولو وقر الإيمان بقلبي حقًا لما أقدمت على هذه الفعلة الخسيسة"
الوجه العاشر: قتل النفس ضربٌ من السفاهة.
وهذا ظاهرٌ في أحوال المنتحرين. إذ أنهم يدفعون عذاب الدنيا بعذاب جهنم، ويتخلصون من الأذى الذي يمكن الصبر عليه بالأذى الذي لا يمكن احتماله بحال. والأخطر من ذلك كله أنهم يعرضون أنفسهم لسخط الله تعالى.
ومصداق ذلك قصة قزمان الذي قتل نفسه بعد أن أثخن في الأعداء. ولو كان وافر العقل حسن الظن بربه تعالى لعقد قلبه على محبة الشهادة في سبيل الله تعالى، إذ أن حصول القتل واردٌ جدًا في أرض المعركة. فلم يزهق روحه هكذا لغير فائدة؟
ومن دفع مصاب الدنيا بمصيبة الآخرة فهو سفيه معلول العقل حتمًا. ولتتبين ذلك، فاقرأ حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم التالي.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة ثم يقال يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط هل مر بك نعيم قط فيقول لا والله يا رب ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة فيقال له يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط هل مر بك شدة قط فيقول لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط)) [رواه مسلم].
الوجه العاشر: قتل النفس جريمة.
وهو ظاهر.
الوجه الحادي عشر: قتل النفس معصية لا لذة فيها.
قاتل النفس إما أن يحصل اللذة بفعله أو يدفع الضرر به، وتحصيل اللذة متعذر لما يعقبه من موت وفناء. ولا سبيل للقطع بأن ذلك مما يندفع به الضرر، لأن صاحبه مستحق للعقوبة الشديدة ما لم يغفر الله له بفضله الواسع. وكل ضررٌ دنيوي هو دون ضرر التعرض لعقوبة الله سبحانه وتعالى.
الوجه الثاني عشر: قتل النفس مشكلة في حد ذاته.
لو كان في قتل النفس حلٌ لمشكلات الحياة التي لا نهاية لها، لأقبل عليه الصالحون والصديقون وأهل الله سبحانه وتعالى. ولكنه مشكلة في حد ذاته لما يتضمنه من عصيان الله سبحانه وتعالى والتعرض لعقوبته والكفران بنعمه على ما تبين سابقًا.
وفي ذلك يقول المنفلوطي: "لا عذر لمنتحر في انتحاره مهما امتلأ قلبه بالهم ونفسه بالأسى، ومهما ألمت به كوارث الدهر ونزلت به ضائقات العيش، فإن ما أقدم عليه أشد مما فر منه، وما خسره أضعاف ما كسبه ." (1)
الوجه الثالث عشر: قتل النفس لا يقطع الأجل ولا يقصر العمر.
قال تعالى: ((
ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)) [الأعراف/34].
اعلم يا قاتل النفس أنك لن تفنى قبل وقتك الذي قدره الله لك، فانشغل بطاعته وطلب مرضاته لتنقلب إليه مسرورًا راضيًا به وبقضائه.
الوجه الرابع عشر: لا مصيبة تجيز قتل النفس.
انقسم الناس في المصائب التي تحل بهم إلى من يرضى بقضاء الله عز وجل وقدره وهم صفوة الخلق، ومن يصبر عليها فيحبس لسانه عن التسخط وجوارحه عن شق الجيوب، ومنهم من تزيده المصيبة جزعًا وسخطًا لقضاء الله جل في علاه، فيجمع بين ألم المصيبة وألم إثم التسخط.
وأشد الناس بلاء هم الأنبياء ((ثم الأمثل فالأمثل)) كماء ورد في الحديث الشريف. فهل نحر أحدهم نفسه؟ أم صبروا على مصابهم فكانوا خير قدوة للناس؟ لقد ظل الأنبياء عليهم السلام والصالحون من بعدهم أظهر دليل على أن الصبر على البلاء ممكن مهما اشتد واستطال، فما بالنا ننهار عند أهون مصيبة؟
الوجه الخامس عشر: قتل النفس وصمة عار.
مهما يكن من تعاطف الناس مع قاتل النفس، فإنهم لا محالة يزدرونه ويحتقرونه في كثير من الأحيان. ولسان حالهم ناطقٌ بأن قاتل النفس هذا كان بإمكانه أن يصبر أكثر وأنه مسكين بائس. ولا شك أن المسكنة والبؤس من صفات النقص، فكيف إن استجلبها المرء لنفسه؟ ألا يكون حقيقًا بالذم؟
الوجه السادس عشر: قتل النفس يقتضي إيذاء الناس.
لو تفكر المنتحر في بشاعة الأثر الذي يخلفه في نفوس أقربائه وأصدقائه والغرباء لاستعاذ بالله من شر الشيطان الذي يوسوس له برديء الخواطر والأفكار، ولانشغل بما ينفعه.
قاتل النفس يفطر قلوب محبيه بلا داعٍ، ويدخل الحزن عليهم، ويبث فيهم روح اليأس والكآبة. بل وينقل إليهم سلوكه المنحط هذا!
يقول صاحب كتاب شهقة اليائسين: "وتبين دراسات أن معدل الانتحار في أقارب الدرجة الأولى للمرضى النفسيين یزید 8 مرات عن معدل الانتحار بين سائر الناس. غير أن باحثين يرون أن الأمر ليس مرتبطا بالوراثة بقدر ما هو متصل بـ((القوة المعدية للنموذج المحتذى))، إذ يرى هؤلاء أن ((الانتحار معد للغاية. وهذه القابلية للعدوی تظهر، على الأخص لدى الأفراد الذين تجعلهم بنيتهم أسهل انفتاحًا على كل الإيحاءات، بوجه عام، وعلى أفكار الانتحار بوجه خاص)).
كما وجد الباحثون أن انتحار شريك حياة يجعل الشريك الآخر عرضة بشكل واضح للانتحار هو الآخر. وأظهرت الدراسة التي أعدها فريق من جامعة آرهوس الدنماركية أن الرجال الذين يفقدون شريكًا للحياة يكونون عرضة 46 مرة أكثر للإقدام على الانتحار أنفسهم، وهو ما يمثل ثلاثة أضعاف احتمال إقدام النساء على الشيء نفسه" (2)
وانظر لقبيح الأثر الذي تركه البوعزيزي بعد أن سن سنة إحراق النفس يأسًا أو اعتراضًا على الظروف الصعبة. فقد نقل صاحب هذا الكتاب أيضًا أنه "خلال شهر واحد، أشعل حوالي ثلاثين شخصًا النار في أجسادهم، في كل من تونس والجزائر والمغرب وموريتانيا ومصر والسعودية والسودان واليمن." (3)
ولنا أن نستأنس بما نُقل عن العوائل التي تنتحر جملة: "ومن الملاحظ إكلينيكيا أن هناك عائلات تكثر فيها حالات الانتحار،والمثل الشهير لذلك عائلة الروائي الأمريكي إرنست همنغواي، فقد انتحر هيمنغواي وانتحرت أخته وانتحر الأب قبلها، وانتحر أشخاص آخرون في العائلة، ومنهم الحفيدة مارغو في 1996." (4)
وقاتل النفس يجلب لأهله العار والشنار وسواد الوجه بجريمته هذه، وهو يجعل عِرِضه وعِرض أهله فاكهة يلوكها السفهاء في المجالس. والله المستعان.
الوجه السابع عشر: قاتل النفس عدو نفسه.
وهذا أعظم الخذلان والخيبة. لا أقبح من أن يعادي أحدنا نفسه فيكيد لها ويوقعها في المهالك. ومن كان عدوانه متجهًا لنفسه فلن يرضى بشيء من الدنيا ولو ركعت له بين يديه. فنعوذ بالله من هذا البؤس الشديد.
الوجه الثامن عشر: قتل النفس دليل ضِعة النفس وحقارتها.
لما خلق الله عز وجل النفس الإنسانية فإنها كرمها بأجناس عظيمة من الكرامة كالعقل والإيمان وحسن الهيئة واعتدال والقوام والتسلط على كافة الحيوانات وغير ذلك. وعاقب الله من يعتدي على إنسان بغير وجه حق بعقوبة رادعة تصل إلى القتل قصاصًا في بعض الأحيان.
إن فهمت ذلك، فاعلم أن قاتل نفسه وضيعٌ حقيرٌ سخيف العقل؛ وإلا لما أقدم على إعدام هذه النفس التي كرمها الله، وإفساد الجسد الذي أحسن الله خلقه.
ولو وضع العاقل نفسه موضعها لعلم أن كل يوم تشرق شمسه وتغيب هو فرصة لمحو الأخطاء، وتجديد التوبة، والإقبال على الله تعالى برضا وسرور، والسعي في الحياة بما يرضي الإله تعالى.
----
وبعد هذا كله، فإن مساوئ قتل النفس وشناعاته لا تنتهي، وما كتبته من وجوه هو غاية ما بلغه ذهني القاصر من الفكر والتأمل. والله يكفينا وإياكم شر قتل النفس وإيرادها المهالك.
أما وإنني قد انتهيت من تحبير المقال، فإنه لا يسعني إلا أن أقتبس بضع كلمات من الفاضل المبارك مصطفى محسن الذي تعلمت منه الكثير. وهو ممن طرح الله عز وجل البركة في كلامهم، فلا يوافق القلب إلا ويؤثر فيه. أحسبه كذلك والله حسيبنا وحسيبه.
"مقتضى القرآن والسنة أن الانتحار من علامات سوء الخاتمة بلا أدنى ريب. نسأل الله لنا وللمسلمين العافية
وعندما تشيع المعصية في المسلمين وتتفشى ويهون ذِكرها في قلوبهم وتتجرأ القلوب على اقترافها ويتكرر الوقوع فيها .. يجب حينئذ الزجر والتخويف والكف عن كل ما يهون من شأنها في قلوب الناس، وتخويف الناس من غضب الله والتحذير من انتقامه، لا تمكين الإرجاء من قلوبهم بنشر أحاديث الرجاء والمغفرة والترحم على الفساق ومن ماتوا على معصية شاعت بين الناس"
رابط المنشور:
https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=10204965308551474&id=1204129369&utm_source=thearchive.me
"أتعرفون معنى أن ينتحر إنسان؟ معناه أن ينهي حياته، ويترك وراءه أسرة في صدمة وحزن لا ينقطعان، كلما تذكروا كيف انتهت حياته، بل كيف أنهاها، كلما تجدد تلقائيا۔ الكرب
أتعرفون معنى أن ينتحر إنسان؟ معناه أنه مات على كبيرة من أكبر الكبائر، وهي خاتمة سوء -والعياذ بالله- يدخل بسببها في النار، أي أنه يمكث فيها طويلا طويلا إلى أن يشاء الله
أتعرفون معنى أن ينتحر إنسان؟ معناه أنه فز من عذاب في الدنيا ليقع في عذاب أعظم منه بما لا يحصى في القبر، ثم في الآخرة، كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم
هذا معنى أن ينتحر إنسان! معنی شدید جدأ، ترتعد منه النفس حتی لإنها تحاول الفرار من مجرد تخيل الفكرة، أليس كذلك؟
والآن، في زمن الشبكات الاجتماعية تنتشر الأخبار والمقالات انتشار النار في الهشيم، خصوصا ما داعب العاطفة بشكل أو بآخر، ومن هذا منشورات "المنتحرين"، وهي كارثة في ذاتها! ربما لم تزدد معدلات الانتحار شيئا ذا قيمة إحصائية، لكن انتشار الأخبار يوهم بزيادة شيوع الأمر. أتدرون ما الكارثة في هذا؟ أن كلما شعر المرء بانتشار مصيبة كلما هانت على نفسه! لهذا ليس من نهج المصلحين نشر أخبار الأخطاء ولا المعاصي ولا الكوارث، لما فيه من تهوين للوقوع فيها، وهذا معروف عند المتخصصين في علم الاجتماع وعلم النفس وربما تكلمت عنه تفصيلا لاحقا
طيب هنا الكارثة: تخيل عندما تجتمع إلى مشكلة نشر أخبار المنتحرين تهميش حقيقة الانتحار ووضعه في إطار أنه "ضعف إنساني"، وأنه "مريض اكتئاب ليس بيده شيء" إلى آخره، ماذا سيحدث؟؟ الذي سيحدث أنه سيسقط حاجز آخر أمام الوقوع في هذه الكارثة، قتل النفس!"
رابط المنشور:
https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=2197619303897844&id=100009493880541&ref=content_filter
---
اللهم أحسن خواتيمنا، وأرضنا بك وبقضائك، وأحيينا بالإيمان، واجعلنا من أهل السعادة.
البراء بن محمد
الرياض
ليلة الخميس قبيل فجر الجمعة
1441/2/12هـ
2019/10/3م
-
الهامش:
(1) (النظرات، مصطفى لطفي المنفلوطي، مؤسسة هنداوي، ط 2015م، ص322).
(2) (شهقة اليائسين: الانتحار في العالم العربي، ياسر ثابت، دار التنوير، ط1 2012م، ص27).
(3) (شهقة اليائسين: الانتحار في العالم العربي، ياسر ثابت، دار التنوير، ط1 2012م، ص147).
(4) (شهقة اليائسين: الانتحار في العالم العربي، ياسر ثابت، دار التنوير، ط1 2012م، ص27).