الخميس، 8 أغسطس 2019

جني الفائدة لجمع ما تشابه من آي المائدة

بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله الذي أنزل كتابه هدى للمتقين، وأرسل رسوله بالحق ليظهر الدين ولو كره المشركون.
أما بعد، فقد وقفت على بعض المواضع التي تشابهت فيها آيات سورة المائدة، بعد أن وفقني الله عز وجل لحفظها ومراجعتها بين حين وآخر.
فرأيت أن أجمع هذه المواضع مستعينًا بالله عز وجل، وأنشرها في مجموع لطيف، لعل حافظًا يستعين به على تثبيت حفظه، أو متدبرًا يطالعه ليمعن في التدبر والتفكر.
هذا وإنني أعلم أن جهدي جهد المقل، وأن ما كتبته مجرد تكرار لجهود السابقين الذين بارك الله فيهم، ولكنني أحسب أنه عمل صالح يقرب إلى الله عز وجل وذخر باقٍ بعد الموت. 

رابط الرسالة:
https://archive.org/details/Obtaining_the_insight

البراء بن محمد
الرياض
مساء الخميس
1440/12/7هـ
2019/7/8م 

الاثنين، 25 فبراير 2019

كلمات شاب لم يمت بعد

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، اللهم صل وسلم على محمد وآله وأصحابه أجمعين. 
أما بعد، 
فإن عنوان المقال كاشف عن حاله، إذ أنها كلمات شاب ما زال ينمو ويكبر، وهو برغم ذلك يدرك أنه يقترب من الموت لحظة بعد لحظة. فيحاول أن يوقع كلماته موقع الصدق الذي يرجو من الله أن يفيضه عليه.
أرجو من الله أن تكون هذه الكلمات موعظة لي في حاضري ومستقبلي، ونافعة لغيري من الناس.
قال تعالى: ((يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء)) [إبراهيم/27]
اللهم اجعلنا من هؤلاء الموفقين المباركين!

مغفرة الله عز وجل
لست أطلب كثيرًا في هذه الحياة، هذا ما أشعر به الآن على الأقل. فقدت كثيرًا ورجوت كثيرًا، ولكن علمي بأن الله غفور رحيم هوّن علي بعض ما فقدته وزهدني في بعض ما ملكته. لقد تفضل الله تعالى علي بإبصار حقيقة خطيرة الشأن وهي أن ما فاتني من الدنيا يهون أمام مغفرة الله تعالى ورحمته، وأن ما اكتسبته منها لا يغني عني شيئًا إن لم يتغمدني الله برحمته ومغفرته وعفوه.
ولذلك فإنني أسأل الله أن يديم علي ستره ومغفرته، وأن يجعل الاستغفار سلواني وعزائي عند المصائب والبلايا.
قال تعالى: ((قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا إنه هو الغفور الرحيم)) [الزمر/53] 

بهجة قتلها الكسل 
"أن تصل متأخرًا خير من أن لا تصل" وأن يوفقك الله لتصل مبكرًا خيرٌ منهما! 
ضرر الكسل ظاهر، وهو قتل الهمة، وإماتة الروح، وإعجاز تحقيق الإنجاز. هذه المشاهد القبيحة تتمثل للعاقل فتنفض عنه كل وسن يعتريه عند السير، وتحمله على احتقار الصوارف التي تعيقه عن إدراك غايته التي يرنو إليها. 
لكن للكسل مرارة أخرى لا تقل عن مرارة عواقبه السيئة. ألا وهي الكدر الذي يعتري المرء عند وصوله أخيرًا لما كان يصبو إليه. إنها غصة التأخر عمن سبقه من أقرانه الذين جدوا واجتهدوا. وهي دين ثقيل يبقى في ذمة الكسلان فيتأخر قضاؤه إلى لحظة النهاية. 
وقد عشت مرارة الكسل حين ألفت كتابي ثم نشرته بعد أربعة أعوام منذ التخطيط لذلك. وعشتها مرة أخرى عندما تخرجت من الجامعة بعد أقراني بعامين إلا قليلًا. 

عزلة عن الدنيا واتصال بالآخرة 
أكل وشراب، سمر وأصحاب، مال ومناصب، أحدث التقنيات والسيارات، والعديد من الملذات التي تحجب الإنسان عن رؤية حقيقته وإبصار حقيقة الدنيا التي يلعب فيها كثيرًا قبل أن تتخطفه يد المنية. 
ماذا لو انفصلنا قليلًا عن هذه الواقع المضطرب وحاولنا أن ندرك بعض الحقائق التي غبنا عنها؟ ماذا لو أتبع الواحد منا سؤال "ثم ماذا؟" بعد كل حلم دنيوي يرجو تحقيقه؟
فلنحاول فعل ذلك، لعلنا ندرك ضعفنا وعجزنا عن الصمود والخلود. هل كان ذلك المال الذي لهثنا خلفه غاية الغايات؟ ((وهل لك، يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت)) [رواه مسلم].
سنموت قطعًا، وننضم إلى ركب الهالكين. وليست تلك الحفرة التي ستؤوي عظامنا آخر محطة في حياتنا القصيرة. بل -هي على خلاف ذلك- بدايةٌ لفصل جديد نُسأل فيه عن كل شيء ثم الخلود في رحمة الله أو عذابه الشديد.
ربما ندرك حينها أن انتشال أنفسنا من مستنقع الدنيا يتطلب يسيرًا من الوقت الذي يستحق أن يصرف في الاشتغال بعمارة آخرتنا.
قال تعالى: ((كلا بل تحبون العاجلة * وتذرون الآخرة)) [القيامة/20-21]
قال تعالى: ((بل تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خير وأبقى)) [الأعلى/16-17]

ليتني سكتُّ! 
"وفي اللسان آفتان عظيمتان، إن خلص من إحداهما لم يخلص من الأخرى: آفة الكلام، وآفة السكوت. وقد يكون كل منهما أعظم إثمًا من الأخرى في وقتها"
ابن القيم
ما من مزيد يقال بعد قول ابن القيم رحمه الله، وقد قرأته أول مرة فشعرت بحسرة كبيرة، لأن أكثر ما جنى علي هو لساني الذي أطلقت عنانه بلا رقيب!

كن مظلومًا ولا تكن ظالمًا
قد يعن لأحدنا أن يظلم غيره عندما يدرك تفوقه عليه في مال وسلطان وعلم، يرى قوته وقدرته فيتوهم دوامهما، وبقاء سلطته على الآخرين. ولو اختلى بنفسه قليلًا لأدرك أنه كان خلوًا من وسائل القوة يومًا، ثم اكتسبها بفضل الله لا بجده واجتهاده، وأنها منزوعة منه لا محالة، إما بصيرورته إلى الذل والمسكنة، أو بهلاكه وانقطاع شره.
"وما من يد إلا يد الله فوقها *** ولا ظالم إلا سيبلى بظالم"
قد أظلم غيري من الناس بتأويل باطل وأتوهم أن ذلك كافٍ لرفع تهمة الظلم عني. ولكن ذكرى الآخرة، والاعتبار بمصائر الظلمة الذين فاقوني في قوتهم وجبروتهم؛ يكسر غرور النفس وطغيانها. فإن نظرت في حالي وجدت أنني مخلوق مسكين عاجز. وكيف للعاجز أن يتكبر؟ وكيف للمسكين أن يطغى؟ ولكنه داء الغرور الذي يمرض الروح فيعميها عن إبصار الحقائق الجلية.
تعددت المواقف التي ظلمت فيها الناس بتسرعي، ولكن سرعان ما غشتني ظلمة الظلم، فكانت ثقيلة على قلبي ووجداني. كلما جئت أحدهم معتذرًا عن ظلمي وخطئي استشعرت الذل الذي سببته لنفسي. وتمنيت أن أكون مظلومًا لا ظالمًا، لعلي أنال شيئًا من ثواب الله عز وجل لمن يعفو ويصفح! 
إن ما يعتري المظلوم من حرقة وألم بسبب ظلمه لهو أهون بكثير من نشوة الظالم التي سرعان ما تزول بمجرد تحقق نهايته القبيحة.
قال تعالى: ((وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون)) [الشعراء/227]

ليست إرادة الإنسان كل شيء
لطالما حدثت نفسي أن عجز الإنسان عن تحقيق غايات الكمال راجع إلى ضعف إرادته وخسة همته، وهذا النقص سابق على تلك العوائق التي تعترض الطريق. فأهل النفاق تاركو الجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا في ريب وشك بالله وموعوده فجزعوا وعجزوا عن الصبر على مشقات البذل لله تعالى والتي هي  أحقر من أن تقارن بثواب الله سبحانه وأجره الجزيل.
ولكنني غفلت عن ملمح مهم، وهو أنه لا أثر للإنسان بغير اجتماع إرادته وقدرته معًا، فالإرادة وحدها لا تكفي بالغرض، والقدرة وحدها لا تفي بالمأمول. وما الإنسان سوى مخلوق ضعيف يستمد قوته وهمته من الله عز وجل؛ فلا توفيق له إلا بما يفيضه الرب سبحانه عليه. فإن وكله الله إلى نفسه وجدت الخذلان العظيم والذل الكبير.
بل حتى هذه الإرادة القوية -التي نتوهمها فينا- يعتورها الضعف والخور أحيانًا، فتجد الواحد منا نشيطًا مقتدرًا على فعل أمر ما في بداياته، ثم يصيبه الملل والكلل والخمول والكسل فيعجز عن فعل أقل القليل الذي يشعره بالإنجاز والفخر. ورضي الله عن علي بن أبي طالب حيث قال -فيما ينسب إليه-: "عرفت الله سبحانه، بفسخ العزائم، وحل العقود، ونقض الهمم".
قال تعالى: ((وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين)) [التكوير/29]

ضريبة العيش مع الآخرين 
الإنسان مدني بطبعه كما قيل، وعلاقاتنا بالناس تبلي احتياجات عظيمة تواجهنا كل يوم. وهذه العلاقات فيها الغنم والغرم، والمكسب والخسارة، "فيومٌ علينا ويومٌ لنا *** ويومٌ نُساء ويومٌ نُسر"
ولذا فإن أخطر ما يقتل هذه العلاقات هو الأنانية والرغبة في التفرد بكل المنافع مع الانكفاف التام عن البذل والتضحية. إذ أن المصالح فيها مشتركة، فلا تنال هذه المصالح إلا بمغالبة وقهر (وقد يتضمن ذلك الظلم والطغيان وله عواقب وخيمة) أو بمسامحة وفضل أو مناصفة وعدل.
(الرحم والقرابة - النكاح - الصداقة) كل هذه الدوائر الاجتماعية تتطلب منا تضحية كبيرة للفوز بلذاذاتها والتمتع بها.
وترددنا لخوض هذه العلاقات أو تعميقها راجع لضعف إدراكنا للحقيقة السابقة. يريد الواحد منا أن ينال كل شيء بلا شيء تقريبًا!
وإنني أعزو بعض ضعفي الاجتماعي لعدم العمل بهذه المعرفة المهمة.

خصيم مبين 
ما أسهل أن يطلب الواحد لنفسه منزلة الفضل أو العدل عندما تكون في مصلحته، وما أسهل أن ينتقل إلى دركة الظلم والطغيان عندما يرى أن مصلحته القريبة تتحقق بذلك.
وفّني حقي من الميزان، وسأبخسك حقك منه وأبالغ في تطففيه! هذا هو لسان حالنا في أكثر الأحيان.
عندما كتبت عن مشروع التخرج للمرة الأولى؛ كتبته بروح مكروب انتصر في معركة طويلة الأمد. وقد كنت محقًا في بعض ذلك. إلا أنني لما رجعت لما كتبته بعد برهة من الزمان، أدركت أنني قد بالغت في ذم بعض الدكاترة لأنهم شددوا علي ولم يعاملوني كما أتوقع منهم ذلك. ولو أردت أن أنصفهم وأنصف نفسي معهم، لرأيت أن ما حدث لي منهم كان معاكسًا لتأخري وتهاوني في أداء واجبي. لقد أهملت مشروع التخرج حتى اللحظات الأخيرة ثم عدت أستجديهم ليقبلوه. فالأمر إذن في أحسن الأحوال متكافئ وقريب. وقد اعتذرت عما كتبته بعد حين من الزمان واستغفرت لي ولهم.
إدراك المرء لأخطائه وتقصيره مع ربه تعالى ونفسه والناس يدفعه للنظر في علاقاته مع الناس بزاوية أخرى. عسى أن يعدل معهم، ويرتقي قليلًا فيعاملهم بالحسنى، ويتجاوز عن أخطائهم، ويرفق بهم، وينصفهم في خصومته.

عجول بائس
لا أستطيع الجزم بأنني أصدق الناس سريرة، لأن نزوات الخسة والدناءة تهيمن علي أحيانًا كما يحصل لكثير من الناس، فتقودني لما لا تحمد عقباه.
ولكنني أعرف من نفسي بعض الصدق والخير الذي يفسده التسرع في الحكم على الناس والأفكار. نعم، لقد ارتكبت سخيف الأخطاء التي يحجم عنها العقلاء بأدنى تفكير. وما ذاك إلا تسرعي وعجلتي.
أرى أثر عجلتي في تناقضاتي ومواقفي المخزية، فأشك بعقلي وحكمتي. ليس أقبح من إدراك التناقض إلا شعور الغباء العارم الذي يتبعه. لقد كنت مقتدرًا على حجز نفسي عن موارد الردى، فما الذي حدث؟
قال تعالى: ((وكان الإنسان عجولًا)) [الإسراء/11]

هل هو التغلي أم التخلي؟ 
يتعذر اختزال العلاقات البشرية في سؤال حاصر كهذا. إلا أنه مرح بما يكفي لطرحه والتفكير فيه. 
ما الذي يدفع فلانًا من الناس للصد عن الرد؟ هل تعاظمت قيمته في نفسه حتى يستهين بمجالستنا والحديث إلينا؟ أم أنه ظن علاقتنا معه من سقط المتاع الذي لا يكترث لسقوطه منه أو وجوده معه؟  
ولأن حسن الظن واجب بالمسلمين، فقد يكون الجواب خارجًا عن حد السؤال أصلًا. فلعله التولي عن الشر والتحلي بالخير. ولعله التسلي بما يشغل الذهن عن عبء الصداقة والمودة.
"أتراها تناست اسمي لما *** كثرت في غرامها الأسماء"
"غابت عن عيوني وفي عيوني سؤال *** اللي حصل منها جفا ولا دلال"
 
أزفت الحقيقة! 
"يمثل ذو اللب في نفسه *** مصائبه قبل أن تنزلا"
تركض بنا الأيام عجلى فتقربنا إلى حقائق لم نحسب لها حسابًا، ولم نعمل لاتقاء شرها شيئًا. 
والعاقل وافر العقل هو من يستبق الزمان، فيستعد لآخرته بالعمل الصالح، ويتقي شرور الدنيا بأخذ الحيطة وترك المغامرة فيما لا طائل خلفه، ويحفظ ما بقي من وقته وجهده وماله لمدلهمات الزمان. 
إنني أعرف أن موعد الاختبار بعد شهر أو شهرين، لكن هذه المعرفة لا تستفز نفسي للعمل والتحرك، لا يستفزها إلا الأسبوع الأخير، الليلة التي تسبق الاختبار، الساعات التي ينتهك العقل الكسول فيها بلا رحمة. 
ورغم أن استباق الأحداث بالعمل والتخطيط يخفف من وقعها علينا، ويكون يسيرًا، إلا أننا نتكاسل عنه لفرط ثقتنا بثبات إرادتنا وقدرتنا على مقاومة الظروف السيئة.
كنت أعرف أنني سأغادر الأراضي الماليزية قريبًا بعد أن أمضيت خمس عمري فيها. ولكن معرفتي هذه قد امتزجت بالشوق والتردد، والتقدير والامتنان لكل لحظات الماضي عندما أزف موعد الرحيل. 
وبهذه المناسبة، فإنني أرجو من الله أن يوفقني للاستعداد للموت، والإقبال إليه بطمأنينة. أرجو أن أستشعر قربه دون أن أجزع أو أخاف. إنني -برغم تقصيري وتفريطي في جنب الله- على أمل أن ألقى الله سبحانه وتعالى بعمل صالح وخاتمة حسنة. 

البراء بن محمد
الاثنين
1440/6/20هـ
2019/2/25م

الخميس، 13 ديسمبر 2018

من شجعان المنافقين

بسم الله الرحمن الرحيم 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه الأمين، وآله وصحبه أجمعين. 
أما بعد، فلما كنت أطالع بعضًا من تفسير شيخ المفسرين محمد بن جرير الطبري رحمه الله، وجدته قد أشار إلى قزمان، أحد المنافقين ممن "لا تنكر شجاعته، ولا تدفع بسالته" فهو "الذي لم يقم مقامه أحد من المؤمنين يوم أحد" (1). 
ولا شك أن وصف منافقٍ بالشجاعة والبسالة مما يثير الانتباه والاهتمام، كيف لا والمعهود عن المنافقين الكذب والجبن والتخذيل عن طاعة الله سبحانه وتعالى، وبالأخص الجهاد في سبيله. 
غير أن لابن جرير رحمه الله تفسيرًا مهمًا لخذلان المنافقين النبي صلى الله عليه وسلم في غزواته حيث يقول:
"وإنما كانت كراهتهم شهود المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركهم معاونته على أعدائه؛ لأنهم لم يكونوا في أديانهم مستبصرين، ولا برسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقين، فكانوا للحضور معه مشاهده كارهين، إلا بالتخذيل عنه" (2).
وعلى كل حال، فقد رجعت إلى كثير من المصادر التاريخية، لمعرفة حقيقة قزمان هذا، والنظر إلى شجاعته التي أثارت اهتمام الطبري رحمه الله. 
ثم اعتزمت نشر ما جمعته من نقول وإحالات، وفيها من التفاصيل والاختلافات ما يلفت النظر. 
الجدير بالذكر أنه قد جاء في الصحيحين خبر قاتل نفسه الذي أبلى بلاء حسنًا في القتال حتى استبشر الناس به خيرًا. ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أهل النار، وقد أزهق روحه بنفسه جزعًا. إلا أن هذا الخبر لا يتضمن النص على اسمه. 
وهذه القصة فيها عبرة ظاهرة تحمل العاقل على أن يسأل الله الإخلاص والثبات. 
-
الواقدي
"وكان قزمان من المنافقين وكان قد تخلف عن أحد فلما أصبح ، عيره نساء بني ظفر فقلن : يا قزمان قد خرج الرجال وبقيت يا قزمان . لا تستحي مما صنعت . ما أنت إلا امرأة خرج قومك فبقيت في الدار فأحفظنه . فدخل بيته فأخرج قوسه وجعبته وسيفه ، وكان يعرف بالشجاعة ، فخرج يعدو حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسوي صفوف المسلمين فجاء من خلف الصفوف حتى انتهى إلى الصف الأول فكان فيه . وكان أول من رمى بسهم من المسلمين ، فجعل يرسل نبالا كأنها الرماح ، وأنه ليكت كتيت الجمل ، ثم صار إلى السيف ففعل الأفاعيل ، حتى إذا كان آخر ذلك قتل نفسه . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكره قال : من أهل النار فلما انكشف المسلمون كسر جفن سيفه وجعل يقول : الموت أحسن من الفرار . يا آل الأوس قاتلوا على الأحساب واصنعوا مثل ما أصنع . قال : فيدخل بالسيف وسط المشركين حتى يقال قد قتل ، ثم يطلع ويقول : أنا الغلام الظفري ، حتى قتل منهم سبعة . وأصابته الجراحة وكثرت به فوقع فمر به قتادة بن النعمان فقال : أبا العيداق قال : باليتك* قال : هنيا لك الشهادة . قال قزمان: إني والله ما قاتلت يا أبا عمرو على دين. ما قاتلت إلا على الحفاظ أن يسير قريش الينا حتى يطأ سفعنا . فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم جراحته فقال ((من أهل النار)) فاندبته الجراحة فقتل نفسه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر))" (3).
* كذا في الأصل ولعلها يا لبيك
وقال في موضع آخر:
"قالوا: وكان قزمان عديدا في بني ظفر ، لا يدرى ممن هو . وكان لهم حائطا محبا ، وكان مقلا لا ولد له ولا زوجة ، وكان شجاعا يعرف بذلك في حروبهم تلك التي كانت تكون بينهم ، فشهد أحد فقاتل قتالا شديدا فقتل ستة أو سبعة وأصابته الجراح . فقيل للنبي عليه السلام : قزمان قد أصابته الجراح . فهو شهيد . قال : من أهل النار . فأتى* إلى قزمان فقيل له : هنيئا لك يا أبا الغيادق الشهادة . قال : بم تبشرون والله ما قاتلنا إلا على الأحساب . قالوا : بشرناك بالجنة قال : جنة من حرمل والله ما قاتلنا على جنة ولا نار ، إنما قاتلنا على أحسابنا . فأخرج سهما من كنانته فجعل يتوجأ به نفسه ، فلما أبطأ عليه المشقص ، أخذ السيف فاتكأ عليه حتى خرج من ظهره . فذكر ذلك للنبي عليه السلام قال : (( من أهل النار ))" (4).
* كذا في الأصل ولعلها فأتي 
وقد نقل ابن الجوزي قصة قزمان من الواقدي وجزم أنه المقصود في حديث الصحيحين (5)، إلا أن ابن حجر تعقبه (6).
-
ابن هشام
"وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، قال: كان فينا رجل أتي لا يدرى ممن هو، يقال له: قزمان، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا ذكر له: ((إنه لمن أهل النار))، قال: فلما كان يوم أحد قاتل قتالًا شديداً . فقتل وحده سبعة أو ثمانية من المشركين، وكان ذا بأس فأثبتته الجراحة. فاحتمل إلى دار بني ظفر، قال: فجعل رجال من المسلمين يقولون له: والله لقد أبليت اليوم يا قزمان، فأبشر، قال: بماذا أبشر؟ فوالله إن قاتلت إلا عن أحساب قومي، ولولا ذلك ما قاتلت. قال: فلما اشتدت عليه جراحته أخذ سهماً من كنانته، فقتل به نفسه." (7).
-
الطبري 
"حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة قال : حدثني محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، قال : كان فينا رجل أتيٌ لا يدرى من أين هو ، يقال له قزمان ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا ذكر له: إنه لمن أهل النار ؛ فلما كان يوم أحد ؛ قاتل قتالًا شديدًا ، فقتل وحده ثمانية من المشركين أو تسعة ؛ وكان شهمًا شجاعًا ذا بأس ؛ فأثبتته الجراحة ، فاحتمل إلى دار بني ظفر . قال : فجعل رجال من المسلمين يقولون : والله لقد أبليت اليوم يا قزمان ؛ فأبشر ! قال : بم أبشر ! فوالله إن قاتلت إلا على أحساب قومي ؛ ولولا ذلك ما قاتلت ؛ فلما اشتدت عليه جراحته ، أخذ سهمًا من كنانته فقطع رواهشه فنزفه الدم فمات ؛ فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أشهد أني رسول الله حقًا !" (8).
-
ابن عبدالبر
"وكان في بني ظفر رجل لا يدرى ممن هو يقال له قزمان أبلى يوم أحد بلاءً شديدا ، وقتل يؤمئذ سبعة من وجوه المشركين ، وأثبت جراحا ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمره ، فقال : هو من أهل النار . وقيل لقزمان : أبشر بالجنة ، فقال : بماذا ؟ وما قاتلت إلا عن أحساب قومي . ثم لما اشتد عليه ألم الجراح أخرج سهما من كنانته ، فقطع به بعض عروقه ، فجرى دمه حتى مات" (9).
-
ابن حجر
"قزمان بن الحارث، حليف بني ظفر صاحب القصة يوم أحد .
قيل: مات كافراً فإن في بعض طريق قصته أنه صرح بالكفر، وهذا مبني على أن القصة وقعت لواحد. وقيل: إنها تعددت.
قال ابن قتيبة في ((المعارف)) : قتل نفسه، وكان منافقاً، وفيه قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر)).
وذكر ابن إسحاق والواقدي قصته، وأنه كان عزيزاً في بني ظفر، وكان لا يدري من أين أصله.
قال الواقدي: وكان حافظاً لبني ظفر، ومحبا لهم، وكان مقلا لا ولد له ولا زوجة، وكان شجاعاً يعرف بذلك في حروبهم التي كانت بين الأوس والخزرج، فلما كان يوم أحد قاتل قتالاً شديداً، فقتل ستة أو سبعة حتى أصابته الجراحة، فقيل له: هنيئاً لك بالجنة يا أبا الغيداق. قال: جنة من حرمل، والله ما قاتلنا إلا على الأحساب.
وقيل: إنه قتل نفسه. وقيل: بل مات من الجراح، ولم يقتل نفسه.
وفي صحيح البخاري من رواية أبي حازم، عن سهل بن سعد- أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم التقى هو والمشركون ... فذكر الحديث، وفيه: وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجل لا يدع شاذة ولا فاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه، فقالوا: ما أجزأ عنا أحد كما أجزأ فلان. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أما إنه من أهل النار)). فقال رجل من القوم: أنا أصاحبه، فخرج معه، قال: فجرح جرحاً شديداً فاستعجل الموت، فوضع نصل سيفه بالأرض، ثم تحامل على سيفه، فقتل نفسه.. الحديث؛ وفي آخره: ((إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار." (10).
-
على الهامش:
1- تصفحت سيرة ابن إسحاق ودلائل النبوة للبيهقي وكذلك أسد الغابة لابن الأثير سريعًا فلم أجد ذكرًا لخبر قزمان، على أن ابن الأثير نقل خبر قزمان في تاريخه (11) كما أن البيهقي نقل خبر الصحيحين في باب غزوة خيبر (12).
2- ذكر خليفة بن خياط بعض من قتلهم قزمان فقال: "وكلاب بن طلحة والحارث بن طلحة قتلهما قزمان حليف بني ظفر" "وأبو يزيد بن عمير بن عبدمناف بن عبدالدار قتله قزمان ، وصؤاب —عبد لهم حبشي— قتله قزمان" (13).
3- ذكر ابن كثير في تاريخه القصة بنحو ما ذكره الطبري (14).
-
والله أعلم وأحكم
ليلة الجمعة 1440/4/7هـ
2018/12/14م 
(1)
(جامع البيان عن تأويل آي القرآن، أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، تحقيق: عبدالله بن عبدالمحسن التركي، دار هجر، ط1 1422هـ-2001م، الجزء الأول، ص377).
(2)
(جامع البيان عن تأويل آي القرآن، أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، تحقيق: عبدالله بن عبدالمحسن التركي، دار هجر، ط1 1422هـ-2001م، الجزء الأول، ص377).
(3)
(مغازي رسول الله، أبو عبدالله محمد بن عمر الواقدي، ط1 1367هـ-1948م، ص174-175).
(4)
(مغازي رسول الله، أبو عبدالله محمد بن عمر الواقدي، ط1 1367هـ-1948م، ص205-206).
(5)
(كشف المشكل من حديث الصحيحين، أبو الفرج عبدالرحمن [بن علي] بن الجوزي، تحقيق: علي حسين البواب، دار الوطن، ط1 1418هـ-1997م، الجزء الثاني، ص272-273).
(6)
(فتح الباري بشرح صحيح الإمام أبي عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، إخراج: محب الدين الخطيب، المكتبة السلفية، الجزء السابع، ص472).
(7)
(السيرة النبوية، [أبو محمد عبدالملك] بن هشام، تخريج: عمر عبدالسلام تدمري، دار الكتاب العربي، ط3 1410هـ-1990م، الجزء الثالث، ص51).
(8)
(تاريخ الرسل والملوك، أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، ط2 1968م، الجزء الثاني، ص531).
(9)
(الدرر في اختصار المغازي والسير، يوسف بن عبدالبر النمري، تحقيق: شوقي ضيف، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، ط 1386هـ-1966م، ص161).
(10)
(الإصابة في تمييز الصحابة، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تحقيق: عادل أحمد عبدالموجود وعلي محمد معوض، دار الكتب العلمية، ط1 1415هـ-1995م، الجزء الخامس، ص335-336).
(11)
(الكامل في التاريخ، أبو الحسن عز الدين علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبدالكريم (ابن الأثير)، تحقيق: أبو الفداء عبدالله القاضي، دار الكتب العلمية، ط1 1407هـ-1987م، الجزء الثاني، ص55).
(12)
(دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، تخريج: عبدالمعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، ط1 1408هـ-1988م، الجزء الرابع، ص252-254).
(13)
(تاريخ خليفة بن خياط، خليفة بن خياط، تحقيق: أكرم ضياء العمري، دار طيبة، ط2 1405هـ-1985م، ص68).
(14)
(البداية والنهاية، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي، تحقيق: عبدالله بن عبدالمحسن التركي، دار هجر، ط1 1419هـ-1998م، الجزء الخامس، ص415).

الثلاثاء، 16 أكتوبر 2018

البراء بن محمد مؤلفًا (إصدار كتاب انتظار لن ينتهي)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء المرسلين، وآله وصحبه أجمعين. 
أما بعد، 
فإن مشاعر الفرح والفخر تتجدد في هذا اليوم المبارك، وهو الذكرى الأولى لإصدار كتابي (خمسون كلمة). 
ولأن وقع الذكرى على نفسي عظيم بالغ الأثر، فقد قررت أن أحتفل بها احتفالًا استثنائيًا يليق بذلك الحدث الجميل. 
وأصدرت النسخة الثانية من الكتاب بعنوان مختلف وهو (انتظار لن ينتهي وخمسون كلمة أخرى).
راجيًا من الله أن يقبل عملي هذا، ويطرح فيه البركة، ويشيع ما فيه من علم بين الناس. 
والحمد لله أولًا وآخرًا. 

رابط الكتاب: 

رابط ثانٍ للكتاب:


والله أعلم وأحكم. 

البراء بن محمد 
ماليزيا
الثلاثاء 1440/2/7هـ - 2018/10/16م 

الجمعة، 27 أبريل 2018

دعوة صالحة تحيي أملًا

بسم الله الرحمن الرحيم 
الحمد لله رب العالمين 
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم
اللهم ارض عن الصحابة الكرام، واجمعنا معهم في أعالي الجنان
أما بعد، 
فهذه خاطرة مقتضبة تعبّر عن مكنونٍ في النفس. قد تطاول عليه الدهر كثيرًا حتى كاد ينسى لولا مشيئة الله ورحمته ولطفه التي اقتضت أن يخرج من ذلك الركام المظلم. 
-
رحم الله جدتي أم والدي وأعلى منزلتها في الجنة. 
ليس خبر وفاتها -يغفر الله لها- بجديدٍ علي، فقد عايشته منذ ما يربو على أكثر من عامين، وبكيتها كثيرًا وقتها، وتمنيت أن أكون بقربها لولا حيلولة البحار والمحيطات، وبعد الأراضي وسعة المساحات. 
لقد تذكرتها أخيرًا، ويا لجمال الذكرى التي ترتبط بالخير والإحسان! 
ها أنا أستحضر خيالها، وأحاول استذكار صوتها الهادئ، ودعواتها الصالحة المباركة. 
لقد كان من تقصيري تجاهها -والله المستعان- أنني لم أسع إلى تعلم رطانتها التي كانت تخفى علي كثيرًا، لوجود أحفادها البررة الذين يعرفون شؤونها ويعتنون بها، ويتواصلون معها دومًا. فيترجمون لي ما خفي واحتجت لمعرفته. 
والمهم هنا، ذلك الموقف الجميل الذي تكرر وتقرر في الوجدان حتى انقطع من الواقع، ورحل تاركًا خلفه روعة الآثار، والخير العظيم. 
كانت جدتي رحمها الله وغفر لها تدعو لي كأي جدة تحب حفيدها وترجو له الخير، ولكن دعوتها كانت متفردة ومختلفة كتفردها وتميزها. 
كانت رحمها الله تدعو لي بحفظ القرآن! 
استحضار كتاب الله وكلامه في الصدر؛ إنها منقبة عظيمة لا أعرف أحدًا تمناها لي بصدق بعد والديّ الكريمين -أطال الله عمرهما في طاعته ورزقني برهما- غير جدتي. كيف لا وهي قد فرحت كثيرًا -فيما بلغني- عندما كنت إمامًا مؤقتًا لمسجد صغير. 
لقد انتقلت إلى رحمة الله قبل أن تتحقق هذه الأمنية العظيمة، وكم أدركت هول تفريطي بعد أن رحلت مني. 
اللهم اغفر لي وارحمني وأعني على حفظ كتابك وضبطه واستحضاره.
عادت بي الذكرى في تلك اللحظة العابرة إلى هذه الدعوة المباركة التي تكررت علي سنين كثيرة، فعلمت أنها دعوة صالحة تحيي أملًا، وترفع همة، وتكون نهضة لحياة، ونجاحًا عظيمًا. 
لئن كان في العمر بقية، وفي النفس طاقة، وفي القلب ثبات وعزيمة، لأحققن أمنية جدتي رحمها الله، فهي بركة ما بعدها بركة. 
وإلا، فلا أقل من الموت في طلب المحمدة والشرف من الله سبحانه وتعالى، والسعي لمرضاته ومحبته. 
اللهم ثبتني على دينك العظيم، وارحمني برحمتك. 
-
البراء بن محمد
في ليل الجمعة 
1439/8/11هـ
2018/4/27م 



الأحد، 15 أبريل 2018

مسودة الوصية الأخيرة

بسم الله الرحمن الرحيم
-
"كل امرئ مصبح في أهله *** والموت أدنى من شراك نعله" أبو بكر الصديق رضي الله عنه
-
الحمد لله رب العالمين. 
اللهم صل وسلم على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد،
فإن الاستعداد لملاقاة الله عز وجل يقتضي التخفف من الدنيا، وتذكر الآخرة، والاعتبار بقرب الأجل، وترك طول الأمل، وإحسان الظن بالله. وآفات الدنيا كثيرة، منها: المرض، والفقر، وفقد الأحبة، والتغرب عن الديار، والظلم. وليس للدنيا قرار، فهي زائلة متقلبة مليئة بالابتلاءات والعجائب. وليس واحدٌ منا خلوًا من ذلك كله. والله يسترنا بجميل عفوه ومغفرته.
واستشعارًا مني لكل ذلك، عزمت على كتابة مسودة لوصيتي الأخيرة، لا لمرض قاهر، أو يأس ظاهر، أو محبة للموت. ولكنني تعلمت من تجاربي القليلة أن استعجال ما يقدر عليه الإنسان من الخير أولى من تأجيله زمانًا غير محدود.
وما زلت أذكر ذلك العبد الصالح -أحسبه كذلك والله حسيبه- ف. ع. الذي أوصانا ذات يوم بكتابة وصايانا الأخيرة، ومطالعة نماذجها في النت. بل أكاد أجزم أن هذه النصيحة من أحسن نصائحه -غفر الله له ورحمه إن كان ميتًا وحفظه وبارك في عمره إن كان حيًا-.
وقد أحببت أن أكتب مسودة الوصية لأتمسك بها مستعينًا بالله وحده، عملًا بنصيحة هذا الطيب المبارك، وعزمًا على إنفاذ ما أقدر عليه. وهي وصية عامة لمن يقرأها من المسلمين. وفيها قصور بطبيعة جهلي وقلة خبرتي، ولكن أسأل الله أن يعينني على تجاوزه، ويغفر لي ويرحمني. 
اللهم يسر وأعن. 
وما توفيقي إلا بالله. 
-
من البراء بن محمد إلى من يقرأ كلماته من المسلمين، 
فهذه وصايا عامة وخاصة، كتبتها عفو الخاطر، تحت إلحاح الحاجة النفسية، والعزم على إنفاذ ما أستطيع فعله. أسأل الله أن ينفع بها ويجعل فيها خيرًا كثيرًا. 
-
الوصايا العامة
1- أوصيك ونفسي بتقوى الله فهي خير الزاد في هذه الحياة، وهي مما يضمن لوجودك القيمة التي خلقك الله لأجلها، وهي عبادته وحده سبحانه وتعالى.
يقول تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)).
2- حافظ على دينك الذي ارتضاه الله لك، فهو دليل خيريتك في الدنيا، وهو أغلى ما تملكه. واعتبر في ذلك وصية خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام. 
يقول تعالى: ((يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون)).
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "أي: أحسنوا في حال الحياة والزموا هذا ليرزقكم الله الوفاة عليه. فإن المرء يموت غالبا على ما كان عليه، ويبعث على ما مات عليه. وقد أجرى الله الكريم عادته بأن من قصد الخير وفق له ويسر عليه. ومن نوى صالحا ثبت عليه. " اهـ
3- اعتبر دأب العقلاء الذين صيّروا الدنيا ممرًا للآخرة، واحذر طريقة السفهاء الظالمين الذين عكسوا الآية، فآثروا الباقي على الفاني. 
"ولم تخلق لتعمرها ولكن *** لتعبرها فجد لما خلقتا" 
4- التزم صلاة الجماعة، ففيها الأجر الكثير، وهي عنوان مسارعتك على الخيرات، وهي مؤشر على عنايتك بوقتك.
وفي الحديث الصحيح: ((لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه)).
واعتبر وصف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لنبينا صلى الله عليه وسلم حيث قالت: ((كان يكون في مهنة أهله تعني خدمة أهله فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة)).
5- يوم يمضي عليك بلا آيات تتلوها من القرآن هو يوم ضائع وخاسر. فتدارك ما بقي من عمرك.
وفي الحديث الصحيح: ((اقرؤوا القرآن فإنه يأتي شفيعًا لأصحابه يوم القيامة)). 
6- تعلم العلم الشرعي ابتغاء مرضاة الله عز وجل، وتذكر أنه يحررك من براثن الجهل والضلال والغي. واعلم أن الهداية من الله، وأن سبيلها في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. واستحضر أن ضلال الكافرين وخسرانهم راجعٌ إلى إعراضهم عن آيات الله وغفلتهم عنها. 
قال تعالى: ((إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)).
يقول الإمام الطبري رحمه الله: "يقول تعالى ذكره : إن هذا القرآن الذي أنزلناه على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يرشد ويسدد من اهتدى به ( للتي هي أقوم ) يقول : للسبيل التي هي أقوم من غيرها من السبل، وذلك دين الله الذي بعث به أنبياءه وهو الإسلام".
7- اقرأ قسطًا من السنة النبوية كل يوم، ولا تحرم نفسك منها.
قال سبحانه: ((لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)).
8- طالع سير الأنبياء عليهم السلام، وأتباعهم المتقين، وتعلم منها. فهم خير قدوة.
"فكل خير في اتباع من سلف *** وكل شر في ابتداع من خلف"
9- فر من الشهرة وحب الظهور كما تفر من الأمراض والمصائب.
قال صلى الله عليه وسلم: ((ما من ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)). 
10- بر الوالدين باب خير عظيم.
قال تعالى: ((وبالوالدين إحسانًا)).
11- أعز نفسك بالصبر. 
قال صلى الله عليه وسلم: ((وما أعطي أحد من عطاء خير وأوسع من الصبر)).
12- "عش عزيزًا أو مت وأنت كريم *** بين طعن القنا وخفق البنود"
13- "فإما حياة تسر الصديق *** وإما ممات يغيظ العدا" 
14- استر خطاياك وذنوبك. 
15- تذكر الموت بين حين وحين. وليّن قلبك القاسي باستحضاره وقربه. 
16- من استهان بالثانية، فقد ضيع الدقيقة. ومن استهان بالدقيقة، ضيع الساعة. ومن ضيع الساعة ضيع يومه وشهره وسنته وعمره كله -عياذًا بالله-. 
"دقات قلب المرء قائلة له *** إن الحياة دقائق وثواني"
17- حدّث نفسك بالجهاد في سبيل الله، فالله يحب من يقاتلون في سبيله. 
قال جل في علاه: ((إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا كأنهم بنيان مرصوص)). 
18- احفظ فرجك فالشهوات مفتاح الشرور كلها. 
قال صلى الله عليه وسلم: ((حفت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره)). 
19- استعن بالصبر والصلاة. 
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة)).
وقال تعالى مخاطبًا المؤمنين: ((واستعينوا بالصبر والصلاة)).
20- تجنب مؤازرة الظالمين وموالاتهم لئلا يعذبك الله بذلك. 
قال تعالى: ((ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار)).
ولئلا أستكثر من حجج الله علي، فقد أحببت أن أقف هنا مقتصرًا على ما استحضرته آنفًا واستشعرته وأحسست بنفعه وأهميته. والترتيب غير مقصود.
-
الوصايا الشخصية 
وهي مستمدة من تجاربي الشخصية المحدودة وممن استفدت منهم كثيرًا كوالدي حفظه الله. 
1- إياك والقراءة العشوائية (وصية والدي). 
وقد عشت وتذوقت ما لا أحصي من المر والشقاء بسبب مخالفة هذه الوصية المهمة. فذلك النهم المعرفي الذي كنت أشعر به لم يكن ليعينني في حياتي العملية التي لا تكترث بآخر ما قرأته وكتبته. 
فالقراءة وسيلة وليست غاية، وهي للعلم النافع لا لاستكثار المعرفة لغير هدف. 
2- قلل من الكتابة (وصية والدي).
فهناك من خبرات الدنيا ما ينتظر الاكتشاف، وليست معرفتها محصورة في المداد والورق.
3- قد تتأخر، ولكن الأذان لن يتأخر (أحد المؤذنين).
4- لا تقطع التلاوة قبل أن تنهي الآية التي تقرأها (الشيخ إبراهيم البشر).
5- لا تتطلع إلى نهاية السورة أثناء القراءة (أحد معلمي الابتدائية).
6- عليك بالصحبة الصالحة (جزء من وصية طويلة لامرأة مباركة أجهل اسمها).
7- عليك بالتأمل الصادق (أحد الأصدقاء الأعزاء).
8- كن رجلًا 
وشيمة الرجال الحفاظ على وعودهم، والصبر حين البأس، وشجاعة القلب عند مواجهة المخاطر. 
9- كن صادقًا 
فالصدق علامة المؤمنين. 
10- اعترف بأخطائك وانسبها إلى نفسك 
11- اعرف أين توجه مشاعرك (أحد الأصدقاء).
12- العدل قبل الإحسان (حامد الحاج).
13- احرص على الخشوع في الصلاة فليس ما يفوتك بأعظم من الصلاة (أحد الإخوة المباركين).
14- الخطة التي ليس فيها حساب للمخاطر خطة غير مجدية (وصية والدي).
15- عليك بواجب الوقت، ولا تنشغل بالنافلة عن الفرض (وصية والدي).
16- لا تغتر بالجماهير في النت، فلا أحد منهم يهتم بك حقًا ويكترث لشأنك، وهم ينسوك بمجرد انتهاء قراءة ما كتبته (والدي).
17- لن تستفيد شيئًا من القلق، اعمل على ما تستطيع فعله الآن، وانس الباقي (أحد أصدقاء الدراسة).
18- عودوا أنفسكم على الكرم ولو شيئًا بسيطًا، قد دعاني ولد صغير إلى بيتهم بعد أن أوصلته إليه، كانت مبادرة حسنة منه تدل على ثقته بنفسه (مشرف سابق في الحلقة).
19- لا تكتب إلا على قدر الحاجة 
إياك وأن تمتهن الكتابة لأجل التسلية أو المجد الشخصي، واجعلها وسيلة لغاية أرفع وأسمى من الغايات الدنيا التي يتعارك الناس لأجلها. الكتابة الحقة تنبع من دافع الحاجة لا الفراغ. والصادق العاقل من يدرك ذلك بنفسه، فلا يتهافت على موضوع سخيف ساقط لمجرد قدرته على الإطناب فيه، وإظهار قدراته اللغوية. 
ولئلا أطيل بذكر الوصايا، فالوقوف على ما كتبته هنا خير وكافٍ بإذن الله، وهو دال على ما لم أدركه أو نسيته وغاب عن ذهني. 
-
وهذا آخر ما وصلت إليه من الوصايا التي أحسبها جامعة ونافعة، فإن أطال الله العمر وأحسن ما بقي من العمل، أصلحت هذه المسودة ونشرتها وصية أخيرة لا مزيد عليها. 
اللهم ارزقني حسن الخاتمة وبارك فيما بقي من عمري. 
البراء بن محمد 
الأحد 1439/7/29هـ
2018/4/15م 





السبت، 24 مارس 2018

ثمانية حكم من تحقير مصارع عتاة الكفار

بسم الله الرحمن الرحيم 
الحمد لله ناصر المؤمنين مخزي الكافرين، والصلاة والسلام على نبيه الهادي الأمين وآله وصحبه وأجمعين. 
أما بعد، 
فإن للموت هيبة يجدها كل إنسان في نفسه، غير أن ميتة الشجاع الكريم ليست كميتة الجبان اللئيم، وفي كلٍ عبرة وعظة للعقلاء. وعوائد الناس تخبرنا أن قوة هيبة الموت تجعلهم يميلون بقصد أو بغير قصد إلى تعظيم الميت، والإسهاب في ذكر محاسنه لداعٍ ولغير داعٍ. وليس الشأن في ذكر سير الصالحين المتقين للتأسي بهم، والترحم عليهم، والتصدق عنهم، ولكنه في رفع مكانة المجرمين الظالمين، وتلميع صورهم التي تلطخت بقذارة أفعالهم. وفي هذا تطبيع للجريمة والضلال، وتحسين للقبيح، وتعويد النفس على الخسة والوضاعة. وكل ذلك يهون عند تجاوز محكمات الشريعة وقطعياتها باتباع العاطفة العمياء، فتجد أحدهم يترحم على أعداء الله الكافرين، والآخر يفرش لهم صراطًا إلى الجنة، وأحسنهم حالًا (وكلهم فاسدو الحال) من يختزل سيرة الرجل في أعماله الدنيوية ويتجاوز كفره الظاهر، وتصريحه بعداء الله وأوليائه، أو يدّعي جهله ولاأدريته بحال الرجل لأنه ربما مات على دين الله وشرعه.
ولم يكن هلاك الملحد المحاد لله ستيفن هوكينج استثناءً، بل كان أعظم فتنة لكثير من المنافقين وضعيفي الإيمان، فمن قاطعٍ بأنه خير عند الله من مسلم معين، وآخر جازم بأنه في الجنة، وثالث يترحم عليه، ورابعٍ يعظمه ويبالغ في مدحه، وهكذا يزداد المفتونون الضالون. 
لكن لم تكن الحياة خلوًا من رجال غيورين للحق، قائمين بأمر الله، مصرحين بشرعه لا يهابون في ذلك إرجاف الجبناء، ولا ينساقون خلف شبهات مطموسي البصيرة ورقيقي الديانة. وهؤلاء هم بقية الخير في الأرض، والنور الساطع في وسط الظلمة الكالحة. فنسأل الله أن يعينهم ويزيدهم من فضله وبركته. 
وتأسيًا بهؤلاء الأكارم الأخيار، أحببت أن أبين المصالح العظيمة في تحقير مصارع الكافرين أعداء الله (وأخص منهم من ظهرت عداوته لله بإمعانه في الباطل ومجاهرته به وفتنة الناس به)، وما في ذلك من الحكم البالغة التي تنقل معركة الحق والباطل إلى الهجوم على المبطلين، عوضًا عن ترقب هجماتهم على الدين.
وهذه الحكم بينها تداخل ظاهر، وليس هذا بمانع من اختصاص كلٍ منها بوجه معين.
1- موعظة الموت: 
قال تعالى: ((قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون)) [الجمعة/8]
إن الموت واعظ لكل من غرق في غفلته، وأعمته شهواته عن تبصر الحق. كيف لا وهو يهدم اللذات ويقطع الشهوات ويقرّب النفوس من رؤية الحقائق التي توارت خلف ظلمة الأهواء الكالحة. لكننا ننسى الموت ونغفل عنه كثيرًا لأن أملنا أطول من أجلنا الذي لا نعرف نهايته. نبذر البذرة ونحن ننظر إلى النبتة التي ستنتج عنها، ونأكل الأكلة ونحن نترقب هضمها والتخلص من فضلاتها. وننام ملء الجفون أملًا في بزوغ شمس الصباح. كل هذا والموت غائب عن الذهن. وفي مصرع الكافرين أبلغ مذكر بالموت وأنه لا يستثني أحدًا من الخلق مهما طال عمره.

2- التزهيد في الدنيا:
قال تعالى: ((وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون)) [الأنعام/32]
ينبغي أن يكون هلاك عتاة الكافرين واعظًا لمن غرق في دنياه باللهو واللعب أن يرتدع ويكف عن باطله. فقد رأى في مصارع الظالمين ما يعكّر أحلامه الوردية التي تصبغ واقعًا مختلفًا عنها تمامًا. يجب أن يعلم الكافة أن الدنيا بمبانيها، ومنجزاتها، وتطورها لا تعني عند الله شيئًا ما لم يكن ذلك مقصودًا لإرضائه سبحانه وتعالى. مهما تنامت ثروتك، وتزايدت شهواتك، فكلها تساوي صفرًا في الميزان الإلهي. إن تضخيم إنجازات كافر بالله وتهوين كفره جريمة لا تغتفر. ولمحو آثار هذه الجريمة الشائعة، فإننا نذكر الناس بأن دنيا الكافرين هي جنتهم الزائلة التي يعقبها جحيم أبدي لا يملكون له تخفيفًا ولا يستطيعون منه هربًا.

3- تذكير الناس بغاية الله من خلقهم:
قال تعالى: ((وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون * ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون)) [الذاريات/56-57]
صدق الله العظيم. فأنى لمحاربٍ لله ورسوله أن يحقق غاية الله من خلقه وهو مقيم على كفره وفجوره؟ وهل يصح وصف هذا بالناجح في حياته؟ وهل ينبغي أن يكون قدوة لمن هو دونه؟ بل هلاك أمثال هذا هو أكبر دليل على فشلهم وسفالتهم وأن حياتهم ضاعت هدرًا فيما لا ينبغي لها.

4- تحقيق البراء من الكافرين:
قال تعالى: ((لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آبائهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم...الآية)) [المجادلة/22]
وهلاك رؤوس الكفر والضلالة أولى فرصة باستغلالها لإظهار بغض الكفر وأهله، وأن تلك الحمية والغيرة هي لله عز وجل ومحارمه التي انتهكها أهل الأهواء والضلالات.

5- تصحيح معايير الناس في الحكم على الأشخاص:
قال تعالى: ((إن أكرمكم عند الله أتقاكم...الآية)) [الحجرات/13]
لا يتذكر الناس هذه الآية إلا في سياق محاربة النزعات الجاهلية التي ترفع أقوامًا وتخفض آخرين لاعتباراتٍ أبطلها الشرع كاللون والتعصب القبلي ولكنهم لهوى في أنفسهم لا يتذكرون أعظم نزعة جاهلية وهي التعصب للدين الفاسد الذي لا يرضاه الله. بل هم أول من يبطل محاكمة الكفار إلى معيار الله بدعوى أنهم معذورون بجهلهم، وأن أعمالهم الدنيوية التافهة تشفع لهم عند الله!
وفي تحقير مصارع الكافرين أعظم بيان للمعيار الشرعي الذي يُحاكم الناس إليه وهو تقوى الله. إن أفسق مسلم على وجه الأرض خير من ألف ألف كافر محسن إلى الناس بأمواله، لأن شيئًا من تقوى الله ومحبته قائم بنفسه، بخلاف تلك النفوس الخبيثة التي ما عرفت الله وجحدت حقه سبحانه وتعالى.

6- كسر الهوى في نفوس الأتباع:
قال تعالى عن فرعون: ((فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوم فاسقين)) [الزخرف/54]
لم يتمكن فرعون من إضلال قومه لولا سفاهتهم وأهوائهم التي صرفتهم عن عبادة الله وحده إلى عبادة مخلوقه الحقير الذي رفع نفسه إلى مرتبة الألوهية. ونظائر فرعون كثرٌ في التاريخ، فهم طواغيت يرتقون فوق رؤوس أتباعهم السفهاء. وفي مصرعهم آية لمن اغتر بهم لهواه ومرض نفسه. ألا ترى كيف كان مصرع قارون صفعة لمن اغتروا بظاهر ما امتلكه من الدنيا واكتفوا بذلك عن باطنه الخَرِب الذي يخلو من تقوى الله ومحبته.

7- الاعتزاز بالدين وتعظيمه في النفوس:
قال تعالى: ((ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين)) [آل عمران/139]
وفي تحقير مصارع الكافرين تذكير لأهل الإيمان أن عزتهم إنما هي لإيمانهم بالله، وأن غلبة الكافرين بأموال الدنيا وقوتها إنما هي مؤقتة لا تدوم، ثم تكون عليهم الذلة والصغار، والعذاب المهين في الدنيا والآخرة.

8- التذكير بالإخلاص:
قال تعالى: ((من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذمومًا مدحورًا)) [الإسراء/18]
وما من شك أن عتاة الكافرين أكثر الناس حرصًا على الدنيا وعلى الإعراض عن الإخلاص لله تعالى، وأن كل ما يفعلونه إنما هو لإرضاء شهواتهم الحسية والمعنوية. وتحقير مصارعهم فيه تذكير بضرورة الإخلاص لله كي لا تؤول محاسن الأقوال والأفعال إلى عواقب مرذولة وتكون عديمة الحاصل والمردود.

اللهم أمتنا على دين الإسلام، وملة إبراهيم عليه السلام، واحشرنا مع الأنبياء والمتقين والصالحين.
البراء بن محمد
السبت 1439/7/7هـ
2018/3/24م