الخميس، 13 ديسمبر 2018

من شجعان المنافقين

بسم الله الرحمن الرحيم 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه الأمين، وآله وصحبه أجمعين. 
أما بعد، فلما كنت أطالع بعضًا من تفسير شيخ المفسرين محمد بن جرير الطبري رحمه الله، وجدته قد أشار إلى قزمان، أحد المنافقين ممن "لا تنكر شجاعته، ولا تدفع بسالته" فهو "الذي لم يقم مقامه أحد من المؤمنين يوم أحد" (1). 
ولا شك أن وصف منافقٍ بالشجاعة والبسالة مما يثير الانتباه والاهتمام، كيف لا والمعهود عن المنافقين الكذب والجبن والتخذيل عن طاعة الله سبحانه وتعالى، وبالأخص الجهاد في سبيله. 
غير أن لابن جرير رحمه الله تفسيرًا مهمًا لخذلان المنافقين النبي صلى الله عليه وسلم في غزواته حيث يقول:
"وإنما كانت كراهتهم شهود المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركهم معاونته على أعدائه؛ لأنهم لم يكونوا في أديانهم مستبصرين، ولا برسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقين، فكانوا للحضور معه مشاهده كارهين، إلا بالتخذيل عنه" (2).
وعلى كل حال، فقد رجعت إلى كثير من المصادر التاريخية، لمعرفة حقيقة قزمان هذا، والنظر إلى شجاعته التي أثارت اهتمام الطبري رحمه الله. 
ثم اعتزمت نشر ما جمعته من نقول وإحالات، وفيها من التفاصيل والاختلافات ما يلفت النظر. 
الجدير بالذكر أنه قد جاء في الصحيحين خبر قاتل نفسه الذي أبلى بلاء حسنًا في القتال حتى استبشر الناس به خيرًا. ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أهل النار، وقد أزهق روحه بنفسه جزعًا. إلا أن هذا الخبر لا يتضمن النص على اسمه. 
وهذه القصة فيها عبرة ظاهرة تحمل العاقل على أن يسأل الله الإخلاص والثبات. 
-
الواقدي
"وكان قزمان من المنافقين وكان قد تخلف عن أحد فلما أصبح ، عيره نساء بني ظفر فقلن : يا قزمان قد خرج الرجال وبقيت يا قزمان . لا تستحي مما صنعت . ما أنت إلا امرأة خرج قومك فبقيت في الدار فأحفظنه . فدخل بيته فأخرج قوسه وجعبته وسيفه ، وكان يعرف بالشجاعة ، فخرج يعدو حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسوي صفوف المسلمين فجاء من خلف الصفوف حتى انتهى إلى الصف الأول فكان فيه . وكان أول من رمى بسهم من المسلمين ، فجعل يرسل نبالا كأنها الرماح ، وأنه ليكت كتيت الجمل ، ثم صار إلى السيف ففعل الأفاعيل ، حتى إذا كان آخر ذلك قتل نفسه . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكره قال : من أهل النار فلما انكشف المسلمون كسر جفن سيفه وجعل يقول : الموت أحسن من الفرار . يا آل الأوس قاتلوا على الأحساب واصنعوا مثل ما أصنع . قال : فيدخل بالسيف وسط المشركين حتى يقال قد قتل ، ثم يطلع ويقول : أنا الغلام الظفري ، حتى قتل منهم سبعة . وأصابته الجراحة وكثرت به فوقع فمر به قتادة بن النعمان فقال : أبا العيداق قال : باليتك* قال : هنيا لك الشهادة . قال قزمان: إني والله ما قاتلت يا أبا عمرو على دين. ما قاتلت إلا على الحفاظ أن يسير قريش الينا حتى يطأ سفعنا . فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم جراحته فقال ((من أهل النار)) فاندبته الجراحة فقتل نفسه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر))" (3).
* كذا في الأصل ولعلها يا لبيك
وقال في موضع آخر:
"قالوا: وكان قزمان عديدا في بني ظفر ، لا يدرى ممن هو . وكان لهم حائطا محبا ، وكان مقلا لا ولد له ولا زوجة ، وكان شجاعا يعرف بذلك في حروبهم تلك التي كانت تكون بينهم ، فشهد أحد فقاتل قتالا شديدا فقتل ستة أو سبعة وأصابته الجراح . فقيل للنبي عليه السلام : قزمان قد أصابته الجراح . فهو شهيد . قال : من أهل النار . فأتى* إلى قزمان فقيل له : هنيئا لك يا أبا الغيادق الشهادة . قال : بم تبشرون والله ما قاتلنا إلا على الأحساب . قالوا : بشرناك بالجنة قال : جنة من حرمل والله ما قاتلنا على جنة ولا نار ، إنما قاتلنا على أحسابنا . فأخرج سهما من كنانته فجعل يتوجأ به نفسه ، فلما أبطأ عليه المشقص ، أخذ السيف فاتكأ عليه حتى خرج من ظهره . فذكر ذلك للنبي عليه السلام قال : (( من أهل النار ))" (4).
* كذا في الأصل ولعلها فأتي 
وقد نقل ابن الجوزي قصة قزمان من الواقدي وجزم أنه المقصود في حديث الصحيحين (5)، إلا أن ابن حجر تعقبه (6).
-
ابن هشام
"وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، قال: كان فينا رجل أتي لا يدرى ممن هو، يقال له: قزمان، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا ذكر له: ((إنه لمن أهل النار))، قال: فلما كان يوم أحد قاتل قتالًا شديداً . فقتل وحده سبعة أو ثمانية من المشركين، وكان ذا بأس فأثبتته الجراحة. فاحتمل إلى دار بني ظفر، قال: فجعل رجال من المسلمين يقولون له: والله لقد أبليت اليوم يا قزمان، فأبشر، قال: بماذا أبشر؟ فوالله إن قاتلت إلا عن أحساب قومي، ولولا ذلك ما قاتلت. قال: فلما اشتدت عليه جراحته أخذ سهماً من كنانته، فقتل به نفسه." (7).
-
الطبري 
"حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة قال : حدثني محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، قال : كان فينا رجل أتيٌ لا يدرى من أين هو ، يقال له قزمان ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا ذكر له: إنه لمن أهل النار ؛ فلما كان يوم أحد ؛ قاتل قتالًا شديدًا ، فقتل وحده ثمانية من المشركين أو تسعة ؛ وكان شهمًا شجاعًا ذا بأس ؛ فأثبتته الجراحة ، فاحتمل إلى دار بني ظفر . قال : فجعل رجال من المسلمين يقولون : والله لقد أبليت اليوم يا قزمان ؛ فأبشر ! قال : بم أبشر ! فوالله إن قاتلت إلا على أحساب قومي ؛ ولولا ذلك ما قاتلت ؛ فلما اشتدت عليه جراحته ، أخذ سهمًا من كنانته فقطع رواهشه فنزفه الدم فمات ؛ فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أشهد أني رسول الله حقًا !" (8).
-
ابن عبدالبر
"وكان في بني ظفر رجل لا يدرى ممن هو يقال له قزمان أبلى يوم أحد بلاءً شديدا ، وقتل يؤمئذ سبعة من وجوه المشركين ، وأثبت جراحا ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمره ، فقال : هو من أهل النار . وقيل لقزمان : أبشر بالجنة ، فقال : بماذا ؟ وما قاتلت إلا عن أحساب قومي . ثم لما اشتد عليه ألم الجراح أخرج سهما من كنانته ، فقطع به بعض عروقه ، فجرى دمه حتى مات" (9).
-
ابن حجر
"قزمان بن الحارث، حليف بني ظفر صاحب القصة يوم أحد .
قيل: مات كافراً فإن في بعض طريق قصته أنه صرح بالكفر، وهذا مبني على أن القصة وقعت لواحد. وقيل: إنها تعددت.
قال ابن قتيبة في ((المعارف)) : قتل نفسه، وكان منافقاً، وفيه قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر)).
وذكر ابن إسحاق والواقدي قصته، وأنه كان عزيزاً في بني ظفر، وكان لا يدري من أين أصله.
قال الواقدي: وكان حافظاً لبني ظفر، ومحبا لهم، وكان مقلا لا ولد له ولا زوجة، وكان شجاعاً يعرف بذلك في حروبهم التي كانت بين الأوس والخزرج، فلما كان يوم أحد قاتل قتالاً شديداً، فقتل ستة أو سبعة حتى أصابته الجراحة، فقيل له: هنيئاً لك بالجنة يا أبا الغيداق. قال: جنة من حرمل، والله ما قاتلنا إلا على الأحساب.
وقيل: إنه قتل نفسه. وقيل: بل مات من الجراح، ولم يقتل نفسه.
وفي صحيح البخاري من رواية أبي حازم، عن سهل بن سعد- أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم التقى هو والمشركون ... فذكر الحديث، وفيه: وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجل لا يدع شاذة ولا فاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه، فقالوا: ما أجزأ عنا أحد كما أجزأ فلان. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أما إنه من أهل النار)). فقال رجل من القوم: أنا أصاحبه، فخرج معه، قال: فجرح جرحاً شديداً فاستعجل الموت، فوضع نصل سيفه بالأرض، ثم تحامل على سيفه، فقتل نفسه.. الحديث؛ وفي آخره: ((إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار." (10).
-
على الهامش:
1- تصفحت سيرة ابن إسحاق ودلائل النبوة للبيهقي وكذلك أسد الغابة لابن الأثير سريعًا فلم أجد ذكرًا لخبر قزمان، على أن ابن الأثير نقل خبر قزمان في تاريخه (11) كما أن البيهقي نقل خبر الصحيحين في باب غزوة خيبر (12).
2- ذكر خليفة بن خياط بعض من قتلهم قزمان فقال: "وكلاب بن طلحة والحارث بن طلحة قتلهما قزمان حليف بني ظفر" "وأبو يزيد بن عمير بن عبدمناف بن عبدالدار قتله قزمان ، وصؤاب —عبد لهم حبشي— قتله قزمان" (13).
3- ذكر ابن كثير في تاريخه القصة بنحو ما ذكره الطبري (14).
-
والله أعلم وأحكم
ليلة الجمعة 1440/4/7هـ
2018/12/14م 
(1)
(جامع البيان عن تأويل آي القرآن، أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، تحقيق: عبدالله بن عبدالمحسن التركي، دار هجر، ط1 1422هـ-2001م، الجزء الأول، ص377).
(2)
(جامع البيان عن تأويل آي القرآن، أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، تحقيق: عبدالله بن عبدالمحسن التركي، دار هجر، ط1 1422هـ-2001م، الجزء الأول، ص377).
(3)
(مغازي رسول الله، أبو عبدالله محمد بن عمر الواقدي، ط1 1367هـ-1948م، ص174-175).
(4)
(مغازي رسول الله، أبو عبدالله محمد بن عمر الواقدي، ط1 1367هـ-1948م، ص205-206).
(5)
(كشف المشكل من حديث الصحيحين، أبو الفرج عبدالرحمن [بن علي] بن الجوزي، تحقيق: علي حسين البواب، دار الوطن، ط1 1418هـ-1997م، الجزء الثاني، ص272-273).
(6)
(فتح الباري بشرح صحيح الإمام أبي عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، إخراج: محب الدين الخطيب، المكتبة السلفية، الجزء السابع، ص472).
(7)
(السيرة النبوية، [أبو محمد عبدالملك] بن هشام، تخريج: عمر عبدالسلام تدمري، دار الكتاب العربي، ط3 1410هـ-1990م، الجزء الثالث، ص51).
(8)
(تاريخ الرسل والملوك، أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، ط2 1968م، الجزء الثاني، ص531).
(9)
(الدرر في اختصار المغازي والسير، يوسف بن عبدالبر النمري، تحقيق: شوقي ضيف، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، ط 1386هـ-1966م، ص161).
(10)
(الإصابة في تمييز الصحابة، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تحقيق: عادل أحمد عبدالموجود وعلي محمد معوض، دار الكتب العلمية، ط1 1415هـ-1995م، الجزء الخامس، ص335-336).
(11)
(الكامل في التاريخ، أبو الحسن عز الدين علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبدالكريم (ابن الأثير)، تحقيق: أبو الفداء عبدالله القاضي، دار الكتب العلمية، ط1 1407هـ-1987م، الجزء الثاني، ص55).
(12)
(دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، تخريج: عبدالمعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، ط1 1408هـ-1988م، الجزء الرابع، ص252-254).
(13)
(تاريخ خليفة بن خياط، خليفة بن خياط، تحقيق: أكرم ضياء العمري، دار طيبة، ط2 1405هـ-1985م، ص68).
(14)
(البداية والنهاية، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي، تحقيق: عبدالله بن عبدالمحسن التركي، دار هجر، ط1 1419هـ-1998م، الجزء الخامس، ص415).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق